“من قصيدة ذيل الطاووس”
يتجلى الشعر في قصائد عبد الودود سيف كنسيمٍ يتنقل بين الجبال والوديان، يحمل في طياته عبق التاريخ وحكمة الأجداد. في “ذيل الطاووس”، تتبدى مقدرة الشاعر على مزج الرمز بالواقع، متجاوزًا حدود الزمان والمكان، ليخلق لوحة شعرية تترنم بروح اليمن العريقة وجمالها الباهر.
يبدأ الشاعر قصيدته بتساؤل: “غيم بكفِّي أم دخان!”، هذا التساؤل الوجودي يعكس حيرة الشاعر وبحثه المستمر عن الحقيقة في عالم متغير. إنها رحلة بين السماء والأرض، بين الحلم والواقع، حيث الخطوات تعيد الشاعر إلى ذاته، جالسة على عرش من الكلمات والقوافي.
يمزج عبد الودود سيف في قصيدته بين الصور الشعرية البديعة والرموز العميقة، حيث تتجسد “النراجس” و”الزعفران” كرموز للجمال والنقاء، بينما تتراقص الخيول في فضاء الشاعر، تحمل له الأفراح والأحزان. في هذا المشهد الشعري، يعود الشاعر إلى ذاته مبتكرًا، يجسد اليتم كأبهى ما يكون، ويسير القرنفل للقرنفل، والشرارة في الصوان، ليعبر عن التلاقي والتضاد في آنٍ واحد.
يتجلى عشق الشاعر لليمن في كل بيت من أبيات قصيدته، حيث يتنقل بين حضن الوطن وأذرعته، كأنه زخرفة على سيف أو همسة على سعف نخلة. في هذه الرحلة الشعرية، يُظهر الشاعر جانبه المتمرد، الرافض للانصياع، يتقدم بخطى ثابتة نحو ذاته، مبتكرًا أسلوبه الخاص في التعبير عن مشاعره وأفكاره.
يمثل “ذيل الطاووس” رمزية الجمال والرقي، حيث يُصور الشاعر هذا الجمال بطريقة فريدة، يمزج فيها بين العنق الطويل للزرافة وذيل الطاووس، ليخلق مشهدا شعريا ساحرا يمضي صاعدًا نحو الأعالي. هذا الصعود يعبر عن طموحات الشاعر وأحلامه، وعن قدرته على تحويل الصدى إلى شذى، والهوا إلى نسيم منعش.
يستمر الشاعر في رسم لوحته الشعرية، حيث يتداخل المطر بالطين، والبسملة بالمسلة، ليخلق فضاءً شعريًا يتسم بالتنوع والتناقض. إنه فضاء مستطيل كإصبع، ومستدير كطيلسان، يعكس عالم الشاعر الخاص، عالم يملؤه الذهب والضياء.
في هذا الفضاء، يسير الشاعر بخطى ثابتة، كأنه يقتلع الرتاج، يُزيل عن كتفيه آثار الخرائب والحفائر، ويجلس على كنف الفؤاد مباركا. إنه رحلة من الحزن إلى السلوى، ومن الظلمة إلى النور، حيث يعود الشاعر إلى ذاته، محاطا بالأقحوان والبروق، يسير نحو المجهول بثقة وأمل.
تُعتبر قصيدة “ذيل الطاووس” من أروع قصائد عبد الودود سيف، حيث تتجلى فيها قدرته الفائقة على التعبير عن مشاعر الحزن والفرح، والتناقضات التي يعيشها الإنسان في حياته اليومية. إنه شاعر وناقد يمني رائد، يحمل في قصائده روح اليمن العريقة، ويعكس جمالها وأصالتها، ليبقى خالدا في ذاكرة الأدب العربي.
عبد الودود سيف هو شاعر ينبض بحب اليمن، يكتب بكلمات مستمدة من أعماق التراث والتاريخ، ويعبر عن مشاعر إنسانية عميقة تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية. في “ذيل الطاووس”، يقدم لنا الشاعر لوحة شعرية مدهشة، تبرز فيها قدرته على الابتكار والتجديد، وتجعل من قصائده إرثا أدبيا خالدا يفتخر به كل يمني وعربي.
من خلال هذه القصيدة، نستطيع أن نلمس نبض اليمن وجمالها الفاتن، ونشعر بعمق المشاعر التي يحملها الشاعر لوطنه ولأهله. إنها قصيدة تحتفي بالحياة، وتعبر عن الحب والانتماء، وتجسد قوة الكلمة وأثرها العميق في نفوسنا.
بهذه الكلمات، ندعوكم لاستكشاف هذا العمل الأدبي الرائع، وللتأمل في جماليات الشعر العربي من خلال رؤية شاعرية فريدة يتميز بها عبد الودود سيف، الشاعر اليمني الكبير.
***
من قصيدة: “ذيل الطاووس”
عبد الودود سيف*
غيم بكفِّي أم دخان !
هذا ابتداءُ رسوّ صاريتي على شط
وأول ما أهش بنرجسٍ أو أستظل بزعفران
هذي خطاي تعود بي نحوي, ثم تجلسني إليَّ..
أرى الدنان كأنها ملأى بخمر ليس تعرفها الدنان
وأرى خيولي في العنان, تزف لي خيلا
وتبسط في مدايَ لها العنان.
وأنا أعود إليَّ مبتكراً. كأبهى ما يكون اليتمُ
أو يمشي القرنفل للقرنفل والشرارة في الصوان
هذا رجوعي من سواي إليّ في عرشٍ وقافيةٍ..
وبدء وقوف أطماري على رأس وتاج.
هذا هواي على مدى حضن.. وأذرعة
وقلبي مثل زخرفةٍ على سيف وهسهسة على سعفٍ. وبعضي ليس يذكرني
وبعضي فاحمٌ. أو فاحم.
وأنا أسير إليَّ محتشدا..
وأدخل في هواي
آت كمن يُدْعى لشبْك ضفيرة بضفيرة..
ومزج عنق زرافة في ذيل طاووس.
ويمضي صاعدًا.
آتي. وأجعل من صداي شذا. وأجعل من
هواي.. هواي..
ثم أسير بينهما وأقتلع الرِّتاج.
لكأن لمعَ البرق بعضُ شواردي
والغيمَ سنبلةٌ على كتفي
ووجهي قُبلة. أو قِبلة
والأفق قبةُ شذروان..
وأنا كمن آتي إليَّ مسلمًا
وأنا كمن أمشي إليَّ مبدداً.
كفاي من مطر وطين.
ويداي بسملة. وقيل: مسلة. وأقول بين أصابعي
ذهب. وفوق أصابعي ذهب
ولي هذا الفضاء المستطيل
كإصبع… والمستدير
كطيلسان..
وفمي كآخر ما تنوء قصيدةٌ في حبل قافيةٍ
وأول ما يسير على هلال. أو يكسِّره زجاج
للغيم أن يزجي الغمام براحتي.
وعليَّ أن آتي إليَّ
أصول
وعليَّ أن ألج الهوينى. أو أصول كمدية
وأسير لا ألوي إليَّ.
وعليَّ أن أصل النراجسَ للبروق على براق
فراشةٍ. وأسير
أهدي الأقحوان بتاجها للأقحوان.
وعليَّ أن أهذي وأقتنص الفضاءَ بغمضة
أو رشفة أو ياسمين
هدأت بقاعي الأرضُ, تلك مدائنٌ في الأفق ناكسة.
وأخرى في هلام الرمل طافية
وأخرى في مداي تجيء بي نحوي وتُسلمني
بروج ظنونها
وأعود من أقصاي أهتبل اليقين
لكأنني في مهرجان الريح
ينفخ نايه
دانا أدندن بالنسائم واللواقح والأريج
هذا ابتداء المهرجان:
طفلٌ بأقصى القلب يعقدني بعمري قبلةً
ويعيدني للخلف آلاف الخطى
ويزيل عن كتفي الخرائب والحفائر..
ثم يجلسني على كنف الفؤاد مباركًا
فأعوذ بالسلوى
وأزدرد النشيج
آن الأوان لكي أتيه وكي أتيه كسروة
أو أستدير كصولجان.
وأجيء أفتتح البروق بنرجس
وأسير أمسح من بياضِ الغيم ما رسم الدخان
شجرٌ بصوتي
والجنان تزفني نشوى إلى حضن الجنان
وأنا انقسام محارة: شجوًا وشجوًا. قلت هذا بلسمي أم خاتمي:
هذا فضاي.. وذاك أول ما أرى في الماء من مدن. وأول ما أرى في الموج من ريش وعاج
أمشي كأن الماء أكمل خلفه وجرى إليَّ
والواقفون بقامتي تعبوا
ونصفي عائم أو حالم
والقلب أشبه ما يكون بقمحة
والقلب أشبه ما يكون بسنديان.
هذا انتصاف المهرجان..
هذا صعودي في فراشة نرجس نحوي..
ومني للوصول إليَّ أقداح مبددة. وناي عاطل.
وقَسَاطِلٌ تزهو بطول نزيفها. وأيائل تعبى.
وعمر طاعن في الحزنِ…
فلألج المحارة بالمحارة
والحجارة بالحجارة
والشواطئ للسفن..
وأعد كم بذرت خطاي على خطاي قوافلا..وقوافلا
وأعد كم فضت يداي براحتيَّ زبرجداً وقرنفلا
وأقومُ من وقتي إلى وقتي.. واقتنص الرهان..
مطرٌ بصوتي والمرايا إن هطلتُ.. أهلّه.
ودمي يلملمُ ما تيسر من دمي.
وأنا كآخر ما تفيض قصيدةٌ من بين قلب ليس يشبهني
وقلب متّ فيه..
ولم يكفنّي الحنين
وأنا الذي منح الصواري في الفضاء شرودَها
وأعاد تقليبَ اليدين على اليدين.. وعاد من خشب الصواري راعشًا
بل جاهشًا
وطوى الشراع..
* شاعر وناقد يمني رائد
من مجموعته الوحيدة “زفاف لحجار البحر”