دراسات

عن مجموعة الشيباني التي مُنعت: السلطة القاعدة الأساسية للمرقص

في مجموعة “مرقص” للشاعر اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني تمتزج عين السارد/ الشاعر بالمكان وكائناته باستيعاب راصد للتفاصيل، كما تطفح المجموعة بالعصي على الامساك ، بل انه من خلال الشخصيات التي تعرضها القصائد الممزوجة بنسبة عليا من السرد يتجلى الجانب الخفي لأحوال الليل العدني الراقص كما ينبغي .

إنها مجموعة شعرية منسية، كرسها مؤلفها لتناول الاحوال النفسية والوجدانية لبنات الليل في عدن جنوب البلاد ، اللواتي احترفن الدعارة أو الرقص في البارات والمراقص “التعسة والمتواضعة” للمدينة.
“كثيراً ما يتجنبن
كل ما من شأنه أن يفوِّر عواطفهن
كنساء عاديات
وبالمقابل
يمنحن من يرغب
الشيء القريب من ذلك
يدسن بصلافة
على الشرارات التي قد تطير
باتجاه الجوف الرقيق
لأنهن في الأخير
– حسب وصايا المعلمات –
لسن أكثر من وعاء واسع
يستبدل الماء بالنقود
ولأن الرجال
ليسوا أكثر من عابرين
يتركون أجنحة الرغبة
تحط بهم
على أجساد يشتهونها
قبل أن تمحيهم
اسفنجة النسيان”.

 

مجموعة جريئة في موضوعتها على الصعيد اليمني، وما ان صدرت حتى صودرت قبل 20 عاماً. لقد ظلت لفترة حبيسة الرقيب قبل ان يفرج بالكاد عن نسخ محدودة لصاحبها، وذلك لحساسية مضمونها على الحس الاجتماعي من وجهة نظر رقيب مغلق وصفها بالإباحية آنذاك، مع انها من ارقى الكتابات المنفتحة على المهمل او ما اصطلح على تسميته بالمسكوت عنه.
تفردت المجموعة في طرق الممنوع ونبشه، لتضعنا في قلب الشخصيات المتناولة واحداثها المرتبطة بتحولات والتباسات شتى ، لذلك كان من الطبيعي ان يتم فرض الحصار عليها ، فرغم مرور سنوات على صدور المجموعة تكاد ان تكون منسية في مشوار الشيباني الشعري ، كما لم تنشر نصوصها في أي مطبوعة محلية حتى اللحظة.

يعد الشيباني من شعراء الحساسية الجديدة المتميزين في اليمن، أصدر مجموعته الشعرية الأولى “تكييف الخطأ ” 2001، كما اصدر الى جانب “مرقص”، مجموعة ” أوسع من شارع.. أضيق من جينز “2003 ، و”نهار تدحرجه النساء” 2014 ، في حين له مجموعة جاهزة للطباعة بعنوان ” أقدام تتهيأ لركل المديح “. نشرتها انزياحات كديوان خاص للعدد الثاني.

ويقول الشيباني : ان التفاوت الثقافي والاجتماعي بين الشعوب هو الذي يحدد مفهوم الاباحية ، ففي المجتمعات المحافظة المغلقة تتعالى القيمة الذكورية كلحظة تعويضية للمكبوت الجنسي لهذا لا يتم التفريغ الذهني والفيزيقي من الرجل المكبوت الا بالتعالي على الموضوعة الجنسية ووعائها الذي ينحصر دوما بالمرأة بوصفها ماكينة انتاج اللذة ،كما ان المتلقي اليمني (كقارئ وككاتب معاً ).

تبعاً لهذا التوصيف لم يتجاوز لحظة الاغراق الذهني الذي تنتجه البنية الثقافية المحافظة التي تشده على الدوام الى اتونها الذكورية مهما حاول تجاوزها بالتنظير الثقافي .

برأي الشيباني فإن الإباحية في الغرب قد تنحصر بممارسة الجنس وتعاطيه بشكل فاضح في الاماكن العامة او من خلال التسييل الاعلامي وتقانة الصورة في الفضائيات ضمن مفهوم الحرية لكن الاباحية في مجتمعات الشرق واليمن قد يحصرها المتشددون بالاختلاط او حديث الرجل للمرأة الاجنبية وحتى في طريقة اللبس الذي يكشف وجهها الذي يعدوه هؤلاء اشارات اباحية واضحة واذا اسقطنا هذه الحالة على موضوعة الكتابة (عن الجنس بوصفه تابوها) سنلحظ ان المقاربات القليلة لها من الكتاب اليمنيين والعرب شكلت على قلتها وبدائيتها واستحيائها لحظة مختلفة لإنتاج صوت مناهض لهذا التابو الجمعي الذي لم يزل يشكل السلطة القاهرة لحرية المثقف والكاتب

الشيباني الذي عُرف بولعه الكتابي عن شجون الامكنة ويوميات البشر كمزاج عام يسيج تجربته، يكشف في تجربة ” مرقص ” عن نفس روائي شعري حاد . فضلاً عن مهارة لإضاءة العالم السري السفلي لبنات الليل ومن يدورون أو يدخلون في فلكه من الرجال أيضاً.

ويمكن القول ان الشيباني هو الشاعر اليمني الوحيد الذي صنع تاريخاً لهذا الليل الاغرائي الشبقي الشقي بكل افراحه واتراحه وتراجيديته وكوميدياه .
*

بحسب خارطة المرقص، فإن ناردين التي كانت “قد خرجت عن الجاهزية بعد الحرب ”
-يقصد حرب 94 بين الشمال والجنوب-:
أقدم (بائعة ليل)في المكان
وهو ما يعطيها الحق لأن تدعى
بالإمرأة الأولى أو الملكة
والتي تستطيع حتى الآن
أن تكون متميزة تماماً
حتى وهي تعرض نفسها بتعال شديد” .

لكن ناردين :

بالفتيات اللواتي
جمعتهن
من مدن وأرياف مختلفة
صارت تنافس
بما تقدمه
الحاجة (ليال) بفتياتها
المستوردات
من أرض الإحتراب
-يقصد العراق –

و يستطرد الشيباني :

هل خطر ببال الحاجة ليال
-بعد نجاتها من مذبحة بائعات المتعة
قبل حرب العراق الأخيرة –
أنها ستكون مسؤولة
عن اثنتين وعشرين فتاة
من بنات جلدتها (الغجريات )
يعملن كراقصات في أقصى الجنوب.
هل ارتسم بذهنها
شكل الطاولة الواسعة
التي ستجلس إليها لست ساعات كل ليلة
تمضِّيها في أكل القات
وتدخين (المارلبورو )الأبيض
وشرب “البيرة”
وتوجيه البنات، والرد على مكالماتهن .
من التليفونات المحمولة
وهل خطر ببالها أيضاً
أنها ستستأجر خزانة بنكية سرية
لتضع فيها بسبورات وعقود
عمل الفتيات الممهورة بختمها
الحديدي .
هل خطر ببال الحاجة – السمينة
بشعرها الأصفر وأسنانها المذهبة –
أنها ستبتكر جدولاً أسبوعياً
لكتابة جوابات اثنتين وعشرين
فتاة – أكبرهن في الثالثة والعشرين –
لا يجدن القراءة والكتابة
غير أنهن يجدن الرقص
وتبادل الملابس المثيرة
ويجدن أيضاً الدوس على العملات
الورقية
التي تُرَشُ على رؤوسهن بسخاء
من مهووسين وسكارى
وباحثين عن متعة “.

(نحمدو)

الراقصة المصرية النحيلة
جاءت من شهرين
وستغادر البلاد مع دخول
رمضان
لأداء العمرة أولاً, ثم
لإقامة (موائد رحمان) لفقراء
قريتها .
تؤدي نمرتها
بملابس الرقص الشرقي
في نصف ساعة قبل أن
تنقلها سيارة خاصة إلى صالة اخرى
بنفس الملابس
في نصف الساعة (وقت الذروة )
تكون قد هزت كثيراً
على أنغام خمس من الأغاني المصرية
المشهورة
ونُثِرَت على رأسها الآلاف
من ريالات التنقيط
وستكون أيضاً قد سلَّمت وبغنج على منقِّطيه
الذين يقتعدون غالباً الطاولات
الأولى
وبمساعدة من أيادٍ كثيرة
ستكون قد صعدت إلى طاولات
البعض
ورقصت على مقاطع من أغانٍ أخرى
غير أن الأهم سيكون
مع كل انحناءة منها للسلام
أو للمحادثة الشبقة السريعة
مع أحدهم
إذ ستبدو قطرات كثيرة من
العرق على ظهرها الأملس
تلتمع بنفس التماع فصوص بدلة
الرقص
قطرات لامعة
تغري القريبين من انحناءاتها
على مسحها بمناديل معطرة
وتغري بعضهم على
التفكير بلحسها !!!!! ” .

 

إجمالاً تشير البوصلة الشيبانية ببراعة نحو مآس وضياعات وتشتتات وانكسارات ، تتحكم بمسار الليل الراقص والداعر، تقف خلفها الظروف السياسة والانهيارين الاقتصادي والاجتماعي الخ .

 

فـطـوم
أبوها اليتيم الذي
غادر سهل تهامة قبل سنين كثيرة
إلى أفقر مناطق النفط
وجد نفسه بعد حرب الخليج
الثانية مع زوجة معلولة و
خمس بنات
على حدود بلاد لا تعرفه
ولا يعرفها
مثل كثيرين
باع عفشه القديم
واستقر في (محوى) للفقراء
وأعتاش من أعمال البنات
أصغرهن جرّبت كل شيء لتعيش
حتى الزواج العرفي
وهي الآن بسنينها العشرين
تعمل كراقصة مبتدئة
تظهر مع مدربها الشاب الأكثر ليونة منها
ترقص حافية القدمين
أما الأجزاء البائنة منها
فملطخة بالنقوش
والحناء الحضرمي الداكن
تنسى نفسها أحياناً ” .

المجموعة محقونة بالاحالات التي تستظهر الواقع ولعبة الاقنعة ، فالشيباني يلمّح في اكثر من نص إلى ان السلطة هي القاعدة الاساسية للمرقص وفق اجندة الاستغلال وتشكيل منظومة القيم .

 

بجسدها الخمسيني
المشدود
وفوطتها ذات الخط الأحمر
وشبشبها البلاستيكي
وعينيها المتقاطعتين
هي أكثر النساء اطمئناناً
في المكان
فالزوج دائماً
على بعد أمتار
متأهباً لتوصيل البنات
والزبائن بسيارته العتيقة .
أما الإبنة الوحيدة لها
فهي بالداخل على الدوام
تجوس في الغرف
بخط “الموبايل” الساخن
الذي يربطها
بزوجها الشرطي
المناوب الليلي في
“المخفر” القريب .
والذي يستطيع بواسطة
مخبريه إتيان أي شيء ” . !

 

لاتخلو المجموعة من انفضاح مأساة القاع الاجتماعي ، والقائمة برعاية السلطة العليا بالمعنى الواسع للانفضاح في مجتمع متزمت كاليمن ، وهنا يكمن مغزى محاصرة المجموعة بفطرية الرقيب الذي يعتبر ان تغطية سوءات المجتمع والقائمين على الدولة مهمته المقدسة .

 

كانت تعتقد أن (توزير) الزوج
ورضا الباب العالي عن قريبها
السياسي
لن يستهلك من جسدها المثالي،
ومن جمالها الفطري
إلا بالمقدار
الذي تريده
وتخطط له .
غير أن زواج الزوج من أخرى
و”تبرِّي” القريب منها
واستغناء الباب عن
خدماتها
ساوى عندها كل شيء
فلم يعد يهمها
أن تتحرك سافرة الوجه
وحاسرة الرأس
وتوحيل مجد جلاديها على
الأسرّة والمفارش الرخيصة .
فكل ضحيّة
للباب العالي – كما تقول –
ينبغي أن تكون أكثر قسوة .
والا كيف باستطاعتها
رد الاعتبار
لعمرِ طري
أشرفَ على سكبه
في الغرف السرّية
والفنادق
والمصائف
موظفون سريوّن
وبمباركةَ من زوج
وقريب أحرقهما الطموحات
وأحرقا أيامها
بكل برود ” .

إن كتابة مثل هذه تقدم نوعاً خاصاً من البشر يرتبطون بمهنة ذات اعتبارات لاتتكرر في مهن أخرى . وفي واقع شديد التحفظ لاشك ستجلب اللعنة على صاحبها ، لكن المجموعة مليئة بالدفق الانساني العميق. ولنا ان نتخيل ان الشيباني قد جالس تلك الشخصيات إذ خبر الجانب الذي لا يظهر للزبائن العابرين .كما خبر بعدستة البصرية الرهيفة التي كتب بها نصوص مرقصه أهم وقائع من عبروا المكان من الزبائن بالمقابل .

 

إلى هن
جاء أحد الأثرياء الجدد
برفقة أربعة حراس
ورَشَّ على الراقصات
مئتين وسبعين ألفاً
لمجرد أن أحد خصومه
قد نقّط الراقصات
في الليلة السابقة
بسبعين ألف .
وهنا أغلق
أحدهم بإحكام على نفسه
في دورة المياه لساعتين
وبدأ بصوتٍ مجلجلٍ
توصيل تحياته وسلامه
إلى شيخ القرية
وإلى أسرته – في الداخل والخارج –
فرداً فرداً
وأوصل تحياته المهيبة
إلى الحكام العرب
وأنجالهم الذين يُربّون للخلافة
ثم بدأ بالبكاء
وهو يردد اسم رقاصة (فلسطينية)
أكلت الجو كله
في ليل (الدوخة) .
ومن هنا
اختفين كل النساء
مع دخول أول
أيام الصيام
تماماً كما اختفى
الجيش العراقي من بغداد

 

* شاعر يمني