كتابات

“بيت الشعر” الذي شتت قبيلة عربية عريقة ومحاها مثل سيل العرم

بلغ الشعر في العصر الاموي ذروته في أربعة شعراء كانت لهم السيادة كلها: الفرزدق ـ جرير ـ الأخطل ـ راعي الابل النميري.

 

ولئن حل الفرزدق في المرتبة الأولى في الوصف والفخر وفخامة الألفاظ فإن الإجماع واقعٌ على ان جرير قد فاق اقرانه في الهجاء والغزل والرثاء. ولذلك اجتمع الثلاثة عليه ( على جرير) فأسقط جرير ” راعي الابل” بهذا البيت وشتّت قبيلته ومحى ذكرها من الوجود وهي التي كانت ( اي بنو نمير) جمرة من جمرات العرب الثلاث:

 

فغض الطرف إنك من نميرٍ

فلا كعباً بلغت ولا كلابا

 

جاء هذا البيت ضمن قصيدة هجاء نارية رداً من جرير على قصيدة لراعي الابل النميري الذي ساند فيها الفرزدق وفضله على جرير

ومطلع قصيدة راعي الابل ضد جرير:

 

ألم تر ان كلب بني كليبٍ

أراد حياض دجلة ثم هابا

 

هذا البيت دفع بجرير لأن يجهِّز قصيدته الشهيرة التي سماها الدامغة وألحق بالشاعر ابو جندل بن حصين النميري ( المعروف براعي الابل) ألحق به هزيمة ساحقه وطارت القصيدة في كل مكان.

 

كانت فداحة ابو جندل مرعبة: غيّرت بنو نمير اسمها وانتسبت الى جدها الاول عامر بن صعصعة بدلاً من بنو نمير و اغلب افراد القبيلة هاجروا وكانوا حيثما نزلوا منزلاً يجدون هذا البيت امامهم مطبوعٌ على ألسنة الناس: مثل لعنة سيل العرم.

 

قيل ان راعي الابل انزوى بعد هذه القصيدة ومات في نفس العام قهراً. وهو شاعر فحل مجيد عده البعض ضمن طبقة الكبار إلا ان مكانته الاجتماعية انحطت وسقطت منزلته في الشعر وخمل ذكره بعد قصيدة جرير الدامغة.

 

تغلب جرير على جميع الذين هاجوه فقضى عليهم وخمل ذكرهم ما عدا الأخطل والفرزدق ” لانهما اجتمعا عليه ولو تفرقا لغلبهما”.

 

كان بشر بن مروان والي الكوفة يحرض الشعراء على بعضهم ويذكي بينهم نار الهجاء مستمتعاً وباذلاً الاموال لمن يتفوق.

 

كان جرير قد ترجى راعي الابل ان لا يساند الفرزدق وان يلتزم الحياد وكان قد التزم له ووعده مراراً بأن يبقى بعيداً الا ان الفرزدق استعان بقريب لراعي الابل اسمه عرادة النميري ان يقنع راعي الابل بهجو جرير فأقنعه لقاء عزومة غداء دسمة رتب لها الفرزدق في بيته.

 

وعندما قصد جرير البصرة عاتبه الا ان راعي الابل تحت تحديات ولده ابو جندل عاد لهجاء جرير للمرة الثالثة في صورة المتردد لكن غير المكترث وأوجع جرير فـ”جنت على نفسها براقش”.

 

قيل ان الفرزدق وهو يستمع باهتمام الى جرير إذ يلقي قصيدته الدامغة امام حشد كبير وسط السوق قال عندما وصل جرير الى البيت اعلاه : فغض الطرف انك من نمير.. قال: ودّعت بنو نمير الحياة.

 

ولم ينجو الوسيط ” عرادة النميري” من نيران جرير الذي خصص له هذا البيت:

 

عرادة من بقية قوم لوطٍ

ألا تباً لما عملوا تبابا

 

انتهى أمر راعي الابل ابو جندل النميري.

وفي احدى المرات وجه بشر بن مروان وكان والياً على الكوفة دعوة للشعراء الثلاثة : الفرزدق وجرير والاخطل.

 

وعندما اجتمع الثلاثة الكبار لدى بشر بن مروان طلب بشر من الاخطل التغلبي ان يحكم بين الفرزدق وجرير وألح عليه وهو يحاول الاعتذار . فقال الأخطل:

” الفرزدق ينحت من صخر وجرير يغرف من بحر”.

 

لم يرض جرير بهذا الحكم لأن مدار الشعر الجيد في ذلك العصر في متانته وصلابته وليس في السهولة.. وبدأت العداوة بينهما : الاخطل وجرير.

 

كلاهما قويان. وكلاهما له تأريخ من الضحايا.

 

فالأخطل هو ايضاً قضى على الشاعر عبدالرحمن بن حسان بن ثابت بإيعاز من يزيد الذي غار على اخته برملة بنت معاوية حيث نشأت بينها وبين عبدالرحمن علاقة عشق فاستنجد بأكثر من شاعر لهجو الأنصار وشاعرهم عبدالرحمن بن حسان إلا ان الشعراء اعتذروا اليه خشيةً من ابيه وهروباً من ردة الفعل المتوقعة: غضب الناس.

 

احد شعراء تغلب استسمح يزيد عذراً ودلّه على الأخطل وكان الأخطل نصرانياً يعيش في الجزيرة الفراتية والى تلك اللحظة ليست شهرته ذائعه.

استدعاه يزيد وأعطاه المال وضمن له الحماية. وقال له: اهجو الانصار.

 

فهجا الأنصار وشاعرهم عبدالرحمن بن حسان بقصيدة من بين ابياتها :

 

خلوا المكارم لستمُ من اهلها

وخذوا مساحيكم بني النجارِ

ذهبت قريشٌ بالمكارم كلها

واللؤم تحت عمائم الأنصارِ

 

وبذلك أصيب عبدالرحمن بن حسان اصابة نفسية بالغة وثارت الأنصار غاضبة وهرع زعيم الانصار وكبيرهم النعمان بن بشير من حمص الى دمشق ومعه كبار الانصار واعيانهم ودخلوا على معاوية الذي كان غاضباً هو الآخر من تصرف يزيد. ورمى النعمان بن بشير عمامته في ديوان معاوية وقال له :

” يا معاوية انظر الى صلعتي هل رأيت لؤماً”.

وتدارك معاوية الامر وخفّض من حدة التوتر وقام بإرضائهم لكن شهرة البيت طارت الآفاق. وانزوى عبدالرحمن بن حسان ورجع الى المدينة ومكث بها حتى النهاية.

 

في مجلس بشر بالكوفة بعد ان مالت كفة حكم الاخطل لصالح الفرزدق على جرير.

وقف جرير وقام يهجو الاخطل بهذه الابيات الشديدة لولا ان الاخطل رد عليه في الحال واتقاه بثلاثة ابيات وإلا لكانت القاضية.

هجاء جرير للاخطل:

 

ياذا الغباوة إن بِشراً قد قضى

ألاّ تجوز حكومة النشوانِ

فدعوا الحكومة لستمُ من أهلها

إن الحكومة في بني شيبانِ

قتلوا كليبكم بلقحة جارهم

يا خُزر تغلب لستمُ بهجانِ

 

رد الأخطل على جرير:

ولقد تناسبتم إلى أحسابكم

وجعلتمُ حكَماً من السلطانِ

فإذا كليب لا تساوي دارماً

حتى يساوى حَزرَمٌ بأبانِ

وإذا وضعت أباك في ميزانهم

رجحوا وشال أبوك في الميزانِ

 

وبذلك نجا الأخطل وطار الهجاء بينهما ( الاخطل وجرير). وخفّت حدة الهجاء بين جرير و الفرزدق الذي كسب الأخطل الى صفه بعد خسارته راعي الابل. وكان جرير يواجهما بلا معاون في مشاهد وقصائد متكررة شديدة و متكافئة.