ذخائر

مرثاة لنخلة الشمس

احمد قاسم دماج انزياحات
احمد قاسم دماج انزياحات

مرثاة لنخلة الشمس..من أعظم ملاحم الرثاء في الشعر العربي

هذه الذخيرة الشعرية الفذة التي نقدمها لكم في انزياحات من روائع الأدب اليمني، حيث تتجلى فيها عظمة الشاعر الأستاذ أحمد قاسم دماج، الرئيس الأسبق لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. في هذه القصيدة المرثية، يرثي دماج زوجته بحزن عميق ولوعة مؤثرة، كاشفا عن جمالية الحزن وسحر الكلمات التي تنبع من قلب مفجوع. ستلمس في كل بيت من أبياتها مزيجا رائعا من الألم والإبداع، لتكون شاهدة على قوة الشاعر وقدرته الفائقة في التعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية. هذه القصيدة ليست مجرد مرثية شخصية، بل هي تجربة إنسانية شاملة تعكس الفقد والحب والحنين، مما يجعلها واحدة من أعظم ملاحم الرثاء في الشعر العربي.

***

مرثاة لنخلة الشمس

– 1 –

مغارةً قد صارت المدينةْ

ونفقاً أصبح وجهُ الأفق

مذ غادرتْني بهجةُ السكينةْ

وغربتْ شمسي

أجلُّ ما أحرزتُه في العمر

أسطعُ ضوء في ليالي القهر

أنضر فرحةٍ عند اعتكار الحزن

ملهمتي الألحان والقصائد الجذلى والنشيد

ملهمتي المكابَرة

أجمل من حدائق الورود…

ومن تلألؤ البحار والأنهار

أنقى من الندى ومن ضمائر الثوار

من كبرياء الشهداء، من مطامع الأحرار

شمسي التي باغتها الأفول

شمسي التي بدأتُ منها بسمةً لا تعرف الذبول

وها أنا على مهابة الوداع غصةٌ تذهب في الذهول

فجيعة بحجم زلزالٍ يشقُّ قلبَ الأرضِ…

حسرة أطول ما في الطول.

مغارةً أصبحت المدينة

ونفقٌ هو الوجودُ المعتمُ المهبول.

– 2 –

أَعَلى عيون الزهر يمشي الموت؟

أم أن الجريمة

أخذت مكان الماء في وطني وألوان البنفسج؟

هذا اندثارٌ طالما أبقته أيدي الاندثار

يجتاحني الكابوس…

صار الأفق من أسرى الغبار

وأنا أفتش عن ملاذٍ في ضميرِ النخل

عن مأوى بأحداقِ البنفسج

عن رويٍّ ذاهب في الريح

يلحق بالقوافي هائمات كالفراش

بالمعاني وهي تمطر بالفجيعة حين ران الصمت

هل هذا الذي يبقيه معنى الموت؟

أم أن البداية في انتشار البوح في شفق البكاء؟

لا أدري أي الخافقين بقي!

أقلب فوق جمر الدمع…

أم قلبٌ بغيم الغيب دثره التراب؟

لا أدري!

أهي التي غابت؟

أم أني أنا المسكوب في شفق الغياب؟!

فقدتْ توهجها القصائدُ في غروب الشمس؛ شمسي

وانسلختُ عن الوجود

وفقدتُ حنجرتي

أنا المسكون بالشهقات أخرسني الغياب.

– 3 –

قال الرفيق:

اسكبْ دموعك في عيون الزهر!

قلت: الجلنار غفا

وأحداق الزنابق ممعنات في الغموض

من أين لي وردٌ أصبُّ دمي عليه لأستجير من الفجيعة!؟

أنا عاشقٌ يا صاحبي

والعشقُ أوله فناءٌ

والعشق آخره فناء.

قال: استعدْ زهو الذهاب إلى المشانق!

قلت: المشانق كانت الصبوات إذ شمسي تعلمني الصعود.

قال: انتبه!

علّمتَ أغصان الحدائق كيف تشرق في الربيع.

قلتُ: الربيع يكون شمساً لا يباغتها الأفول

والشدو بعض روائح الليمون في غبش الربيع

والانتشاء حبيبتي تحنو عليَّ كالربيع

وقصائدي من بسمة منحتني معنى أن أكون

أو غضبة فصلتني عن معنى السقوط.

لا وقت إلا للبكاء

فخذ انسكاب القلب ياقوتاً تباغتك القصيدة

ودع الأنين لغير يوم القفر تأخذك المهابة.

لو كان عمراً من تفاهات لما أشعلتُ حزني

لكنه عمرٌ تمازج بازدهاء الياسمين

كل الثواني فيه أشواق مجنحة وزهو لا يكلُّ ولا يمل

نطوي سِنيَّ الجدب

نبني دولة الفقراء

نغسل كل قبحٍ عالقٍ في خاطر الأشياء

ثم نعيد تكوين الثواني ناصعات كالندى

في أعين الأزهار بعد الفجر

بوح العندليب نشيدنا الأبديّ،

والأحلام جنّتنا

ترى ماذا يقول البرق حين يشقُّ وجه الليل؟

هل يروي حكايتنا؟

وهل في الزنبق البلدي منا نفحة؟

أُعطي المسافة ما يلائم وجهها الوردي،

علِّي لا أفارق بهجة الإصرار

لا ألوي على شيء…

سوى شفق تدوَّرَ في شراييني

لأحمي الجلنار وأحرس الغدران

أمنحها البلابل والتوهج والغناء.

لا وقت إلا للذهاب مع المياه إلى النهاية

أجتر أحلامي،

نعم، أجترها.

– 4 –

هل لي -وهذا الليل يحدق بي- سوى الأحلام!؟

لا تعتب!

شرودُ العندليب ملاذه المحروس

أمنعُ من حصون الأهل في صرواح…

لكن في بهاء الجلنار

قد أمعنتْ شمسي

فهل أستفّ حزني ثم أذهب في المتاه؟!

لو أنه يُفضي لوجه الشمس كنتُ أخذتُهُ وذهبت

لكن الأسى ليلٌ

أخاف الليل

يفزعني السكون

وأهرب من تهاويل الظلام؛

شنيعةً تبدو

ويبدو الأفق بحراً من رماد

وأَحَبُّ ما في البحر زرقته مع وهج الشروق.

ما كان أودعها!

تجر يدي ونمضي فوق وجه الماء،

نمضي كالنوارس

والكف أصبح واحداً

من يأخذ الكفَّ الوحيد!؟

هل تصبح الذكرى مكان الشمس!؟

من أي الجهات يكون بزوغها الآتي؟

– 5 –

كأني لا أرى في الأفق إلا الأصدقاء يضمّدون الجرح،

والطلَّ يغسل مهجةً كالماء.

يا شهباً يشعُّ الأُنس من جبهاتها!

لا تقفلوا البسمات!

هذي وحشة تحتل من حولي الجهات…

وحدكم معنى الأمان

ووحدكم في حالكِ اللحظات أقمار بلا ليل

وأقمار بلا أفق

وأقمار يغيب غيابها وتظل ماثلةً

يغيب البحر، يودع لونه

فيكون في شفق الصداقة

غابة الليمون تنشر عطرها فجراً

مع الأنداء في غبش الربيع

النخلة ارتحلت وشمسي…

ثم هذا البحر ينكر أننا جئناه يوماً والنوارسُ

حين تاق القلب للأمواج أجفلت النوارس

فوحدكم ظَلّوا!

وسوف أظل وحدي.

– 6 –

ختام

لي في المفازة ما يبث التوق…

لي في الارتحال

ما للهيام من الغواية حين أدلج في الغموض

فأبتدي من حيث لا أدري

أسير على غلالات، سراباً من حنين أو توهم

أنا في فضاءٍ لازورديٍّ أطير

وفوق بحر من عقيق أدلجتْ سفني

أنا المأخوذ بالذكرى وبالألم النبيل

أهبُ الخواء دلالة التكوين…

أنشئ في الغياب وفي التلاشي

كل المعاني المضمرات هناك في بدء الوجود

وخلف أسرار البداية

ما للغياب ولِي!

فضاء عينيك ملتف على قلبي وهذا القلب طار

نحو الذي لا يمـَّحي

في الروح… أطياف مقيمات بأعماقي

وأطياف تحلق في الحنايا

من يطمس الأطياف إذ تستوطن الأعماق… من؟

يا فاطر الأشياء!

ألوذ بطيفها فامنحه معنى الإنبثاق

واسبغْ على الباقي من اللحظات كل سكينة الإيمان

أو فألحقنيَ بالركب المهيب.

20 مايو 2001