25عاماً على رحيل البردوني.. شاعر اليمن الموؤد.
فتحي أبو النصر
تصادف هذه الأيام الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الشاعر عبد الله البردوني، وما زال غامضاً مصير أعماله الأخيرة المختفية. لم تخرج إلى الضوء منذ وفاته في 30 آب/أغسطس العام 1999. لكن لمصلحة مَن هذا التغييب المتعمد الذي يتعرض له إرث البردوني؟ وهل يعاقب على مواقفه السياسية والفكرية التي كان معروفاً بها ضد نظام علي عبد الله صالح؟ ما نعرفه منذ سنوات بشكل مؤكد، أن للبردوني كتاباً سياسياً، وكتاباً فكرياً، وكتاباً نقدياً، وسيرة ذاتية، ورواية، وثلاثة دواوين شعرية، رهن المجهول حتى اللحظة. بالتأكيد من غير المعقول أن تصبح مؤلفات البردوني التي كان أعدها للطباعة قبل وفاته – والأخرى التي كانت تحت الطبع أيضاً- رهن الأمزجة التي لا تحترم نفسها. ثم هل يعقل فعلاً أن تمارس ثقافة إقصاء المختلف واللاتسامح والكراهية ضد البردوني على هذا النحو الممنهج؟
تحديداً هل ثمة فرمان بوليسي خفي صدر بحق مؤلفات الأعمى الأكثر استبصاراً في التاريخ الثقافي اليمني، والذي اعتبر من عباقرة شعراء الإنسانية القلائل لينالها هذا المصير المجحف؟ كان البردوني “أسطورة” في الشعر العربي، إذ كان من آخر الحراس الكبار للشعر الكلاسيكي بامتياز مشهود، وبالنسبة إلى اليمنيين تعدّ آثاره الشعرية والفكرية خالدة وذات إجماع نخبوي وشعبي. وحتى اكبر المختلفين مع البردوني يجمع على تميز شعريته بالنضج والتوهج والحماسة الخلاقة، كما بالتقنية النوعية والفرادة والأصالة الفنيتين. لقد حمل البردوني على عاتقه منذ أربعينيات القرن الماضي، قضايا العدالة والتحرر والتقدم. كان مع توهج الذاكرة الجمعية بكل شغف وحبور وإصرار، وكان أكثر المثقفين اليمنيين في العصر الحديث له قدرة خصوصية على خلق وعي وطني.
بمعنى آخر كان لا يعتز بشيء قدر اعتزازه باليمن الحضارية التي تم تجريفها ومحوها. ثم انه نبش روح اليمن التاريخية مستوعباً أهمية ترميم الهوية الوطنية لليمنيين. عاش البردوني عصامياً وساخراً وحزيناً وصاحب موقف ورؤيا خارج مواقف الجماعات المغلقة والسلطات المأزومة والمخادعة. رحل البردوني وقد خلد اسمه كواحد من أعظم شعراء العربية على الإطلاق. تعرض لطفولة قاسية أصابته بعمى الجدري مبكراً، لكنه تغلب على كل شيء وطور ثقافته بحيوية خلابة في عز الزمن الصعب. حصل على إجازة من دار العلوم في العلوم الشرعية والتفوق اللغوي. ثم عمل مدرسًا للأدب العربي، كما عمل محامياً وقاضياً وشغل وظائف عديدة ذات طابع إعلامي ثقافي. اعتقل من قبل نظام الإمام أحمد يحيى حميد الدين، وكان من أهم المحرضين لاندلاع الثورة اليمنية الأولى أيلول/سبتمبر 1962، واستمر بقيم جمهورية حد النخاع بالضد من كل القيم الملكية التي استمرت تدأب في حضورها الاجتماعي والثقافي والسياسي. ثم في العام 1970 كان من أوائل الساعين لتكوين وتأسيس اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين الموحد قبل الوحدة اليمنية، وانتخب رئيساً للاتحاد في المؤتمر الأول له بإجماع. كان بارعاً في إعادة الاعتبار لمضمون الشعر كما لفكرتي الإنسان والوطن، وبشكل نوعي كان ساند الوحدة اليمنية رغم صراعات النظامين في الشمال والجنوب قبل الوحدة. في العام 1982 كرّمته الأمم المتحدة بعملة فضية عليها صورته كمعوق تجاوز العجز. كذلك تألق البردوني، وكان رائياً متنبئاً لا يشابه، كان هو الواحد الذي لا يتكرر، تميز باشتقاقاته اللغوية، وعنصري الدراما والحوار في الشعر. بل لعل البردوني أول وأبرع من قدم-على سبيل المثال- بدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وأمل دنقل وانسي الحاج للقارئ اليمني.
كان مستوعباً لأبعاد ومضامين التجديد في الشعر العربي وغير متعصب لشكل شعري وحيد. كان ناقداً حيوياً وضليعاً في القديم والجديد في آن، كما في النظريات العربية والغربية معاً. زاوج بين الشكل القديم والمضامين الحديثة على نحو مبهر، وكان قارئاً موسوعياً يزخر بالإدهاش، إذ حفظ عن ظهر قلب كل ما اطلع عليه. كذلك كان قائداً فذاً لمعارك ثقافية وفكرية وسياسية عديدة ساهمت في تحرير الذات اليمنية. وفي بلد استنزفته الصراعات كاليمن كان صوت البردوني بوصلة للوطنية اليمنية تماماً. المؤرخ الفذ، والتاريخاني صاحب الإجماع الذي اخلص على مدى أكثر من نصف قرن لقضايا المواطنة والدمقرطة والتحديث. وهكذا: لا تذكر اليمن إلا ويذكر معها البردوني الذي ترك رحيله فراغاً شاسعاً في ساحتي الشعر والفكر اليمنيين نال جوائز عربية عديدة عن استحقاق ولم ينتظرها أبداً، ظل منجزه الإبداعي محل اهتمام دراسات أكاديمية مرموقة نال أصحابها الماجستير والدكتوراة من جامعات يمنية وعربية. كانت تحليلاته عن اليمن أشد عمقاً ونفاذاً. في الواقع يتفاقم القلق في أوساط محبي البردوني من أن يتم تحريف كتبه ومؤلفاته المختفية بهدف تشويه مواقفه مثلاً.
والحاصل، أننا في ظل وضع مثخن بالاستلاب واللامبالاة والتواطؤ وعدم المسؤولية. ذلك أن أرملته وبقية المقربين له في الأسرة لم يتحدثوا بشيء عن ارث الراحل، والأغرب هو عدم انشغال أربعة من وزراء الثقافة، منذ رحيله، بهذه القضية بالغة الأهمية. من المعروف عن الرئيس السابق على عبدالله صالح أنه كان يتعامل مع البردوني كخصم. وفي السياق، لطالما تعرض البردوني للإجحاف من قبل عصابات القبح وميليشيا الثقافة على السواء. لكنه صمد أمام مختلف الأهوال والإساءات التي حاصرته. رغم ذلك فإن ما تتعرض له مؤلفاته المختفية هو بمثابة الوأد الذي لا يطاق، بمعنى آخر يعد الإخفاء القسري الذي يتعرض له البردوني جريمة مروعة بحقه، كما بحق الذاكرة الثقافية اليمنية أيضاً.
على أن البردوني كان وسيظل أكثر حضوراً وتألقاً رغم أنف كل من يدأبون على تغييبه، لا شك. والحاصل أن كتبه ودواوينه السابقة المعروفة هي: 12 ديواناً و8 مؤلفات فكرية ونقدية مهمة حول الشعر اليمني وفنون الأدب الشعبي وقضايا ثقافية واجتماعية وسياسية يمنية مختلفة، أصدرها ما بين العامين 1961 و1994، قد اختفت غالبيتها من الأسواق غالباً، في حين أن منها ما نجده بسعر غال وبشكل نادر، والسبب عدم صدور طبعات شعبية جديدة عنها من بعد غياب البردوني الذي عرف بأنه كان يدعم مؤلفاته ويطبع منها الكثير ليحصل عليها الجمهور بسهولة تامة وبشكل رخيص جداً. بإختصار: يشعر عشاق البردوني بالعار كله، إزاء ما يتعرض له من النكران وهو الفرد الذي كان بعطائه الذاتي يتفوق على جهود المؤسسة، المؤسسة التي اخلصت لحملة المباخر، أو المداهنين الذين يرضى عنهم “الزعيم” للأسف، فضلاً عن أن مؤلفاته الأخيرة التي أعلن عن انجازه لها قبل وفاته، ما زالت في مصير ملتبس وغير مفهوم حتى اللحظة، ولم تر النور بعد.
الإخفاء القسري لإرث البردّوني جريمة ثقافية بكل المقاييس
استعادة
في العام ٢٠١٢ وجه الشاعرين اليمنيين احمد العرامي وفتحي أبو النصر مطالبتهم لوزير الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بالكشف عن مصير إرث الشاعر اليمني العملاق عبدالله البردوني, مشيرين إلى أن بعض الأعمال التي كان الشاعر الكبير قد أعلن عنها قبل وفاته لم تظهر بعد. وطالبوا بتشكيل لجنة تحقيق رسمية ومستقلة لحسم ما يتعلق بهذا الإرث وإنهاء التخوف من تحريف كتب الشاعر ومؤلفاته المختفية؛ «بهدف تشويه مواقفه».
( نشرت المطالبة حينها في معظم الصحف المحلية)
ووقع مع بيان العرامي وأبو النصر 7 من أدباء وكتاب اليمن قالواوزير الثقافة وأعضاء اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وكافة قيادات ومنتسبي وناشطي الهيئات والمنظمات الحقوقية والثقافية والوطنية في البلاد «أنتم مطالبون بمهمة الاضطلاع في – والحث على – الكشف عن مصير إرث شاعر ومفكر اليمن العملاق عبدالله البردّوني», موضحين أن «هذه هي الذكرى الثالثة عشرة منذ وفاة عبدالله البردّوني ورحيله عن عالمنا مخلفًا تجربةً أدبية شعرية وفكرية مختلفة ومغايرةً وثرية، وحتى الآن لم تظهر بعض أعماله التي لم تكن قد رأت النور في حياته، وكان أعلن عنها قبل وفاته في أكثر من حوار صحفي ومناسبة».
والأعمال التي أعلن عنها الشاعر قبيل وفاته ولم تر النور بعد, بحسب البيان الذي تلقى «مأرب برس» نسخة منه, هي: «رحلة ابن من شاب قرناها (شعر), العشق على مرافئ القمر (شعر), أحذية السلاطين (شعر), الجمهورية اليمنية (فكر سياسي.. استكمال لكتابه الشهير ‘اليمن الجمهوري’), الجديد والمتجدد في الأدب اليمني (أدب ونقد)», إضافة إلى «العم ميمون (رواية), والسيرة الذاتية».
وقال الأدباء والكتاب اليمنيون في بيانهم: «بالرغم من كل المطالبات والنداءات منذ وفاته وحتى الآن إلا أن أحدًا لا يسمع أو بالضبط لا يريد أن يسمع ويجيب ويتفاعل!», ما يبعث على الشعور «بالأسى العميق حين نقف مطالبين بالكشف عن إرث البردّوني الضائع في حين كان يفترض أن نجد أدبه ومؤلفاته الفكرية تدرس في المدارس والجامعات، واسم يخلد ويكرم في الشوارع والمؤسسات كأقل ما يجب تجاهه».
نص الـ(بيان بخصوص إرث البردّوني الضائع)
البيان صاغه الشاعرين اليمنيين احمد العرامي وفتحي أبو النصر ووقع عليه 7من الادباء والكتاب اليمنيين
الإخوة والسادة وكل أولي الشأن والاهتمام:
وزير الثقافة وأعضاء اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
وكافة قيادات ومنتسبي وناشطي الهيئات والمنظمات الحقوقية والثقافية والوطنية في البلاد.
أنتم مطالبون بمهمة الاضطلاع في – والحث على – الكشف عن مصير إرث شاعر ومفكر اليمن العملاق عبدالله البردّوني.
فهذه هي الذكرى الثالثة عشرة منذ وفاة عبدالله البردّوني ورحيله عن عالمنا مخلفًا تجربةً أدبية شعرية وفكرية مختلفة ومغايرةً وثرية، وحتى الآن لم تظهر بعض أعماله التي لم تكن قد رأت النور في حياته، وكان أعلن عنها قبل وفاته في أكثر من حوار صحفي ومناسبة ومنها:
رحلة ابن من شاب قرناها – شعر
العشق على مرافئ القمر – شعر
أحذية السلاطين – شعر
الجمهورية اليمنية – فكر سياسي؛ استكمالًا لكتابه الشهير «اليمن الجمهوري»
الجديد والمتجدد في الأدب اليمني – أدب ونقد
العم ميمون – رواية
السيرة الذاتية
وإننا لنشعر بالأسى العميق حين نقف مطالبين بالكشف عن إرث البردّوني الضائع في حين كان يفترض أن نجد أدبه ومؤلفاته الفكرية تدرس في المدارس والجامعات، واسمه يخلد ويكرم في الشوارع والمؤسسات كأقل ما يجب تجاهه، لكن وبالرغم من كل المطالبات والنداءات منذ وفاته وحتى الآن إلا أن أحدًا لا يسمع أو بالضبط لا يريد أن يسمع ويجيب ويتفاعل!.
ولعلَّ ما يبعث على الأسف أكثر هي تلك الخيبة الكبيرة التي يمكن اعتبارها خلاصة لمنجز بعض الشخصيات التي قدمت من الثورة أو من اليسار المفكر كوزير الثقافة الحالي والذي كنا نعول عليه كثيرًا لكنه لم يعر اهتمامًا لعملاق كالبردّوني، ولم يستجب للمطالبات المتكررة والمستمرة بالكشف عن إرثه واستعادته، والتي كان آخرها النداء الذي وجهه الزميلان الشاعران: فتحي أبو النصر، وأحمد العرامي في بيان سابقٍ صدر عنهما عقب تولي وزير الثقافة الحالي منصبه.
ثم أن الغني عن القول إن البردّوني حالة إبداعية استثنائية في تاريخ اليمن، كونه صاحب تجربة شعرية أدبية متفردة تعد إضافة إبداعية حقيقية إلى الذاكرة الأدبية اليمنية والعربية والعالمية، كما أن معاملةً كهذه التي يلقاها إبداعه لا يمكن أن تكون إلا إساءة للهوية الثقافية والإبداعية للإنسان اليمني؛ نظرًا لما يمثله البردّوني كأديب ومفكر استثنائي حمل الناس في قلبه جمرةً وقصيدةً، وجسد أيقونة حلم اليمن الجديد الذي ناضلت من أجله أجيال منذ ما بعد ثورة 62م, وحتى الثورة الجديدة, ولا يزال البردّوني متفردًا في معناه ومبناه كأيقونة مستقبلية معرفية من أجل هذا الحلم الجليل.. فهل استحق هذا الخصام من موقعه الرفيع المائز في الثقافة اليمنية التقدمية التنويرية؟
من هنا – واستمرارًا لموقفٍ ثقافي وأخلاقي وطني لن يتغير – نجدد تحميل وزارة الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب مسئولية كاملة أمام التاريخ والضمير جراء ما طال إرث البردّوني الضائع من لامبالاة وتمييع، مؤكدين التفافنا جميعًا حول مطلب واضح وهو تشكيل لجنة تحقيق رسمية ومستقلة لحسم هذا الأمر وعدم إبقائه عالقًا وإعلان نتائج ما تم التوصل إليه للجمهور أولًا بأول وبشفافية تقتضيها الأخلاق الوطنية والمسئولية التاريخية. خصوصًا وأن التخوف لا يزال منتشرًا في الوسط الثقافي من أن يتم تحريف كتبه ومؤلفاته المختفية – في حال ظهرت فجأة مثلًا – بهدف تشويه مواقفه بالطبع.كذلك نأمل من المعنيين تحملهما المسئولية الجادة لا مواصلة الغيبوبة والاستهتار بحيث تبدو أيضًا كأنها مع سبق إصرار وترصد، فيما يستهجن العقل والمنطق ذلك بالتأكيد، تمامًا مثلما مقتضيات العدالة والإنصاف حيث وأن هذا الإخفاء القسري لإرث البردّوني جريمة ثقافية بكل المقاييس أو هكذا ينبغي إذا كان هناك مثقال ذرة من حس ثقافي ووطني حقيقي.
ونكرر: إنه بعد مضي أكثر من 13 عامًا على وفاته لا يعرف اليمنيون إن كانت مؤلفاته الأخيرة المختفية – المذكورة آنفًا أعلاه – رهنًا لصراعات الإرث والأسرة، أم أن شخصيات نافذة في النظام السابق هي من تحوز وتستأثر عليها – حتى الآن – بشكل مجحف ودنيء كنوع من العقاب على مواقفه السياسية والفكرية التي كان معروفًا بها..
في السياق نعيد التنويه بشأن منزله الذي ما يزال رهين خلافات ورثته الأسريين – كما يقال – بدلًا من أن تقوم الدولة بحل أي خلافات من هذا النوع لصالح تحويله لمتحف ثقافي كما كانت قد ادّعت الحكومة بذلك سابقًا، خصوصًا وأنه ثبت مؤخرًا أن المنزل كان باسم البردّوني ولم يكن باسم أحد.
المجد للبردّوني الذي سيظل يحضر دائمًا في العقل الثقافي والوطني رغم كل ما يراد له من محو ونسيان. البردّوني الذي نؤمن تمامًا بأنه عشق اليمن بأعصابه كلها، كما فرض رمزيته الثقافية والوطنية والإنسانية على أفئدة اليمنيين الشرفاء شاعرًا ومفكرًا وناقدًا ومؤرخًا؛ لأنه كان ذلك المهجوس الأكثر نقاوة وبسالة وخصبًا واستشرافًا بهموم وأحلام الديمقراطية والعدالة والتحرر رغم كل مرارات الواقع.
ولقد انتزع البردّوني الاحترام والتقدير الخالصين على مستويات شعبية عالية يمنيًا، بل ومن المؤسسات الثقافية في الخارج العربي والدولي قبل الداخل للأسف، في ظل توجه ثقافي وسياسي رسمي يمني كان البردّوني – بمجمل مبدئيته التي لا تتضعضع وبشرف روحه الجسورة الموقف والرؤية – لا يهدأ في فضح مغالطاته وتشويهاته للوعي كما للمعرفة وللضمير ولحلم اليمن الجديد أيضًا دون هوادة ولا تأخر ولا ارتجاف.
صادر بتاريخ30 أغسطس2012م – صنعاء
عن الشعراء والأدباء:
توفيق الجند
أحمد الطرس العرامي
محيي الدين جرمة
فتحي أبو النصر
عبد الرحمن غيلان
أحمد الزرقة
محمد الشلفي
عبدالله كمال
محمد ناصر المقبلي
البردوني إرادة الإبداع والتحدي.. النشأة، الريادة، والتجديد
عبد الباري طاهر
نقيب الصحفيين اليمنيين الأسبق
في قرية صغيرة (بردّون) من قرى رداع -المشهورة بمآثرها الحضارية الحميرية: “قصر بينون ونقوشها المسندية ومعالمها الإسلامية المعمارية، “مسجد العامرية” الذي لا يقل أهمية وروعة عن “نوتردام” أو أيا صوفيا أو تاج محل أو الجامع الأمويَ- ولِد عبد الله بن حسن البردوني، ناحية الحدا شرقي ذمار.
ليس من تاريخ دقيق ومحدد لولادة الشاعر الكبير، في بلد كان سكانه يؤرخون للمواليد بالجوائح والآفات؛ فيؤرخون بسنة الجدري، أو عام المجاعة، أو الجراد.
ويقدر الأستاذ عبد الله مولده بحدود العام 1929 أو 1930 على سبيل التقريب. ويقارب مولده مع تذكر قريته ضرب الطائرات البريطانية مدينة قعطبة عام 1928، وبغرق محمد البدر ابن الإمام يحيى في الحديدة. والأستاذ عبد الله كثير العودة لذكريات طفولته البائسة محتفظاً بأدق التفاصيل وأكثرها ضآلة وهامشية.
مسيرة البردّوني التي أرخ لها في سرديته الشائقة “مذكرات مواطن”، ونشرها في صحيفة “26 سبتمبر”، وعلى مدى بضعة أشهر، وكان يذيلها بتوقيع المواطن عبد الله البردوني. والبردوني ينحدر من عائلة تعمل في الزراعة.
التحدي الكبير والإبداع العظيم هما بحق عنوان سِفْر خلود الشاعر والسارد البردوني؛ فالطفل الفقير حد الكفاف، وُلِد بين الحربين الكونيتين 1914 – 1918، 1939 – 1945، في شمال اليمن (المتوكلية اليمنية) التي كانت خرجت للتو من الاحتلال التركي، والمعرضة لتهديد الاستعمار البريطاني الذي احتل جنوب اليمن (المحميات الست)، وتواجه النزاع على نجران وعسير وجيزان في الشمال مع الإدريسي.
كانت المتوكلية اليمنية المحاصرة من الجهات الأربع قد رزئت باستقلال أسوأ بكثير من الاحتلال التركي نفسه. فالإمام الجديد يحيى بن محمد حميد الدين رجل دين أنموذجه المفضل للحكم تركة آبائه من آل القاسم بن محمد 1636 – 1849م، 1045 – 1265ه، كما أن صلاته وعلاقاته بالعصر غاية في العداوة والحذر الفاجع.
ولم يكن الصراع حينها مع الأدارسة ثم السعوديين في الشمال والمواجهة مع بريطانيا في الجنوب وحده ما يتهدد المملكة الوليدة والقروسطية في آن. فهناك تمردات تعم معظم مناطق مملكة الموتى كتسمية السائح الإيطالي، سلفاتور أ. بونتي، في كتابه “مملكة الإمام يحيى”. فحاشد القبيلة القوية والتي آزرته في الحرب ضد الأتراك، قد بدأت في الميل نحو الإدريسي الذي يوزع الذهب بسخاء، وهناك تمردات في المقاطرة قرب “الحدود” مع الجنوب، وتمردات في البيضاء القريبة من المحميات، وتمرد قبيلة الزرانيق والكثير من القبائل في تهامة. وكانت المجاعات والأوبئة تفتك بالمئات والآلاف. وكان الشاعر نفسه ضحية الإصابة بالجدري؛ مما أفقده البصر وهو في العام الخامس أو السادس من عمره، حسب إشاراته المتكررة في كتاباته.
وهنا تبدأ رحلة ومعاناة وتحدي البردوني الإنساني الجلد والصبور المكافح والعبقري؛ فعاهتي الفقر والعمى على قسوتيهما في مجتمع أمي شديد البؤس و التخلف، لم تمنعاه من مواصلة التعليم في قريته أولاً، ثم الالتحاق بذمار والتي كانت تعرف حينها بـ”كرسي الزيدية” كمركز ديني وتعليمي مهم في حياة اليمن.
وفي ذمار حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وهو في الثامنة أو التاسعة. وقد أجاد قراءة القرآن على القراءات السبع قبل الثالثة عشرة، كما أتقن التجويد وشيئاً من علوم القرآن.
في الثالثة عشرة بدأ يغرم بالشعر؛ فهو طالب في مدينة التدريس والفتوى الزيدية، وهي أيضا مدينة الشعر والأدب والإبداع؛ فهي مدينة الشبثي، الشاعر الشعبي المهم في ذمار ورداع والمنطقة الوسطى. كما أن منطقته أيضاً جزء من منطقة الحكيم الشعبي الآخر علي بن زايد. وذمار منطقة الشعراء والأدباء من آل الوريث وآل الديلمي وآل الموشكي وآل باسلامة، وهي بيوتات شهيرة بالمعرفة والأدب والشعر.
ويتذكر البردوني في حديثه لتلميذه الحارث بن الفضل، أنه ومنذ الثالثة عشرة من عمره بدأ يغرم بالأدب قراءة ومراجعة وتأليفاً، وأنه قد بدأ بقراءة دواوين الشعر القديم.
ولا يحدد فترة معينة لانتقاله إلى صنعاء، ولكن الراجح أنه قد انتقل إلى صنعاء بعد أن وصل مرحلة متقدمة من الإلمام بمعارف عصره من تفسير وحديث وفقه وعلم كلام وأصول وعلوم آلة. وقد أصبحت شهرته تتسع بفضل نبوغه وشاعريته الواعدة.
ويقيناً فإن مطلع الأربعينيات بداية التحاقه بدار العلوم في صنعاء بعد أن درس لبضعة شهور في الجامع الكبير.
ومنذ البدء التحق بالصف الرابع المحتوي على أربع شعب، مما يعني بلوغه مرتبة متقدمة ليصبح بعدها مدرساً للأدب العربي شعراً ونثراً في المدرسة العلمية نفسها التي تخرج فيها. ويشير إلى أنه بدأ تدريس الأدب العربي في المراحل المختلفة بما في ذلك عصر النهضة، وقد درس ودرس الشعراء: شوقي، البارودي، حافظ، وصبري. ومن بعدهم: إبراهيم ناجي، علي محمود طه، أبو القاسم الشابي، وغيرهم.
وتقدم سيرته السردية (غير المطبوعة) وصفاً رائعاً لهذه المرحلة، ومدى أثرها على تفكير الشاعر وإبداعه. وربما أن تفتح وعيه على أدباء ومفكري عصر النهضة قد دفعه إلى معارضة الإمامة الثيوقراطية ونقدها؛ فقد نشرت صحيفة “صوت اليمن” -الناطقة بلسان الجمعية اليمنية الكبرى (حزب الأحرار) والتي صدرت في عدن عام 1946 – خبراً عن اعتقال الشاعر الكبير عبد الله البردوني على قصائده الناقدة للإمامة.
ولم يقف البردوني، الدائم الإبحار نحو شواطئ المعرفة والتحدي، عند تخوم المعارف السائدة في مدرسة ذمار وصنعاء القديمة، بل راح يبحث وينقب عن كتب السنة وعلوم المنطق والفلسفة، بمذاهبها المتنوعة والمتعددة وبمعارف وفكر القرن العشرين؛ فقد كان شغوفاً بالبحث والتنقيب عن الجديد، مما جعل منه عالماً موسوعياً ومفكراً كبيراً. وانعكست ثقافته الواسعة على عمق تجربته الشعرية وسرده المائز.
ولم يكن البردوني، الذي كان يخصص معظم أوقاته للقراءة، يكتفي بقراءة الكتاب مرة واحدة، فقد كان كثير الرجوع إلى ما يقرأ مع ما يتمتع به من حافظية وسرعة إدراك وبداهة. وكان وقته موزعاً بين الاستماع لقرائه وبين الإملاء. وللإملاء أوقات دقيقة ومحددة. كما أن للاستماع أيضاً أوقاته المحددة.
بلغ البردوني مرتبة الفتيا الدينية بعد تخرجه من دار العلوم التي توازي شهادتها العالمية الأزهرية حسب المنهج المدرس حينها. ولكن البردوني الشاعر والأديب قد تغلب على البردوني القاضي أو المفتي؛ فراح يتابع ويعب من قراءة الأدب العربي والنهضة الحديثة، ويكون مواهبه ومداركه الأدبية.
كما يلاحظ اهتمامه وشغفه بتتبع التطورات الداهشة في الفكر والأدب والفلسفة؛ فهو قارئ جيد لتيارات الحداثة وبالأخص في الشعر. وهو ما انعكس على تجربته الشعرية المنتمية للكلاسيكية الجديدة (حسب النقد المدرسي) ولكنها بمفرداتها وأخيلتها وصورها تمد جذورها إلى الشعرية الأكثر حداثة. وقد وقف الناقد الكبير عز الدين إسماعيل حائراً أمام شاعر “عمودي” تزخر أشعاره بالصور والمفردات الطازجة والأكثر حداثة وتطورا، وتوقع باكراً أن يتمكن البردوني من كسر العمود والإبحار إلى شواطئ أكثر اتساعاً(1).
.أما البردوني فالغالب عليه استعانته بالأبنية والتراكيب دون المعجم. إنه يقف في منتصف الطريق: رِجْل في الماضي ورجل في الحاضر. وليس هذا فيما يتعلق بقضية المعجم والأبنية والتراكيب فحسب، بل هو طابع عام لكل موقفه الشعري. إنه شاعر محير. وأظن أنه هو نفسه محير، ومع هذا فيغلب على ظني أنه قادر على أن يخرج من حيرته، وأن يتجاوز منتصف الطريق. وربما شجعه هذا الانطلاق أن شعراء معاصرين مرموقين قد انطلقوا بعد أن كانوا قد وقفوا موقفه، وفي مقدمتهم الشاعر محمود حسن إسماعيل؛ فقد تحرك في السنوات الأخيرة بخطى ملموسة نحو المنطلقات الشعرية الجديدة.
ورأي الدكتور إسماعيل، وإن كان لا ينبغي أخذه على هناته، إلا أن الأهم هو إدراكه لخاصية مهمة في شعر البردوني وهي التمازج بين التقليدي والجديد في قصيدته العمودية. وقد تنبه الناقد الدكتور عبد العزيز المقالح إلى عبقرية وحداثة القصيدة البردونية، وقرأها قراءة أكثر عمقاً وإعجاباً.
يطرح المقالح السؤال الأكثر جوهرية وأهمية: إذا كان البردوني شاعراً كبيراً فما هي خصائص الشاعر الكبير؟
وقبل أن يجيب على هذا السؤال من خلال التتبع النقدي، أود أن أقرر أن الإنجاز الكبير الذي قدمه شاعرنا الكبير في مجال الشعر ليس محل شك، وأنه ليس بحاجة إلى من يثبت هذا الإنجاز الذي به وحده نال صفة الكبير بجدارة، وليس عن طريق المجازفة أو المجاملة، وإنما عن طريق معطياته الكبيرة، وعن طريق تفسير هذه المعطيات وحضورها وتأثيرها الواسع المدى(2).
ويقرأ المقالح الخصائص الفنية عند البردوني، ومنها: القص، الحوار، السخرية، وحدة الصورة، خلق الترابط العضوي بين أبيات القصيدة العمودية من خلال تناسق وانتظام البنية اللغوية والإيقاع الصوتي، كسر حدة الرتابة بكسر حدة الدلالات اللغوية، وبناء صور لا تمت بصلة إلى الذاكرة الشعرية والقوالب الجاهزة. ويرى -ومعه حق- أن الشاعر الكبير هو الذي يستطيع الخروج على الأساليب البلاغية القديمة دون أن يهملها أو يتجاهلها تماماً(3). ويشير إلى إفادته من أبي تمام و يصفه بالمصور الماهر(4).
يعيد المقالح شاعرية البردوني إلى مضامينه الثورية والرؤية المتقدمة، وليس تجاوز البردوني للمعارف التقليدية، ولا تمرده على القوالب المتوارثة، ولا مهارته في التصوير الفني، هي التي جعلت منه شاعراً كبيراً. ولو أن البردوني قد اقتصر على تلك التجديدات الفنية، وحصر همه في أن يجعل من القصيدة البيتية أو العمود حدثاً فنياً مواكباً لعصره، لما أصبح شاعراً كبيراً حقا في ظل الخصائص الموضوعية، تلك الخصائص المعبرة عن الوطنية والثورية والمستجيبة لروح العصروالمنحازة إلى صف المقهورين والمغلوبين على أمرهم(5).
وقد امتلكت خصوصيته الموضوعية من الجسارة ما قاده إلى جسارة مماثلة في الخصوصية الفنية. ولأنه لا يمكن الحديث عن المضامين العظيمة إلا من خلال الحديث عن الأسلوب العظيم، ولأنه لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون إلا في مجال الدراسات الفنية والنقدية، فقد أعطيت لنفسي الحق في أن أخصص الجزء السابق من الدراسة للخصائص الفنية، باعتبارها في العمل الأدبي الوسيلة التي بدونها لا يبقى من العمل الأدبي أي شيء مهما كان عظيماً ومؤتلقاً(6).وبقطع النظر عما قد يبدو من تناقض في صياغة أولويات القيمة الكبيرة لشعر البردوني، إلا أن موهبته العظيمة وثقافته الموسوعية، بما فيها قراءته العميقة للقديم والانفتاح على الحداثة وتيارات العصر الحية وارتباطه بمفهوم ومعاناة الإنسان، ومقدرته على الإبحار والتجاوز… كلها قد جعلت منه واحداً من أهم وأعظم شعراء الأمة العربية في خاتمة ومطلع القرن العشرين والواحد والعشرين. وتكون المعارف كلها والمهارة الفنية في صنع الصورة، واستيعاب تقاليد وقيم الحداثة كلها عوامل اكتمال فجر تجربته الزاكية.
* المصادر والمراجع:
(1) “الشعر المعاصر في اليمن.. الرؤية والفن”. د/ عز الدين إسماعيل.
دار العودة. ص 244 – 245.
(2) “الشعر بين الرؤية والتشكيلـ”. د/ عبد العزيز المقالح. دار العودة. ص 191 – 192.
(3) المصدر السابق. ص 194 – 195 – 196 بتصرف.
(4) المصدر السابق. ص 97 – 98 بتصرف شديد.
(5) المصدر السابق. ص 202.
(6) المصدر السابق. ص 203.
ربع قرن على الرحيل الفاجع
في ذكرى رحيل المقيم شاعر اليمن الكبير الأستاذ عبد الله البردوني
انفتاح الشكل العمودي.. تجربة الشاعر عبدالله البردوني.. الأستاذ صلاح بوسريف (المغرب)
1- برحيل البردوني تتوقف دورة تجربة شعرية زاوجت، في شكلها ونمط كتابتها بين زمنين، وتصورين في الكتابة – أعني في الشعر تحديدا – أثناء حديثي عن تجربة الجواهري باعتباره أحد قمم القصيدة العمودية، كما تسمى في العرف العام، أشرت إلى عبدالله البردوني باعتباره، هو الآخر، أحد آخر هذه القمم المتبقية، وباعتباره أحد الشعراء النادرين الذين حفروا في مجرى القصيدة العمودية، أفقا فرديا يتميز بفرادة تلك الاضافات التي ميزتتجربة البردوني، كما ميزت تجربة الجواهري قبله.
فالشعر المعاصر لم يكن ثورة على الشعر المعمودي باعتباره شكلا، بل ثورة على هذا الشعر باعتباره تصورا ورؤية تقوم في جوهرها على التقليد، وعلى الاتباع، ولم يعد مسموحا في سياقها، بإبداع، أو فتح أي أفق للمغايرة، والاختلاف أعني لفتح النص على مسارب الحداثة، وعلى دم جديد ورؤى مختلفة. وهذا ما جعل من هذا الشعر، في بعض التصورات النظرية التي واكبته، يعتبر القصيدة العمودية نمطا متجاوزا ومنتهيا، لأنه يقوم على الاستعادة واجترار ما سبق. وهذا التصور كان يستثني تلك الأعمال الخلاقة، التي حاولت من داخل الشكل العمودي أن تعيد ترتيب أوضاعها بإعادة وضع اللغة، أو بوضعها، بالأحرى، على محك شعرية تتيح للمعنى أو الدالة أن تتخذ أوضاعا مغايرة، ناقلة النص من أفق المعنى إلى أفق الدلالة أو انفتاحها بالأحرى.
في ضوء هذا الاستثناء الذي ينخرط فيه شعراء أمثال المتنبي وأبو تمام وأبو نواس، وغيرهم، ممن أدركوا خطورة التقليد وعماءه، كان الجواهري، يعيد ترتيب انتسابات لغته وإيقاعاتها، ويسعى، بما يملك من معرفة عميقة بشعر غيره، إلى توقيع الشكل العمودي بذاته هو كشاعر وبصوته وفرادته لا أن يكون مجرد مستعيد أو مردد لأصوات غيره ولأشكال وأنماط كتاباتهم، بما فيها من معان وأفكار وجزئيات شتى.
في هذا الاتجاه، كان عبدالله البردوني، يحفر مجرى تجربته لا باتخاذ الشكل الجديد، شكلا لكتابته، ولا باتباع السائد والسير على خطي من سبقا أو من جاءوا بعده، فهو كان يسعي لتوقيع نصه بخصوصيته، وبما يطبع عصره وزمنه من أحداث وقضايا ، سيظل مرتبطا بها في كل كتاباته. فالشكل العمودي، لم يكن عائقا في وجه الجواهري، كما لم يكن عائقا في وجه البردوني، مع فرق التجربة واختلافات سياقاتها وخصوصيات لغتها وإيقاعاتها، وهذا ما جعل البردوني يحول الشكل العمودي من شكل مغلق دائري مفكك، إلى شكل خطي مفتوح مترابط، أو إلى نسيج متواصل سائر لا يرتد على ذاته وفق ما يمكن أن نسميه هنا بالبناء المرآتي أو التقابلي الذي ظل يميز الشكل العمودي للقصيدة العربية ويطبعها بأوضاع ثقافية، ستنعكس على بناء القصيدة وتجعلها صدى لبيئة سيرفض أبو نواس اعتبارها نموذجا له، لأنه أدرك فرق الإقامة، فاختار كما سيختار الجواهري وعبدالله البردوني، الإقامة في عصره وفي زمنه، وهي إقامة شعرية بامتياز.
2 – تميزت تجربة البردوني بإصراره على كتابة قصيدته بنفس واحد، فهو لا يترك البيت معلقا بين هواءين، فهو كان يلحم أجزاء النص، يكتبا دفعة واحدة، أو يضعه في نسق متسق لاغيا بذلك فكرة البيت باعتباره بيتا من الأبنية أو هو نسيج وحدة، كما يقول ابن خلدون ولأن قضية البردوني الشعرية بالدرجة الأولى، ثم الفكرية؟ لم تكن لتأتي مفككة ناتئة، لذلك كان يدفع بالقصيدة في اتجاه النص، أو ما سيصطلح عليه بالوحدة العضوية، ووحدة الموضوع.
ليس هذا ما يجعل من تجربة البردوني تحظى باهتمام القراء والباحثين، لأن هذا العنصر كان سابقا عليه، لدى مدرسة الديوان وغيرها، وحتى في بعض النماذج الشعرية السابقة فالبردوني، حتى لا يبقى أسير تبعات شكل شعري مثقل بأثار العابرين، سيتجه، كما يؤكد ذلك الأكور عبدالعزيز المقالح، وكما تؤكده تجربة البردوني الشعرية، إلى تحويل أو تحميل الكلمات والألفاظ والصور دلالات تنجو باللفظ من واحدية المعنى، وتعتني باللفظ باعتبارها جزءا من السياق العام للجملة أو النص، ولعل هذا ما سيجعل من البردوني يستعين بالألفاظ العامية، وبالتراكيب اللغوية البسيطة أو القريبة، بالأحرى، من الفهم العام. فلا داعي للسير خلف تداعيات الشكل، والسير وراء ما يستدعيه من تعابير وصور مثقلة بتاريخ يرى فيه البردوني تاريخ أناس مروا وأشادوا بزمنهم إن سلبا أو إيجابا فقصيدة البردوني تتقاطع فيها كل هذه المستويات، ومن خلالها كان ينسج أفق كتابة ترتبط بزمنها، وتسير في سياقه أو تتجاوزه.
فالأفق الدلالي الذي كانت تفتحه تجربة البردوني، هو ما سيتيح لقصيدته أن تخرج عن سياق الكتابات العمودية التي ظلت تستدعي السياقات المباشرة والتعابير التي يسهل على القارئ العارف بجغرافية الشعر القديم، أن يحدد انتماءها، وعند البردوني تصبح الأراضي ملتبسة، من الصعب تحديد مرجعياتها ولو أنه يعتبر من بين المتأثرين بأبي تمام بشكل خاص واستثنائي.
وفي النموذج التالي يظهر بوضوح فرق الهواء الذي يفصل بين تجربة البردوني، وبين من اختاروا الشكل العمودي كشكل تاريخي وليس شكلا شعريا. يقول البردوني:
مثلما تعصر نهديها السحابة
تمطر الجدران صمتا وكآبة
يسقط الظل على الظل كما
ترتمي فوق القامات الذبابة
يمضع السقف واحداق الكوى
لغطا ميتا وأصداء مصابة
مزقا من ذكريات وهوى
وكؤوسا من جراحات مذابة
تبحث الأحزان في الأحزان عن
وتر باك وعن حلق ربابة
عن نعاس يملك الأحلام عن
شجن أعمق من تيه الصبابة
يشعل الأشجار، تحسو ظلها
تجمد الساعات من برد الرتابة
في هذا النموذج وفي غيره ، تصبح اللغة ذات أبعاد، وانشراحات، رغم ما قد يبدو لنا فيها من حصر، لا حد له فهي تتعود وتفتح مساري لتخيلات تصبح اللفظة المعزولة فيها لا معنى لها، شأنها مبنية في سياق خاص ،وهذا ما يجعل الجملة تركيبا نسقيا له ما به يبرر ورود رمزيته (إذا شئنا أن نبسط الصورة) أو انفتاح معانيه حينما يتعلق الأمر بإجتراح معان جديدة وتعبيرات مغايرة.
وتعود بي الذاكرة في هذا السياق إلى قول البردوني التالي. وهو قول مشحون بكثافة دلالية ملبدة بإيحاءات عميقة، وبإحساس فاجع بالزمن،
هرب الزمان من الزمان
خوت ثوانيه الغبية
من وجهه الحجري
يفسر إلى شناعته الخفية
حتى الزمان بلا زمان
والمكان بلا قضية
فهل زمان البردوني هنا هو الزمان الكونولوجي المعروف، وهو ما يمكن أن يقال عن المكان.. فالبردوني يحول كل شيء ويجعله يلبس ثوبا جديدا ملبدا بما يعتمل في رؤية الشاعر من تداعيات وتخاييل باهرة.
-3-
توقف عدد من الدارسين لشعر البردوني عند أحدى أبرز الخصائص المميزة لتجربته، وهي السخرية. والمتأمل في شعر البردوني سيدرك لا محالة قصدية البردوني في من ، شعره بالسخرية أو بالفخاخ التي تجعل من القارئ يحذر شراكها، خصوصا حين. يعلم أن البردوني لا يهجو بل يصور ويشحن صوره بما يجرنا في أحايين كثيرة إلى استعادة نموذج ابن الرومي، ولا أعنيه حرفيا حتى لا يضيع الفرق. فالبردوني ساخر وليس هجاء، وهو ما يجلوه بوضوح قوله في قصيدته الشهيرة، حين يجره الحديث عن اليمن، وشجون اليمن:
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
ولم يمت في حشاها الحب والطرب
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت
في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
ولن استمر في سرد النماذج. التي يرد فيها مثل هذا النوم من السخرية السوداء، المرة التي كان فيها البردوني قاسيا على ذاته قبل أن يقسو على غيره. فلماذا الكذب والتدليس حينما يتعلق الأمر بالشعر، أو بواقع يقدم نفسه هكذا، فالشاعر حين يلتقط الواقع، فهو يلتقطه بتلك المرارة التي تضيع منه حين يكون تعبيرنا خاليا من النفس الشعري المتسم بإيحائيته وبانشراحات معانيه وقوة تصويره.
فالبردوني حين يعمد إلى توظيف السخرية للتعبير عن تدمره وصراراته المتوالية، وهو الذي عاني السجن والاعتقال، فهو يقصد من وراء ذلك إلى تفجير ما يحفل به الواقع من تناقضات قبل أن يسعي لتفجير اللغة وإعادة تنسبيها، وهذا في نظرنا ما يجعل من السخرية عند البردوني، ترتبط في بعض أوضاعها بما أصبح ساريا في تجارب بعض شعراء الحداثة من هذا النوع من الكتابة أو أساليب الكتابة بالأحرى.
-4-
لن أقف عند البناء الحكائي لقصائد البردوني ولا عند الأبعاد الدرامية التي طبع بها كتابته. فقد عمت دراسات سابقة على كشف أبعاد ذلك في تجربة الشاعر ساكتفي هنا فقط بالإشارة إلى هذه المستويات، في كتابة البردوني باعتبارها من أشكال سعيه لفتح الشكل العمودي واجتناب السقوط في البناء العمودي الذي طبع القصيدة في أعتى مفاهيمها، باعتبارها بنا مفككا، وباعتبارها مسورة بعناصر بنائية تحد من طاقة تفجير الشكل وتجعله أبديا أو تعمل بالأحرى، على تأبيده.
البردوني إلى جانب الجواهري، باعتبارهما أخر الأسلاف، عملا معا، كل من زاويته، على تحيين الشكل العمودي، وإخراجه من حرفية التقليد، وحرفية البناء، بخلاف أولئك الذين اختاروا البنية التقليدية للقصيدة بعلاقاتها التاريخية وبخصائصها المباشرة. وقد جرتهم، يقول عبدالعزيز المقال، تلك المحافظة، عن قصد أو غير قصد، إلى استرجاع المضامين القديمة والأشكال التقليدية، ولذلك جاء نظمهم اجترارا، ودفعهم الاستخدام الروتيني للقوالب المتوارثة إلى الأسالب الفنية المسبوقة.
-5-
لن أتحدث عن الجانب الثوري في تجربة البردوني، أيضا، سأكتفي فقط بإيراد نموذج له، لعله، كما أراه، يكفي للكشف عن ميل هذا الشاعر إلى تسخير تجربته في قول الأشياء كما تتبدى له دون قيد ولا شرط. وهذا ما عرف عنه، أو ما أعرفه عنه، وما تقربنا كتاباته منه.
يقول من تجربته في السجن:
هدني السجن وأدمى القيد ساقي
فتعاييت بجرحي ووثاقي
وأضعت الخطو في شوك الدجى
والعمى والقيد والجرح رفاقي
في سبيل الفجر ما لا قيت في
رحلة التيه وما سوف ألقي
سوف يفنى كل قيد وقوى كل
سفاح وعطر الجرح باقى
-6-
وأريد في نهاية هذه الورقة، أن أشير إلى كون البردوني لم يكن شاعرا فقط، بمعنى أنه لم يكن شاعر يكتفي بكتابة الشعر، فهو كان ينخرط فيه نظريا ونقديا. وقد كرس جزاء من جهده النظري والنقدي لإضاة تجربة الشعر اليمني.. وهذا في نظرنا يعكس بوضوح وعي البردوني الشعري. فالشعر لديه ممارسة في الكتابة بمساريه النصي والنقدي أو النظري، أعني أن البردوني كان واعيا بالمسار الذي كان يجترح شعريته في أفقه. ولعل في هذا الظاهرة ما يخفي ربما، تصور البردوني للحداثة، أو انخراطه فيها، رغم ما قد يبدر في موقفه إزاء الشعر المعاصر أو الشكل المعاصر للكتابة الشعرية من تذبذب أو التباس بالأحرى.
عناوين ذات صلة:
عبدالله البردوني.. حادي المنعطفات.. الأستاذ عباس بيضون
مجالس البردوني الأدبية.. الأستاذ عبدالله علوان
أمسية الشاعر الكبير عبدالله البردوني في نادي الجسرة الثقافي
البردوني المبدع والرائي الذي رأى ما لا يُرى.. الأستاذ عبد الباري طاهر
حداثة البردوني الشعرية.. الأستاذ علي أحمد جاحز
البردوني وشاعرية اليمن…وجه من قصة الخلود!!… الأستاذ حسن اللوزي
من أين يا أبني؟ ولا يرنو وأسأله
أدنو قليلاً: صباح الخير يا ولدي
ضممته ملء صدري… إنه وطني
يبقى اشتياقي… وذوبي الآن يا كبدي
(يسعد صباحك) يا عمي أتعرفني؟
فيك اعتنقت أنا قبلت منك يدي
لاقت (بكيلا) (حاشداً) (عدنا)
ما كنت أحلم أن ألقى هنا بلدي
رأيت فيك بلادي كلها اجتمعت
كيف ألتقى التسعة المليون في جسد
عرفت من أنت يا عمي, تلال (بنا)
(عيبان) أثقله غاب من البرد
(شمسان) تنسى الثريا فوق لحيته
فاهاً وينسى ضحى رجليه في الزبد
(بينون) عريان يمشي ما عليه سوى
قميصه المرمري البارد الأبدي
صخر من السد يجتاز المحيط إلى
ثان ينادي صداه: من رأى عمدي؟
……..
سبتمبر1974م
للشاعر الراحل
عبدالله البردوني
رحمة الله عليه
قصائد متنوعة من شعر البردوني من دواوينه الشعرية الخالدة
(1)
الغزو من الداخل
من. ديوان السفر إلى الأيام الخضر
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعا
من المستعمر السري
غزاة لا أشاهدهم
وسيف الغزو في صدري
فقد يأتون تبغاً في
سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشي
يؤنسن وجهة الصخري
وفي أهداب أنثى في
مناديل الهوى القهري
وفي سروال أستاذ
وتحت عمامة المقري
وفي أقراص منع الحمل
في أنبوبة الحبر
وفي حرية الغثيان
في عبثية العمر
وفي عود احتلال الأمس
في تشكيلة العصري
وفي فنية الويسكي
وفي قارورة العطر
ويستخفون في جلدي
وينسلون من شعري
وفوق وجوههم وجهي
وتحت خيالهم ظهري
غزاة اليوم كالطاعون
يخفي وهو يستشري
يحجر مولد الآتي
يوشي الحاضر المزري
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
* * *
يمانيون في المنفى
ومنفيون في اليمن
جنوبيون في (صنعاء)
شماليون في (عدن)
وكالأعمام والأخوال
في الإصرار والوهن
خطى (أكتوبر) انقلبت
حزيرانية الكفن
ترقى العار من بيع
إلى بيع بلا ثمن
ومن مستعمر غاز
إلى مستعمر وطني
لماذا نحن يا مربى
ويا منفى بلا سكن
بلا حلم بلا ذكرى
بلا سلوى بلا حزن؟
* * *
يمانيون يا (أروى)
ويا (سيف بن ذي يزن)
ولكنا برغمكما
بلا يمن بلا يمن
بلا ماضِ بلا آت ٍ
بلا سر بلا علن
* * *
أيا (صنعا) متى تأتين؟
من تابوتك ِ العفن
تسائلُني أتدري؟ فات
قبل مجيئه ِ زمني
متى آتي ألا تدري
إلى أين انثنت سفني
لقد عادت من الآتي
إلى تاريخها الوثني
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
* * *
شعاري اليوم يا مولاي
نحن نبات إخصابك
لأن غناك أركعنا
على أقدام أحبابك
فألهناك قلنا: الشمس
من أقباس أحسابك
فنم يا (بابك الخرمي)
على (بلقيس) يا (بابك)
ذوائبها سرير هواك
بعض ذيول أربابك
وبسم الله جل الله
نحسو كأس أنخابك
* * *
أمير النفط نحن يداك
نحن أحد أنيابك
ونحن القادة الغطسى
إلى فضلات أكوابك
ومسؤولون في (صنعا)
وفراشون في بابك
ومن دمنا على دمنا
تموقع جيش إرهابك
لقد جئنا نجر الشغب
في أعتاب أعتابك
ونأتي كلما تهوى
نمسح نعل حجابك
ونستجديك ألقاباً
نتوجها بألقابك
فمرنا كيفما شاءت
نوايا ليل سردابك
نعم يا سيد الأذناب
إنا خير أذنابك
فظيع جهل ما يجري
وأفظع منه أن تدري
نوفبر1973م
…..
(2)
أحزان وإصرار
من ديوان السفر إلى الأيام الخضر
أحزان وإصرار
موقع البردوني – السفر إلى أيام الخضر
ديوان السفر إلى أيام الخضر > أحزان وإصرار
شوطُنا فوقَ احتمالِ الاحتمالْ
فوقَ صبرِ الصبرِ.. لكن لا انخذالْ
نغتلي.. نبكي.. على من سقطوا
إنما نمضي لإتمام المَجالْ
دمُنا يهمي على أوتارنا
ونغنّي للأماني بانفعالْ
مُرةٌ أحزانُنا.. لكنها-
يا عذاب الصبرِ – أحزانُ الرجالْ
نبلعُ الأحجار.. ندمى إنما
نعزفُ الأشواق.. نشدو للجمالْ
ندفنُ الأحبابَ.. نأسى إنما
نتحدّى.. نحتذي وجهَ المحالْ
* * *
مذْ بدأنا الشوطَ.. جوهرنا الحصَى
بالدمِ الغالي وفردسنا الرمالْ
وإلى أينَ…؟ عزفنا المبتدى
والمسافاتُ – كما ندري – طوالْ
وكنيسانَ انطلقنا في الذرُّى
نسفحُ الطيبَ يميناً وشمالْ
نبتني لليمن المنشود من
سُهُدنا جسراً وندعوهُ: تعالْ
* * *
وانزرعنا تحتَ أمطار الفناءْ
شجراً ملء المدى.. أعيْا الزوالْ
شجراً يحضنُ أعماقَ الثرى
ويُعير الريحَ أطرافَ الظِّلالْ
واتقدنا في حشى الأرضِ هوىً
وتحوّلنا حقولاً.. وتلالْ
مشمشاً.. بُناً.. وروداً.. وندىً
وربيعاً.. ومصيفاً وغلال
نحن هذي الأرض.. فيها نلتظي
وهيَ فينا عنفوانٌ واقتتال
من روابي لحمنا هذي الربا
من ربا أعظمنا هذي الجبالْ
* * *
ليس ذا بدء التلاقي بالردى
قد عشقناه وأضنانا وصِالْ
وانتقى منْ دمنا عمَّتَهُ
واتخذنا وجهَهُ الناريْ نِعالْ
نعرفُ الموتَ الذي يعرفُنا
مَسّنا قَتْلاَ.. ودسناهُ قتالْ
وتقحمنا الدوّاهي صورَاً
أكلتْ منّا.. أكلناها نضالْ
موتُ بعضِ الشّب يُحيي كلّهُ
إنّ بعض النقص روح الاكتمالْ
* * *
هاهنا بعضُ النجومِ انطفأت
كي تزيدَ الأنجمُ الأخرى اشتعالْ
تفقدُ الأشجار منْ أغصانها
ثمّ تزدادُ اخضراراً واخضلالْ
إنما.. يا موتُ.. هل تدري متى
ترتخي فوقَ سريرٍ من مَلالْ؟
في حنايانا سؤالٌ.. ما لهُ
من مجيب.. وهو يغلي في اتصالْ
ولماذا ينطفي أحبابُنا
قبلَ أن يستنفذَ الزيتَ الذبالْ؟
ثمّ ننسى الحزنَ بالحزن ومَنْ
يا ضياع الردّ – ينسينا السؤالْ..؟
مايو1973م
…….
(3)
مرقسيات النفط اليماني
من ديوان رجعة الحكيم بن زائد
يقال: قبيل ختان (الإمام)
رأوك عياناً، ورؤيا منام
وقال الألى: سمعوا شاهدوك
ب(نيعان) ليلاً، ضحى في (شبام)
وقال الألى: شاهدوا ما رأوا
محياك، لكن رووا عن (حذام)
* * *
وقيل: أضأت الدجى فاهتدى
إلى حصن (كحلان) من في (عرام)
وكنت تفسر غيب المنى
وتغدو الهوينا، وتسري اقتحام
* * *
وكان عليك اصفرار النضار
بياض الصلاة، اسوداد الغمام
وودية التين تحت الندى
وورسية الطفل بعد الفطام
* * *
وقيل: بلا أي لونٍ، وقيل:
له حمرة كاحتراق الظلام
وذو لثغةٍ ما لغاها صبي
وشيخوخة غير شيب الأنام
* * *
يكر ويعيا فيبدو كمن
أتى وحده الآن من عهد (سام)
له من قروح (امرىء القيس) ثوب
وكوفية من غيوم الشآم)
بأردانه طيف (سقط اللوى)
ومن (شعب دمون) عرف (البشام)
لأهدابه خفق عصفورةٍ
رأت رازقيا بوادي (رجام)
* * *
وأول من كاشفته عجوز
ب ماذا تبشرنا يا (عصام)؟
توالي الزيارات ليلاً وما
تلم بنا الصبح إلا لمام
تمرقست ضوءاً، ودفئاً لكم
فهل ذاب تبراً قبيلي همام؟
* * *
وقيل: خيالات بؤس هوت ورؤيا
جراحٍ تريد التئام
وقيل: يشق التضاريس من
حشاها، ويعلن بدء القيام
* * *
من القعر يرقى عليه لثام
فينشق نجمين ذاك اللثام
ويمتد كالجدول الملتوي
إلى الخلف، وهو يؤم الأمام
* * *
على نبض عينيه يحبو المساء
كحس العذارى ببدء الغرام
ويطفو على منكبيه كما
على مرشف الكأس- تطفو المدام
* * *
أمن (قاع شرعة) أو مأت أم
تصاعدت من شرق (غيل السنام)
أفاجأت (صعفان) بعد العشاء
وأخبرت (ضوران) قبل (الحيام)
أأبرقت من (قاع ذي ماجدٍ)
فدل البريق عليك الأوام
* * *
وعنك حكى سفر (خولان) جيماً
فزادت (ذمار) على الجيم لام
فأوصى الفقيه اللواتي إلى
سواقيك يسرين بالاحتشام
وألا يقطقطن مثل القطا
وأن يجتنبن احتكاك الزحام
* * *
فباح بمن ضاع فانوسه
بمن خلفت في المغار الحزام
بمثرٍ سرى راكباً وانثنى
كليلاً بكفيه ربع الخطام
بمن عرجت والتوى فارتدت
جذيعاً رأوه انحنى واستقام
* * *
“قفا نبك، أو نحك لا منزل”
تخيم كل قطامٍ قطام
ألي خبر كعشايا (القرود)
أوردي كيوم انقضاء الصيام؟
بذا بشر الرايح المغتدي
ومن عاد أفضى إلى من أقام
* * *
وأخبر عنك الرداعي(تعزاً)
فقالت: ب(صنعا) يباع الكلام
فقال: رأته يريمية
يزاقي مسافرةً من (مرام)
وقالت: إذا ارتاع، فيه اختفى
ثوان، ولاح كحدى الإكام
وبالأمس جام الأواعي هنا
هناك سقى الريح مليون جام
وقال لسرب الرواعي: سلام
وعنهن رد الغموض السلام
ولما أتته ابنة (الدودحي (
حكى ما حكى، فاستهامت، وهام
وبات يباكي الربى كالتي
تفتش عن ناهديها الركام
* * *
ومن ذا رأى حاملات الجرار
عليك يفدن كأظمى الحمام
يجئن خليطاً فلاذي، وذا
ولا من حلال، ولا من حرام
* * *
ويرجعن يهمسن سراً كما
توشوش بنت الثمان الغلام
يقلن ويسكتن، يندى السكوت
كلمع البكا من خلال ابتسام
* * *
أمن شهدوا حرضاً) شاهدوك
فكيف انطفى في العروق الضرام؟
أأسكرت عشراً، ولما أفقن
قليلاً شأى المستهل الختام
* * *
فمن عام خمسين لا حس عنك
حوى حس عامين قتل (الإمام)
بتلك الدياجي دجا شاربي
فقلن: متى بلغ الإحتلام؟
وقيل: متى جئت عفواً وأين
وقيل: أذاعتك (برمنغهام)
وقيل: رآك الألى نقبوا
رماد نجوم علاه (الجثام)
(تمارا) نفت أي نفطٍ، وهل
تجلت من البدء وجه التمام؟
سمعت المدام التي ترجمت
وكنت أود احتضان المدام
توسمتها ثقبت خامتي
فقال سكوتي: وهل أنت خام؟
* * *
لو أني عقرت لها ناقتي
حباني (امرؤ القيس) أعلى وسام
وقال (المراقس) في كل عصرٍ
ولجت الحمى و(امرؤ القيس) حام
قل اليوم: خمر وخمر غداً
ودع للرياح الغضى والثمام
* * *
أكنت كما قيل: مني امتطيت
إلى عام تسعين سبعين عام
وكيف سبقت (أرمكو) إليك؟
متى رف قبل البروق (الخزام)
* * *
إذا كنت أمس اخترقت النظام
فهل أحرق اليوم هذا النظام؟
“إذا نام أسمو سمو الحباب”
إليه أريه وصال الحمام
وأني وإن كنت أهمي سناً
ودفئاً، على الحرق أقوى التهام
* * *
رماني إلى حيث أأبى المتاه
وبيني وبيني أهاج الخصام
لماذا لغير بيوتي أضأت
وأطفأت أشواق أهلي الكرام
أتدري عليهم عقدت الفؤاد
بيوتاً، قبوراً، شراعاً، خيام
أجس ضلوعي فذا (خارف)
وذا (الوهط) هذا (زبيد) و(يام)
أوهمتهم بي، وما زرتهم
غداة وصولي، ولا الوهم دام
أهذا هو الخير، قالوا وقلت
كما ينفث الغمد عنه الحسام
* * *
أيمت داراً برغم الديار؟
أما قلت لا وفمي في الرغام؟
وكانت سكاكينهم لا تجف
وكانت بنادقهم لا تنام
ولا من يقول: مساء الردى
ولا من يعزي (هدى) أو (سهام)
* * *
كأهلي ستدمغني بالسقوط؟
وليت الذي يدعون اتهام
رأوني وخلوا زماني فضعت
بآبار من في يديه الزمام
أليس الذي استاقهم مر بي
ومني احتواني، إليه اغتنام
ف ماذا تسمي كهذا النظام؟
لكل أوانٍ وجوه وهام
أهذا الأوان له أوجه
وهام، ثوانيه، صخر عقام؟
ذوي الأمر، من ثلة القادرين..
أما القادرون خلاف العظام؟
فأم العناقيد محنية
وغير الجواني طوال القوام
* * *
بني وطني من درى أينا
أحر انتماءً وأرقى التزام؟
تنامون، أمسي لمن أمروا
أغني وأطهو أمير الطعام
أزف إليه ومنه أرى
دمي ذهباً في أكف اللئام
أنحي كؤوساً وأدني كؤوساً
فأظمى، وأحسو شظايا الحطام
* * *
لكلبته كل يومٍ قطيع
وتقتات ذقن أبيها (اليمام)
أنا نفط أهلي، لماذا لهم
دخاني، وضوئي لذاك المقام
فبراير1992م
…..
(4)
رواغ المصابيح
من ديوان رواغ المصابيح
القناديل يا دجى منك أدجى
المنايا، أم شرطة الليل أنجى؟
ربما كنت تسأل الآن مثلي
وأنا أجتدي بإبطيك محجى
القناديل لا تري الشعب نهجاً
وتري قاهريه عشرين نهجا
هل تعي يا دجى لماذا تحابي؟
ذاك تعميه، ذاك تعطيه وهجا
من تداجي؟ تمسي لبعض سراجاً
ولبعض إلى السراديب سرجا
ولبعض أداة خلعٍ وحرقٍ
ولبعضٍ تضيء رقصاً وصنجا
* * *
أيها النابغي: قل أي شيء
هز شدقيك، مجك الصمت مجا
قيل نصف القتال هرج- أراه
صار كلاً أخفى بناناً وهرجا
وأخيراً نطقت -بل قلت عني:
ويح طفل الضياع ماذا تهجا
* * *
هل سألت الملثمين إلى كم؟:
من هداهم إلى الحواري وأزجى؟
هاهنا أهرقوا، هناك استقادوا
وهنا خلفوا أنيناً وشجا
* * *
يدخلون البيوت من كل ثقبٍ
يسألون الدخان: من اين عجا؟
يسلبون السكون طعم كراه
يرهقون الحصار فتلاً ونسجا
وينوشون عش كل هزارٍ
وعلى (الديك) يهدمون (المدجا)
* * *
إنهم من بني البلاد، ولكن
يشبهون الغزاة سلباً وزجا
قيل هذا الطويل ربته (روما)
قيل ذاك البطين بالأمس حجا
قيل هذا الفتى القصير، يوالي
أمسيات في بيت شقراء غنجى
ذاك يزهو ويتقي أن يلاقي
بعض من لقبوه بالأمس (خرجا)
ذاك يبدي فصاحة السوط ليلاً
وهو في الصبح ينطق (العجل) علجا
ذاك يرغي: لا تفقهوا أي علمٍ
من عصى أمرنا، أطاع (الفرنجا)
* * *
أتراهم مدججين سكارى
ينهكون الجراح فتحاً ورتجا؟
يذبحون الرجاء في كل قلبٍ
وينوبون عن بزوغ المُرجّى
كي يسمى زعيمهم كل شيءٍ
ويسمى جحيمهم خير ملجا
* * *
كيف تغشى يا ليل كل زقاقٍ
لا ترى من طغى ولا كيف لجا؟
وإلى كم تسري بطيئاً وتأتي
لا أفاق الثرى، ولا الغيم ثجا؟
* * *
تحت عينيك يقتلون وتغضي
هل نقيض الحجى بعينيك أحجا؟
في عيون النجوم شيء كبوحي
التشاكي، أم حرقة الكبت أشجى؟
* * *
أنت ساهٍ، أنا أريد وأعيا
يا دجى، أينا الحريق المسجا؟
هل ترى الليلة التي سوف تأتي
أهي صيفية الأسارير دعجا؟
-الروابي أدرى بشم السوافي
وبرصد السماء برجاً فبرجا
* * *
قيل يا أرض لا تدورين، قالت:
صرت أنجر -كالسياسات- عرجا
يسمع الحكم أي صوتٍ هجاءً
طمئنيه، يداه أبذى وأهجا
صنفيه، تلقيه سوطاً وطبلاً
فسريه، تريه بطناً وفرجا
* * *
ولماذا أخرجتني من سكوتي
وبقلبي أحدثت شرخاً ورجا؟
كي تميدي، وتركضي كالصبايا
كي تهزي المروج، مرجاً فمرجا
كي تقصي ماذا جرى، وتقولي
أي شيء في قاعة الصمت ضجا
ألهذا أقلقتني؟ من تسمى؟
بعض أرضٍ، أدعى (حفاشاً) و(لحجا)
* * *
جئت كي تشعري بنهديك يوماً
هل أنا لا أحس؟ مازلت فجا
قلت ما تعلمين، كي تطعميه
لا أنا أهوج، ولا أنت هوجا
كغموض اعتراف عينيك حبي
فأجيدي بين الغموضين مزجا
* * *
يا النجوم التي عليها أشوي
أمنياتي، متى سيبلغن نضجا؟
يا حنين الدجى: إلى كم ستغفو؟
أي فعلٍ لعقدة الحال أوجى؟
راوغت أعين المصابيح، خوفاً
أو رجاءً، وهل رأت من يرجى؟
عام 1987
(5)
الوجه السبئي.. وبزوغة الجديد..
من ديوان وجوه دخانية في مرايا الليل
يقولون، قبل النجوم ابتديت
تضيء، وتجتاز، لولا، وليت
وكنت ضحى (مارب) فاستحلت
لكل بعيد سراجاً، وزيت
يقولون، كنت، وكنت، وكنت
وفي ضحوة العمر، أصبحت ميت
ولم يبق منك، على ما حكوا
سوى عبرة، أو بقايا صويت
و (نونيَّة) شبَّها (دِعبل)
وأصدأ (بائيةٍ) (للكُميت)
***
ولكن متى مُتَّ؟ كنت (بُخيتاً)
فصرت شعوباً، تسمى (بخيت)
لا اسمك امتد فيهم، رأوك
هناك ابتديت، وفيك انتهيت
***
فأين ألاقيك هذا الزمان
وفي أي حقل؟ وفي أي بيت؟
ألاقيك، أرصفة في (الرياض)
وأوراق مزرعة في (الكويت)
ومكنسة في رمال الخليج
وشت عن يديك، وأنت اختفيت
وإسفلت أسواق مستعمر
أضأت مسافاتها، وانطفيت
ورويتها من عصير الجبين
وأنت كصحرائها، ما ارتويت
***
فكنت هنالك، سر الحضور
و(شيكاً) هنا، كل فصلين (كيت)
بريداً: لنا شجن، كيف (سعد)
و(أروى)؟ وهل طال قرناً(سُبيت)
***
ولكن متى مت، ينبي العبير
على ساعديك، وعن ما ابتنيت
وما دمت تبني، وتهدي سواك
سيحكمون، منك إليك اهتديت
ومن تجربات النهايات، جئت
وليداً، وقبل البزوغ انتقيت
أمثل الربيع، لبست المغيب
وأنضر من كل آت أتيت
(سبتمبر 1976)