مؤخرًا، صدرت دراسة علمية للباحثين اليمنيين، الدكتور عبده عثمان غالب، أستاذ الآثار والأنثروبولوجيا – بجامعة صنعاء، والدكتور سامي شرف محمد غالب الشهاب، أستاذ الآثار والعمارة المساعد – جامعة أزال للتنمية البشرية، خبير الآثار في الهيئة العامة للآثار والمتاحف – اليمنية، بعنوان (تهامة في عصور ما قبل التاريخ وصلاتها الحضارية بشرق أفريقيا)، تم نشرها في مجلة القلزم العلمية للدراسات الآثارية والسياحية، العدد الثاني، ذو القعدة 1442 هجرية، يونيو 2021.
وبناءً على المعطيات والاكتشافات الأثرية التي نفذت في عدد من مواقع السهل الساحلي التهامي من قبل عدد من البعثات الأثرية في أوقات سابقة، والتي تم الكشف فيها عن عدد من التلول الصدفية والمراوح الحصوية الساحلية والأراضي الداخلية التي احتوت بداخلها على كثير من المحار والأصداف والأدوات الحجرية المصنوعة من الريوليت والأبسيديان والبازلت، وأواني فخارية تُؤرخ إلى العصر الحجري القديم، والعصر الحجري الوسيط والحديث، وأخرى تعود إلى العصر البرونزي والحديدي عصور ما قبل الإسلام.
ناقشت هذه الدراسة، من خلال المخلفات المادية لمجتمعات الصيادين والجامعين الأوائل، الدليل الأثري حول فرضية هجرة البشر الأوائل من وإلى قارة إفريقيا، والطرق التي سلكها المهاجرون الأوائل أثناء خروجهم إلى البر العربي في قارة آسيا (تهامة) وانتشارهم منها صوب الشرق إلى حضرموت ومأرب والجوف وإلى بقية مناطق اليمن والجزيرة العربية.
هجرة الإنسان منتصب القامة: الطرق والمسارات
أخذت الدراسة أحدث الفرضيات العلمية لعلماء ما قبل التاريخ التي تفسر وتجيب على التساؤل المطروح حول كيف وصلت تلك الأدوات البدائية للبشر الأوائل إلى غرب قارة آسيا؟ حيث تقول إنه بعد ظهور “الإنسان منتصب القامة” بزمن قصير في شرق إفريقيا، غامرت مجموعات من هذا الجنس البشري حوالي 1,500,000 سنة، وخرجت من قارة إفريقيا إلى قارة آسيا، ووصلت تحديدًا إلى الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية (نطاق تعز) من ساحل تهامة، ومن منطقة تهامة انتشرت إلى بعض مناطق الجزيرة العربية.
سلكت هذه المجاميع البشرية في خروجها إلى الساحل التهامي مضيق باب المندب من منطقة جيبوتي حاليًا، وفي رأي بعض علماء الآثار والأنثروبولوجيا، أصبح هذا الإنسان (منتصب القامة) الذي وصل إلى تهامة هو أول البشر يدخل قارة آسيا.
كما تشير الدراسة وفقًا لفرضية والن (Whalen) إن مجموعة الإنسان منتصب القامة التي خرجت من قارة إفريقيا إلى آسيا حوالي 1,500,000 سنة لم تكن المياه المتمثلة في ممر باب المندب الضيق تقف عائقًا أمامه على افتراض أن هذا الحاجز الصغير للمياه (باب المندب) كان ضيقًا جدًا في بداية عصر البليستوسين وأن المياه لم تكن آنذاك تعيق هذا الجنس البشري (هومو إريكتوس) من العبور بأي نوع من الأطواف، فالأحداث الجليدية التي حدثت خلال الفترات الجليدية الفاصلة من عصر البليستوسين، يجعل اليابسة آنذاك الواقعة على الساحل التهامي تمتد إلى جزيرة بريم اليمنية التي تبعد 20 كيلومترًا عن الساحل الإفريقي في منطقة جيبوتي، كما أن الزحزحة التي حدثت للجزيرة العربية في العصور القديمة أنقصت المسافة من 6 إلى 7 كيلومترات أخرى، جمعًا خلفية بذلك مسافة 8 إلى 9 كيلومترات فقط التي كانت تفصل قارة إفريقيا عن قارة آسيا وهو أمر يجعل عبور الجنس البشري (هومو إريكتوس) مضيق باب المندب أمرًا مقبولًا.
تأثير البيئة والثقافة في تطور مجتمعات تهامة القديمة
وبلا شك، فإن هذا الإنسان الذي عبر من الساحل المقابل في إفريقيا إلى الساحل التهامي استقر فترة طويلة من الزمن في المناطق الساحلية والأجزاء الداخلية من سهل تهامة وبدأ بممارسة نشاطه الإنساني والتاريخي، وعلى هذه الرقعة الجغرافية تشكلت ثقافة الإنسان الأولى من لغة ومعتقد وثقافة وغيرها من نشاطات وثقافات الإنسان الأولى التي ما زالت تهامة تحتفظ بصور كثيرة منها في ذاكرة الأرض والإنسان، تمثل مختلف مراحل التاريخ.
وبعد فترة طويلة من استقرار هذا الجنس البشري، كما تؤكده المخلفات واللقى الأثرية والدلائل العلمية التي وجدت في منطقة تهامة وتعود إلى تلك العصور الموغلة، وبعد اكتشافه الزراعة خلال الفترة التي سكن واستقر فيها عند مصاب الأودية وأقدام الجبال، بدأ بالصعود نحو الجبال واتجه، كما تشير الدراسة، إلى مأرب والجوف وحضرموت وأنحاء متفرقة من اليمن والجزيرة العربية ليعود اليمنيون وفي مقدمتهم قدماء التهاميين بهجرة عكسية إلى شرق أفريقيا خلال الألف الثاني قبل الميلاد والانتشار من تهامة واليمن عمومًا إلى أنحاء وأصقاع متفرقة من المعمورة.