الشلليَّة
يأخذ الحديث عن القبيلة في كتابات المهتمين بالشأن اليمني مدى طويلاً، وعادةً ما يتوجَّه هؤلاء بالنقد لسلبيات القبيلة في تداخلها مع الدولة وما يخلُقُه هذا التداخل، في حين يتناسى هؤلاء الحظ الحسن! الذي أصاب المشهد الثقافي من تغلغُل القيم ذات البُعد السالب بين المثقفين، والتي جاءت في الأصل من هناك.
وتُعد الشللّية أبرز هذه القيم بعد أن تحلّلت الدولة الى عناصرها الأولية.. قبلية ومناطقية، فعلى المستوى الشعري (موضوعنا) على اعتبار أن الشعر هو الذي يحمل جينات الروح العربي حسب صلاح فضل، على هذا المستوى للشعراء على كثرتهم وقلة الشعر تنظيمات غير معلنة (شَِلل بفتح الشين وكسرها) تقوم على مفارقات يعد التهجم على الآخرين أقل معايبها، ناهيك عن اختلال الميزان القيمي للنقد الذي عادةً ما تمارسه الشلِّة أو صاحب الصوت الأكبر فيها، ففلان شاعر شاعر لأنَّه عمودي وقبيلي أو جبيلي في نفس الوقت، فلان آخر العمالقة (لعلَّهم يقصدون العماليق) لأنَّه يكتب قصيدة النثر واستطاع في سنوات قليلة أن يحقق قطيعة معرفية (هكذا دفعة واحدة)، فهو لايتكئ على القديم ولا يعتمد كلام الكتب، وليس متكِلاً على (سيبويه) والأدهى من هذا أن نجد صاحب هذه الرؤية التي تهجّم فيها على الماضي والتراث واعتبره تقليداً واجتراراً.
الأدهى أن نجده يصحو فجأة ربما لوخزة تلقّاها من شخص التقى به وحدّثه عن أحد القدامى، فقال له إنَّه فلتة وإنّه وحيد زمانه وأنَّه وأنَّه…. الآخرون فلم يقولوا شيئاً ثم تلقاه بعد زمن يحدّثك عن شخص آخر من الأقدمين (فلتة أيضًاً) اكتشفه بنفس الطريقة السابقة فيقضي أيامه يذرع التحرير ذهابًا وإيابًا وقد ضمّن القائمة عدداً لا بأس به من الفلتات أو (الزقرات) الذين يتكاثرون في رغائه يوميًا وهو يتباهى أمام أفراد العصابة.
من مثل هذه البوابة دخل كثيرون إلى الساحة، وتسللّت إلى الأذهان أمثلة تجريدية لصور ومواقف لا دخل لها بالشعر إلا أن صاحبها (كاتب وروائي وشاعر وناقد وقاص وصحفي وصاحب دار نشر ويُصلِّح ساعات.. إلخ) تمامًا مثل المرحوم الذي دخلت العبارة الأخيرة إلى خطابات عزائه .
ولأنَّ الجمهور أصبح لا دخل له بالثقافة بسبب كل ذلك، فإنَّه يبتعد يومياً بشكل مفجع عن الثقافة لتصبح النخبة هي الجمهور أو المستهدف لذا فهم (نحن) المتلقون والكتاب والنقّاد والشعراء مما يهدد (بل يبشر) بنشوء لغة جديدة، ربما هي في طريق تشكُّلها، لغة تنبع من قلب الناس ومن إبداعاتهم وأغانيهم، وحينها أين سيذهب الجميع بمطبوعاتهم وأين سيذهب عبادي بالطبعات التي مازالت في المخازن بل أين ستذهب وزارة الثقافة بمطبوعات صنعاء (2004) بغض النظر عن إبداعيتها.
ليس عيباً أن يجتمع الشعراء في مقايل وأن يقرأوا فيها شعراً ويقيّم كل شاعر الآخر، على العكس فإن ذلك يفيد شأن المنتديات في كل العالم وإن كانت المقايل تحرم المبدعات من الحضور لكن تنصيب شيخ على المقيل ينسف الفكرة من أساسها لأنَّ على الجميع التسليم المسبق بشاعريةالقُطب (مع احترامي الشديد لمصطلح القطب) فهو الذي ينحت الصور الجديدة نحتاً، ومن حقه إقرار شاعرية فلان ورفض آخر.
وهذا بدوره يخلق نمطاً آخر من أنماط العنف الثقافي / قبلي متمثلاً في مبدع يعد نفسه نبتاً شيطانياً ومتفرداً في آن (وهذا في حد ذاته خلاّق) لكنه- وهذه هي المصيبة- يمارس نفس السلوكيات القبلية المرذولة وربما أعتى، وربما كانت تصريحاته محرضةً للبعض على عدم التسليم بسلوكيات العلم منذ بداية المرحلة حتى قبل أن يعرفوا شيئاً مستندين إلى جهل مريع (توصيف مثالي اعتذر عنه) فنجده يلقي تصريحاته الهوجاء يميناً وشمالاً دون أن يعبأ بأحد وكأنَّ الجميع دُمى يحركها بيده ولست أنسى يوماً وقف فيه أحدهم يتباهى أنه مزج في قصيدة له كلمتين واشتق منهما مصطلحاً جديداً فقال (زمكان) بعد أن مزج الزمان بالمكان ..(هههه) أنت فين يا راجل، ما الكلمة ممزوجة من زمان.
وهناك الكثير من الدراسات من سنين خلت تتحدث عن الزمكانات
فالمصطلح قد استهُلِك نقدياً فما بالك بشعريته.الشلِل بشكل عام أو الاستفراد الذي يخلقه ” القرف ” من الشلّة (في الطرف الآخر) تمهيداً لتأسيس شلّة أخرى، كل هذا قد ينفي عن المشهد مبدعين لهم قدرات وفضاءات لا محدودة، وقد يجلب أدعياء لا صلة لهم بالأدب ولا بكثرته وإن كان هناك من يشكو من الإقصاء السياسي فماذا عن الإقصاء الثقافي في مثل هذه الحالة (أفيدونا أفادكم الله).
ولقد حدثني أديب يمني كبير زار القاهرة مؤخراً كيف أنه تلقى دعوة من أحد الشعراء (يمني هو الآخر) وفي غرفته بالفندق أخذ يقرأ عليه نصوصه الجديدة – المليئة بالأخطاء اللغوية و ….. حسب المصدر – ورغم ذلك – حسب المصدر أيضاً – كان يؤكد له أن في هذه النصوص شغل لغوي إلى درجة كاد يغمى فيها على صاحبنا الأديب الكبير قائلاً في نفسه: (أي شغل على اللغة هذى اللي طحنت أبوها طحن) .
إن هذه التناقضات تبني مجتمعاً أدبياً حافلاً بالعصبيات والحميات تسيطر على ذهن الكثير من أفراده فكرة أن يكون لسان حال الجميع إما الشكوى أو التبجُّح بانتصارات نسبية لا معنى لها في قاموس الذوق الإبداعي.. وقد يقول قائل: ماذا عن التنافس وإبراز القدرات ؟ وهو تساؤل مطلوب فالتنافس قيمة لا إبداع بدونها ، فليكتب الجميع وليشكو الجميع أيضاً حسب د/ محمد عبد المطلب الذي يرى أيضاً أن تبادل الفهم نوع من تقليب التربة الأدبية والثقافية لتصبح صالحة للإبداع.
نعم إن عدم الرضا يخلق محاولات للاكتمال غير أنَّ التوجه بالنقد للأشخاص أنفسهم مرفوض في السائد والمتحرر الإبداعي منذ القدم، وفي كل الثقافات ولعلَّ في التجريح للأشخاص كأشخاص أو كإبداعات – بشكل غير موضوعي في الجانب الأخير – مظهر أنتجته الشللية كنمط قبيلي يقوم عادة على نسف الآخر، وهو نمط يستدعي العنف (كمبدأ مرذول) كان في السابق يؤدي دوراً كما يقول جورج باوس ( حين كان الشر مقبولاً لإثبات الذات وتحقيقها وذلك في فترة الشهيد والفارس) مما يعيدنا إلى الوراء سنين ضوئية في حين تحسب الشلل أن في الأمر إنتاجاً للجديد.
ولعلَّ الطريف في الموضوع أن بعض من يدعون إلى رفض الولاءات بالنسبة للشعراء على الأقل يخلقون ولاءات لأنماط عفى عليها الزمن وتجاوزتها حتى العامة.
ربما أكون قد ذهبت بعيداً لكن هذا هو الواقع بل لقد كادت تتأكد مقولة أن الأدب عمل من لا عمل له وإن كنا لا نسلّم بذلك.
إن غياب المبدع الفاعل عن المشاركة والتفاعل قد أدى بدوره إلى نشوء مثل هذه الظواهر وإن كانت تصدر ممن كانوا مبدعين يوماً ما.
إن الشلل (بمعناها السلبي) تنتج أدباً هزيلاً وإن كان بعض من ينتمون إلى هذه المجموعات قد أبدعوا شيئاً من قبل فلأنهم هم لا لأنَّهم الفِرقة الأولى شعراء.
شعراء مناهج اللغة العربية:
تساؤل موجه لوزير التربية والتعليم ولجنة المناهج بالوزارة هو: أين المبدعون الكبار وأشعارهم في مناهج اللغة العربية، ين المقالح، البردوني والشرفي، وأين المبدعون الجدد ؟؟
بصراحة لقد تحولت مناهج اللغة العربية إلى ما يشبه استعراضًا لقصائد مؤلفي المنهج (انظر على سبيل المثال مناهج: لغتي العربية سابع وثامن وتاسع وسترى عجبًا، وهذا نمط قبلي آخر ربما كان سببه تخزينة في وزارة التربية أو عند أحد الشعراء الذين لا يعرفهم أحد سوى المسئول المالي بالوزارة، ويعرف أسماؤهم أيضاً مدرسون (غلابا) قال لهم الموجهون إن هذه القصائد تكلم عنها بلوم وجون ديوي وشيخ الغزال ماذا نقول عن هذه المناهج التي تمارس نوعاً من الإقصاء للإبداع، ولعلَّ ما حدث أخيراً في إسرائيل وفي وزارة التربية والتعليم عِبرة في هذا الشأن حين ارتأت (تاميز) وزيرة التربية والتعليم في اسرائيل أن من حق عرب فلسطين أن يقرأوا عن 48 م و 67 م من وجهة نظرهم أنَّها نكبة وأدخلت ذلك في المنهج رغم ثورة المتطرفين اليهود في الداخل والخارج.
ثقافة الأحزاب:
كما يعلم الجميع أصبحت الثقافة في الهامش من اهتمامات الأحزاب في اليمن لماذا؟؟ هل لأنَّ الكثير من مقاصيف العمر المثقفين الحزبيين قد اعتزلوا الأحزاب؟؟ أو أنَّ الأحزاب نفسها قد رأت أنه لا بُدَّ من قبيلة الحزب تمهيداً لتقبيله (توجيهه للقبلة).
ولماذا تضيق أحزاب المعارضة بالمثقف مثلها مثل السلطة تمامًا، لماذا نحن دون سائر خلق الله كل شيء مختلف عندنا؟
*قبائل النت:
كعادتنا في اليمن نخطو بسرعة تجاه أي شيء، لقد هبّ كثيرون لملء الفضاء بالقبائل المتوحشة (المسماة بالمواقع والمنتديات الإلكترونية) رغم جدية عدد منها إلاَّ أنَّ نمطًا من الالتزام بمقولات الخارج غير النصي والداخل المتوحش يضع تراكمات من الحجب أمام العيون وهو أمر ربما نتناوله في مقالة لاحقة.
وصفوة القول : حتى يصبح الأدب تعبيراً عن الكل لا عن الجُزء، بعيداً عنا في حالات كهذه قريباً منا في تحررنا من الولاءات سوى الانتماء للنص – أدباً لا يقوم على نسف الآخر والاستعلاء عليه وكيل التهم وتيئيس الآخرين من إبداعاتهم وأنفسهم وتكرار الأحكام النقدية الجاهزة وإلصاقها بالنصوص الجديدة والإلحاح على الصيغ الشفافية التي تقف ضد الحقيقة منذ القدم فما بالنا بالإبداع كعالم نهائي لا يقبل الوصاية والتلقين.