كتب المحرر الثقافي
الشعر هو لغة الأرواح، وهو نافذة من خلالها تعبر الأحاسيس والتجارب الإنسانية العميقة. وعندما نذكر الدكتور عبد العزيز المقالح، نجد أنفسنا أمام أحد أعظم الشعراء الذين أنجبتهم اليمن عبر تاريخها الطويل والمجيد. إن شاعريته مرآة تعكس جمال اليمن وألمه، طبيعته وحضارته، إنسانه وأرضه.
ولعلَّ قصيدته “حضرموت” هي واحدة من أروع تجليات هذا التعبير الشعري الفريد. في هذه القصيدة، يأخذنا المقالح في رحلة عبر الزمن والجغرافيا، محمولين على أجنحة الكلمات لنرى حضرموت ليس فقط كمكان جغرافي، بل كمركز حضاري وروحي متجذر في وجدان كل يمني.
في مقطعها الأول، يبدأ المقالح بالتعبير عن شوقه العميق لزيارة حضرموت، والتي لم يتمكن من رؤيتها بشكل مباشر، إلا أن أنين الصور ورنين الأحاديث قد جعلها تنبض في ضلوعه كما تنبض في التراب. هذه الحضرموت التي تمثل الكبرياء والمجد والحب، تظل رمزًا خالدًا في ذاكرته.
وفي المقطع الثاني، نرى كيف ينعكس حزن المقالح وحزن البلاد في وجه حفيده الصغير، الذي يفوق خوفه قدرة التحمل. الصورة هنا تتجسد بشكل مؤلم في انهيار البيوت والمتاريس دون حرب، في موت الفراشات والعشب وحتى التراب، ليصبح الكون كئيبًا ومظلماً.
أما في المقطع الثالث، ينقلنا المقالح إلى مشهد مأساوي آخر، حيث يغرق دمون في الماء، وتتلاشى الذكريات والأغنيات في زحمة الردى. يعود الشاعر إلى مدينته وهو مكلوم، لا يبحث عن ملك ولا سدة حكم، بل يلقي بتحيته على قبر النبي هود ويبث أساه، معلنًا السلام على مدن تعيش في داخله.
وفي المقطع الرابع، يستعرض المقالح جمال حضرموت التي كانت شفافة وملونة كالماء، والتي تحولت فيما بعد إلى ثوب ليلٍ بهيمٍ، محذراً من أن لا عاصم اليوم من الماء ولا حذر حين لاتَ الحذر.
وهكذا من مقطع في القصيدة إلى مقطع اخر ينقلنا المقالح الى
الأحبة من بشر ونخيل ونحل، وحتى التراب.
أنها الفتاة العذراء الفاتنة التي شاخ البحر والصخر من حولها.
قصيدة قوية ، حيث يعتبر المقالح “حضرموت” كأغنيةٍ من أعالي الزمان، مشيرًا إلى ارتباطها بأمرؤ القيس وأيامه، وإلى دمون الذي يملأ الأرض عشقًا وشعرًا.
والشاهد إن الدكتور عبد العزيز المقالح أحد أعمدة الشعر العربي واليمني، وأعماله الأدبية والشعرية تظل مرجعًا خالدًا للأجيال القادمة. قصيدته “حضرموت” هي تجسيد لعمق وجمال حضرموت، وتعبر عن حبه العميق لهذا الجزء الغالي من اليمن.
***
قصيدة حضرموت..
الشاعر اليمني الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح
-1-
لم أَزُرْهَا
ولم أرها وهي طافيةٌ
بَيْدَ أنيِّ سمعتُ أنين الصورْ
حضرموت التي نبتتْ في الضلوع
كما نبتتْ في حنايا التراب الشجر.
***
آه…
سيدتي حضرموت
لكِ المجدُ والحبُ
والكبرياء.
لأبنائكِ الطيِّبِين السلام
لواديكِ
للمدن المستحمَّة بالشمسِ
للشهداءِ السلام،
وللأوفياء الذين على عهدهم
كالشموس يضيئون هذا النشيد
الذي حفرته القرون:
“دمّون إنَّا معشر يمانونْ
وإننا لأهلنا مُحِبُونْ”
المحبة في دمنا
تتوهج يا حضرموت.
المكلا وصنعاء
أختان عند السرور
وحين يلوح الخطر.
-2-
كنتُ أقرأ حزني وحزن البلاد
بوجه حفيدي الذي
خوفُه كان أكبرَ منه
وأكبرَ منّي،
ونحن نرى الثكنات البيوت، المتاريس
تنهار من غير حرب
وكل جميل على الأرض ينهار في لحظةٍ ويموت
الفراشاتُ، والعشبُ
حتى التراب يموت
ولا يسمع الناس لوعتَهُ
والفضاءُ يغيم،
يغيب
وتبدو السماء وقد فقدت في الظلام
توازنها المنتظرْ.
-3-
بكى صاحبي
حين أدرك “دمّون” يغرق
يوشك أن يطمس الغَمْرُ
ما يعجز الريح عن محوه من هوى لا يريم
وما حفظته الصخور من الكلمات الطرية
والأغنيات الشجية
يا للردى!
صاحبي حين عاد إلى دارهِ
لا يحاول ملكاً
ولا يشتهي سدة الحكم
لكنه عاد من آخر الحزن
يلقي على قبر “هود” تحيته ويبث أساه:
السلام على قبر “هود” الذي جرفته المياه
وعادتْ بهِ مثخناً.
السلام على مدنٍ تحت جلدي تعيش
وتشرب قهوتَها في سلامْ!
-4-
حضرموت،
الغيوم التي رافقت كل زوارها
يوم كانت كما الماء شفّافةً وملونةً
كيف نامتْ، وغامتْ
وكيف ارتدتْ ثوب ليلٍ بهيمٍ
وألقتْ من البحر أحمالَها
لم تدع في الطريق إلى الموت “حَوْراً”
ولم تبق “صَفصافة”
دافئاً كان وردُ المدينةِ
كانت سفوحُ الجبال كعادتها
في الخريف تغني
وتجمع قبل الغروب العصافير
جاء الضباب
وجاء العبابُ
ولا عاصم اليوم يا حضرموت من الماء
لا حذرٌ
حين لاتَ الحذرْ!
-5-
كان حزن اليمانين يصعد
والضوء يهبط
كان المحيطُ يلبي نداءَ الأعاصير
والموتُ يحمل أشلاءَ كل الأحبةِ
من بشرٍ،
ونخيلٍ
ونحلٍ
ويحمل حتى التراب،
القرى،
آه تلك القصائد
غارقةٌ في رحاب الحقول
اختفت
أكلتها الأعاصير
عادت كما الأرض عاريةً
وبلاقعَ
تعزف فيها الرياح تراجيديا الموت
تقرأ فيها بكاء الحجر.
-6-
حضرموت
الفتاةُ التي شاخ من حولها البحرُ
والصخرُ
عذراءُ فاتنةٌ
آه
واحسرتاه
أتاها العدو من البحر
أمطرها وابلٌ من مياهٍ
أقول لكم:
هل تخون المياه الحدائقَ
تصعد نافرةً كخيولٍ بلا رَسَنٍ
ثم تخرج من حدقاتِ البيوت
أقول لكم:
هل يخون المطر؟
-7-
في العراءِ
نصبنا خيامَ قصائِدنا
واتّكأنا على قلقِ الذكريات
وكانت قوافلُ من أهلنا
تعبر المدنَ الخاويات
وتأوي إلى جبلٍ لم يعد
يعصم الرملَ من نفسهِ
بعد أن غسلته العواصفُ
من صوتهِ وشذاه
ومن آخر الصلواتْ.
كانت الشمس مذعورةً
والسماء ملبدةً
والعصافير تهرب
تنقر جدران روحي
ومن خوفها
تتقرى الأثرْ.
-8-
حضرموتُ
كأغنيةٍ
من أعالي الزمان هبطتِ
ومنذ صباح اللغات صعدتِ
وكان أمرؤ القيس حادي النجوم
ابنك البكرَ
فوق هضابك أزهر بستانُهُ
في رعاية غزلانك استوتِ الكلمات
وكان له في رحابك خمرٌ وأمر
وكان شتاءٌ وصيف
ألا تذكرين عشياتهِ
وأغاني صباه
و”دمّون” هذا الذي يملأ الأرض
عشقاً ، وشعراً
ويركض في فلوات القصائد
أسطورةٌ .
لا تمل السفرْ.
-9-
حضرموت
أيا لغة الحب
لو أنه قد أتاك العدو بأجنادهِ
وأحاطك براً وبحراً
لكنا فديناك
لكنه جاء في ثوب عاصفةٍ لاتُرَدّ
وحاطمةٍ لا تقاوم
لا تحزني
حضرموت انهضي
ثم كوني كما تشتهين
اُخرجي من تراب الفجيعة
عودي كما كنت أُمّ الرجال
سيدة الصحو والنحل
والعسل الدوعني.
أنتِ ماء الأغاني.
وصبح الوتر.