كتابات

الثقافة و المدينَّة الغـائبة

الثقافة و المدينَّة الغـائبة - أحمد السلامي -انزياحات
الثقافة و المدينَّة الغـائبة - أحمد السلامي -انزياحات

نتساءل في اليمن باستمرار عن أسباب فشل الحركة الثقافية في تأسيس وسط ثقافي فاعل، ونتحدث بأسف عن اختفاء قاعات العرض السينمائي، و اقتصار الفعل الثقافي بصفة عامة على الأفراد، سواء من حيث الممارسة أو التلقي.

 

نتحدث مطولا عن هذا الشأن، ثم نذهب في تحليل الواقع الثقافي البدائي في هذا البلد إلى القول بأن الصراعات السياسية هي السبب، وأن انعدام الاستقرار لم يوفر بيئة صالحة لخلق مشهد ثقافي يحافظ على التراكم ويبني على ما سبق. بينما نحن في الحقيقة مستقرون تماماً في التخلف ولا نزال نصفق له منذ عقود.

 

صحيح أن لمعارك السياسة ومشاغلها في أي دولة أثر سلبي يؤدي إلى خنق مساحات التعبير بلغة الفن، مقابل تجييش الناس لخوض الجدال السياسي وتتبع الاصطفافات. غير أن التأمل يقودنا إلى اكتشاف أن غياب الاستقرار و مراوحة البلد بين فترات الصراع ليس سببا كافيا لتعطيل حركة الفن والأدب والتطور الاجتماعي عموماً، العديد من الدول شهدت و تشهد حروبا وصلت بعضها إلى درجة الاحتلال كما هو الحال في العراق، لكن الحياة الثقافية رغم ذلك تظل تنتج ما يعبر عن تفاعلها مع الأحداث، من خلال الشعر و الشريط السينمائي والعمل المسرحي والرواية.

 

ذلك يعني أن مختلف أشكال الفن والإبداع وإن كانت في مبتدأها حصيلة مواهب فردية، إلا أنها تتفتح وتزدهر حين تحتضنها بيئة صالحة لاستهلاك المنتج الثقافي وتشجيع منتجيه على الإبداع، وصولا إلى انتقال المبدعين أنفسهم إلى مرحلة احتراف ما كانوا يقومون به من قبل على سبيل الهواية.لنتخيل أن شابا في اليمن قرر التفرغ لكتابة السيناريو السينمائي وهو لا يملك أي مصدر للدخل.

 

إن خطوة كهذه سوف تؤدي به حتما إلى العجز عن شراء الخبز لأسرته!أعني أن احتراف الفن والإبداع لا يتأتى إلا في وجود جمهور يستهلك المعطى الإبداعي، وكذا في وجود مؤسسات معنية بالاستثمار في مثل هذه الحقول.والحديث عن الاستثمار في قطاع الفن والثقافة يفترض بداهة وجود شباك تذاكر ومكتبات وصناعة فنية وشركات إنتاج تعرف كيف تستثمر شغف الجمهور بالرواية والمسرح والسينما والحفلات الغنائية الجماهيرية. وهذا ما يحدث بالضبط في مدن مثل القاهرة وبيروت والدار البيضاء وغيرها.

 

 

في المقابل تعالوا ننظر إلى مدينة مثل صنعاء باعتبارها عاصمة البلاد ومحط رحال الكثير من الوافدين الذين يشكلون كثافة سكانية كبيرة. هذه الكثافة العددية لسكان العاصمة صنعاء لم تتجاوز كونها مجرد أرقام ولم يترتب عليها بروز أي نوع من الملامح التي تتصف بها المدينة الحديثة.أي أن الكثافة السكانية في صنعاء لم تخلق مدينة معاصرة، وليس لصنعاء من صفات المعاصرة والحداثة سوى الزحام والتلوث ونمو الأحياء العشوائية.

 

ذلك يعني أن الأنظمة التي حكمت اليمن طوال العقود الماضية لم تفشل في تنمية المناطق الريفية فحسب، بل فشلت حتى في تنمية المدن التي كانت مؤهلة نسبيا للتطور، لدرجة أن مدنا مثل صنعاء وعدن والحديدة و تعز تحولت إلى قرى كبرى لا تحوي من قيم الحداثة والمدنية ما يؤهلها للانتماء إلى هذا العصر، ولا يطمح سكانها إلا في التزود بالكهرباء والماء.

 

و البلد الذي يبقى محكوماً بساسة و زعماء ينتمون للماضي وصراعاته ينتج كذلك تجاراً ومستثمرين محافظين إن لم نقل متخلفين، وبذلك تتواطأ النخبة مع الواقع ليستمر التخلف وتغيب الثقافة كما يندر استهلاك المنتج الثقافي. من دون استهلاك المجتمع للمنتج الثقافي لا تزدهر الثقافة، كما لا يفلح المثقف في تحقيق قدر معقول من الاستقلال الاقتصادي بالاعتماد على الذات، وبعيداً عن الحاجة إلى تأجير مواهبه لهذا الطرف السياسي أو ذاك.