كل قصيدة تجسد مزيجا من الحنين، الفقد، والبحث عن الهوية في مواجهة الفوضى والعدم
المحرر الثقافي
هذه المختارات الشعرية لمحمد حسين هيثم تظهر مدى عمق وجمالية تجربته الشعرية. يتناول الشاعر في قصائده مواضيع متعددة تشمل التغريبة اليمانية، الفوضى، الذل والنصر، وأثر الزلازل على الروح. كل قصيدة تجسد مزيجا من الحنين، الفقد، والبحث عن الهوية في مواجهة الفوضى والعدم.
تبدأ المختارات بقصيدة “تغريبة يمانية” التي تعكس رحلة الشقاء واليأس، حيث يسير الناس بلا اتجاه واضح، يطاردهم الخوف والذكريات المريرة. القصيدة تحمل إشارات إلى الهجرة والتيه، وتشير إلى حالة من الضياع الذي لا ينتهي.
قصيدة “جان دمو” تستحضر شاعرا عراقيا راحلا يعيش في عالم من الفوضى والغربة، حيث يتناول الفوضى النظامية والشغف بالأشياء التي لا معنى لها. القصيدة تحمل في طياتها نقدا للوضع الاجتماعي والسياسي الراهن.
أما “عدن”، فهي رسالة إلى ابنه، يتحدث فيها عن مدينة عدن بملامحها الحزينة والمشرقة في آن واحد، بين الضحك والدموع، وبين الأمل والخسارة. تنقل القصيدة حب الشاعر لهذه المدينة، مع الاحتفاظ بنغمة من الحنين والافتقاد.
في قصيدة “الجن”، يستخدم الشاعر رمزية بلقيس وسليمان لتجسيد قوة السحر والخرافة، وكيف أن القوى الغيبية قد تأسر الإنسان وتبعده عن واقعه. القصيدة تعكس صراعا بين الحقيقة والوهم.
وتختتم المجموعة بقصائد مثل “فواتير”، التي تعبر عن تسديد الديون للحياة، و”فوضى”، التي تجسد حياة الإنسان في عالم مليء بالفوضى والعبثية. كل قصيدة تطرح تساؤلات حول الوجود ومعنى الحياة، مما يجعل هذه المختارات مرآة حقيقية لأفكار وهواجس الشاعر.
(١)
تغريبة يمانية
طباعة
[إلى سعدي يوسف]
ساروا على زفراتهم
ساروا بلا شمس
وقد قطفوا الهواء من الخرافة
أو أمالوا للفخاخ نجومهم
ومضوا
تناؤوا
ساروا وقد عصبوا الظلال على خناجرهم
وكان حنينهم طرقاً مطوحةً
وبين رعودهم ملح وأسماءُ
ساروا
وساروا
سربهم حفلٌ من التيه
وهذا الماء مطفأ
والكلام تناسل النسيان
والخطوات صحراءُ
ساروا سرايا
في صباحٍ خاثرٍ
صحراؤهم سارت وراءهمو
وسارت ذئبةٌ
سارت أفاعٍ
سار غيمٌ يابسٌ في ركبهم
سارت سماءُ
ساروا خفافاً ربما
لكنهم بعرائهم ناؤوا.
(٢)
جان دمو
أدرد
بقصائد صلعاء
تسير متعثرة وحافية
من زجاجة
إلى زجاجة
ومن مديح المليشيا
إلى وله الفوضى النظامية
هكذا
يتقيأ
جان دمو
باراته
كل ليلة.
* جان دمو شاعر عراقي راحل
(٣)
اعدن
[إلى هيثم ابني]
وجئنا إلى عدنٍ
وانسكبنا هنالك
في غصةٍ
وزوايا مشرّشةٍ
كيف كنا نعبّدها بالمدائح
تلك الزوايا؟
حملنا إلى عدنٍ
وردةً من ضحى عاثرٍ
وانتخبنا لوردتها امرأة
ثم قلنا:
أنأوي إلى امرأةٍ أم مرايا؟
ضحكنا
وكنا اتّكأنا على عدنٍ
وانتقينا لأزرقها
جعةً وصبايا
(٤)
الجن
و كأنه العرش
كأن من حولي هنا
جنُّ الفجاج
وكأنها بلقيس
تصعد في كناياتي
على بحرٍ
إلى يوم سليمان الممد بالأجاج
وأنا سليمانُ قرى نملٍ
على قلقي
وهذا الهدهد الملكيُّ يغويني
يدل عليّ يابلقيسُ
جنّك كلهم
فأراك في قلبي بلادي
وكل تاجي
وأنا سليمانُ فمن يأوي ظلالي
كم حبسني الجنُّ
في نرجسك الذهبيٍّ
يابلقيسُ
بين غواية الغيب
وزهو الصولجان
وطلسموني في الرتاج
وأنا سليمانُ
وبي تعب الملوك من القيامة
ردني ظمأي إلى سبأ السبايا
وكان الجنُّ
يرتجلون صنعائي
وكنت هناك يابلقيسُ
تنتخبين تيهاً
من زجاج
(٥)
فواتير
وأُخرج قيافتي من المرآة
أدعها تتمشى قليلاً
وتتبجح
بأنني
أنيقاً ومتأهباً
أنزل
كل صباح
لأسدد
كل فواتيري
وكل ديوني
للحياة
(٦)
ولعبدالله مساء واحد
[إلى ابنتي هند]
لا شأنَ لعبدالله الليلةَ بالشجر الملحي
خرجت أسراب البحر إلى البحر
وما عادت صفصافته من غيبتها
لا شأنَ له
سيجيء الأعداء إلى هدنته
وسيرفعهم نخباً.. نخباً
ويسوّر بالهذيان
حروباً تتسلل من كأسهْ
بسيوفٍ فارهةٍ لا شأن لرأسهْ
لا شأن للحظته القصوى
بشوارع صافنةٍ تطعنه برهتها
ما كان لعبدالله سوى
حظٍ مخروقٍ
وبلادٍ صلدهْ
جلستْ صُدفتهُ القمريةُ – ذات مدار –
تحت النهر
ولم تبزغ؟
هل يبزغ نهرٌ من عبدالله؟
وهل يبزغ عبدالله الليلةَ من جذر الموسيقى؟
لا شأن لوردته
بعماراتٍ * تنتخب رماد الأقيانوس
خلف محارته
يصطفق الآجرُّ الناريّ
وتنشّ امرأة عن فخذيها أسراب المعدن
ذهب النوم إلى الحرب
ولم يعلن عبدالله رصاصته
علّقَ أنهاراً ونهاراً
في سقف مرايا
ليرى غصته عاريةً
ومضى
ما أشجاكَ الليلةَ يا عبدالله
وما أكمل صحوك مشتجراً بمروقٍ شاهقْ
**
منذ ثلاثٍ وثلاثينَ غوايهْ
لبست أحلامكَ خوذتها
وانتبذتْ طرقاً حائلةً
ومضت
فاحتفل النملُ بسكّرِ أيامكْ
بين مراثيكَ انتشرَ الحطّابون
لم تنهض صفصافتكَ الليلية
واختبأت أنخاب خرابكَ
ووحيداً غادرتَ إلى رعدٍ ما
أرجأتَ الأصحابَ إلى مرثيةٍ قادمةٍ
وبنيتَ هلاكاً
ورددتَ إلى غفوتنا السرطاناتِ
الطبلَ البازلتيّ
نحاسَ البحر
القتلى الجيريينَ
الشجرَ الصحراويَّ الراكضَ تحت عيونٍ مطفأةٍ
جرذان الخبتِ
أراملنا الممتشقاتِ الأثداءَ
وبيكاسو
ما أقساك الليلةَ
ما أوجعَ صمتكَ منتشياً بحرائقَ لا تتقنها
**
لا شأن لعبدالله الليلةَ بالأعداء
لا بحر هنالك خلفه
ولعبدالله مساءٌ واحد
كان يقطّره منذ ثلاثٍ وثلاثين غوايهْ
ويجمّع قش الضحكاتِ ليبني هرم الأنخاب
كم نصب الإيّل شركاً لفحيح رؤاه
كم نبض الحائط بامرأةٍ أعلى من نهدتهِ
كم جُنَّ النيزكُ تحت خطاه.
لكن
لا شأن الليلة لامرأةٍ
بجنون النيزك
وبعبدالله الليلةَ
لا شأن لعبدالله.
(٧)
على بعد ذئب
كلنا عابرٌ في القصيدة
لكننا لا نقيم بها،
ونقيم القيامات فيها
نشاورُ أحجارها أو نساير أشجارها أو نحاورها
أو نسير حفاة علي الجمر بين الكناياتِ
نهمسُ
أنَّ كمائن أعشابها قطرةٌ من مجازٍ
وأنَّ السياسةَ بيتُ القصيدْ.
كلنا عابرٌ في البياضِ
نؤلفُ مجداً،
ونطفح موتاً،
وندعو القصيدة أن تحتفي بالبعيدْ
كلنا عابرٌ في القصيدةِ
نسألُ عن قربنا
من مشانقَ مجدولةٍ من حبال السياسةِ
أو من خيوط الوعيدْ
كلنا عابرٌ قربهم
فالغزاةُ هنا،
كلهم داخلٌ،
والبداوة فينا،
فمن جمرتينِ
نقيمُ الممالكَ مملكة إثرَ أخري،
وننثرها في حقول البروق و بين الجبالِ قلاعاً
ونرضع من ذئبةٍ
ثم نهوي إلي قصعةٍ من ثريدْ.
كلنا عابرٌ قربهم
لا نراهم
ولكنهم من سماءٍ ملونةٍ
يبدؤون الحكايةَ
أو يبدؤون على بعد ذئبٍ
يبللُ أيامنا بالجنودْ.
كلنا عابرٌ
حيث لا ظلَّ يبقي
إذا أيقن الساقطون علي مائنا
إنهم يرشفون الثمالة من حدسنا
يسرقون من الغيم زهوَ الرعودْ.
كلنا حجرٌ يرتضي
أن يكون الفتي
أو فتيً ليته حجراً
أو فتيً حجر ليته في صعودْ.
كلنا في الصبا آية،
جعدُ هنديةٍ،
رنةٌ تتراقص من وقعها ساقُ جاريةٍ
كأنَّ بخلخالها جنّ أسئلةٍ،
وكأنَّ بإيقاعها دندنات الحشودْ
كلنا في المرايا
عبور الوعول إلي هاجسٍ
من نساءٍ و ليلٍ مديدْ.
كلنا عابرٌ في رصيفٍ سيعدو
وثمة ما سوف نتركهُ
ها هنا أو هنالكَ
من أزلِ الكلماتِ و من خيلها،
من فوارسَ ترفعُ أسيافها للطواحينِ
أو تقتل الغولَ في غفلة السردِ،
أو تسرد الغولَ في برهةٍ للشرودْ.
كلنا سوف يعرفُ أن القصيدة
تبدأُ منا و تبدأ ُ فينا
وترسلُ في أوّلِ العشقِ سهمَ الصدودْ.
كلنا سوف يسألُ:
كيف تقودُ القصيدةُ هذا الذي لا يُقادُ
وكيف تسوس قطيعَ البداهةِ
كيف تروِّض جيشَ الحذاقةِ،
كيف تهدهدهم في المهودْ.
كلنا عابرٌ
والغزاة سيأتون،
من ثغرةٍ سوف يأتون،
تهوي سيولهمو من أعالي الخرافةِ،
لكننا
سوف نجمع ما سوف يطفو هنالك من جثثٍ
ثم نجثو نلملم ما سوف يبقي
علي صفحة السيلِ:
بعضَ حنينٍ،
ودمعاً قديماً
وشيئاً من القلبِ
نعصرهُ ثم نفرده ثم ننشره في الهواءِ
ونتركه يابساً
كلنا عابرٌ في القصيدةِ
من غيبها
لا نعودْ.
(٨)
تسوية
فجأة
الرصاصة في دورانها الممض
تقف على الناصية المقابلة
فجأة
تقطع الشارع باتجاهي
تهمس لي
بأنني أكثر اكتمالا
ولا لزوم لأية تسويات لاحقة
فجأة.
(٩)
فوضى
في القلب
كما في محطة مركزية
ثمة امرأة تكسر ساعتها
وتسكب في منديل
قطرتين أو ثلاثاً
من حنين مباغت
وتهرّب اشتعالاتها
في علب الوصايا المذهّبة
ثمة حروب مقنّنة
وآلهة من ورق
ثمة وقت رمادي
وأسئلة في سلّة تفاح عمومية
ثمة باص أخير
ورجل يخرج على البحر
شاهراً نافذته.
(١٠)
الزلزال
خيلٌ آيلةٌ للريحِ
منازلُ عاثرةٌ
غيمٌ يعوي
ورجالٌ عورٌ
يقتادونَ هواءً أعرجَ
سهمٌ يسرحُ في الفجأةِ كالشاةِ
مرايا حافيةٌ
وزوالْ
للزلزال توجّسهُ
قد ينزل مستتراً من شرق اليقطين
وقد يخرج منحدراً من غرب “الوزّالْ”
يهتبلُ الزلزالُ مساءً ينشقُّ الليلة عن أسمائي
ما عاتبني قمرٌ
لكن مسائي أوجعني
فسألتُ الزلزالَ الكامن في الهدأةِ:
من سيفصّل لي أسمائي؟
قال: امرأةٌ يغزلها الريحانْ
قلت: وأين امرأة الريحانِ؟
قال: ستقطر من أغصاني
قلت: وكيف تهلُّ الأغصانْ؟
قال: امسحْ جذرَ المشنقةِ
ترَ القطرةَ سربَ صباحاتٍ يابسةٍ
وانبشْ كلَّ خلاءاتكَ
يتبعْكَ ملائكةٌ شذّاذٌ
جوّابو إيقاعاتٍ وهلاكاتٍ
فتهيّأ لمنادمةِ الحيتانِ
قلت: وماذا
قال: اصبرْ
وانزعْ وجهكَ
وانثره بين قراطيسكَ
واهبطْ في المرآةِ
ترَ المرأةَ جالسةً
لا تأرقْ
واغرقْ في القطرةِ
قد تحميك دلافيني
ويسارر أعشابكَ بركاني
قلت: وماذا؟
قال: اجعلْ سترَ هديلٍ
بين مراثيكَ وبين العطر الصاهلِ
وارخِ البرقَ
فثمّة خيلٌ ووعولٌ ومشاكسةٌ بين ثيابكَ
ثمّة عبرَ مداكَ
ملوكٌ ودهاقنةٌ أولو حزنٍ
حينئذٍ
تقفز من غفوتها أغصاني
قلت: وماذا؟
قال: ولا تذهب أبعدَ من ظلك
واكمنْ بين شعاعينِ
على مقربةٍ من بهو ظلامكَ
قد يمرقُ نهرٌ ما
فاحشدْ كلَّ صوابٍ
لمقارفةِ الخطأ الأبهى
واضربْ بهواكَ النهرَ
فيهجس عصفورٌ
بسرايا المطر النشوانِ
قلت: كفاني
هدهدني الزلزالُ
ووسّدني راحتهُ
وبأغصان الريبةِ غطّاني