دراسات

البيت الخائف كتعبير مكثف عن السياسة في اليمن

 

قدّر البنك الدولي احتياجات إعادة الإعمار في اليمن بما يتراوح بين 20 و25 مليار دولار، مؤكداً تضرّر أو تدمير أكثر من ثلث المنازل والمدارس والمستشفيات ومرافق المياه والصرف الصحي، خلال الحرب التي اندلعت أواخر آذار/ مارس عام ٢٠١٥

 

فجر 12 كانون الثاني/ يناير الفائت، شنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ضربات جوية على مواقع عسكرية تابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) في العاصمة صنعاء، ومحافظات الحُديدة وتعز وحجة وصعدة، بعد نحو شهرين من بدء الجماعة استهدافها للسفن المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر، على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة. وعلى الرغم من أن الضربات لم تتكرر بعد ذلك بالوتيرة التي كانت متوقعة، إلا أنها كانت قد أعادت تذكير سكان المدن اليمنية، بالقصف الذي حدث مع بداية عمليات “التحالف العربي” بقيادة السعودية أواخر آذار/ مارس 2015.

كان أبرز ما تذكّره السكان في أحاديثهم على مواقع التواصل الاجتماعي، هو تلك النصيحة المتعلقة بفتح النوافذ أثناء القصف والابتعاد عنها، حتى لا يتضرر المنزل والسكان جراء الضغط الذي تسببه الانفجارات. إذ رجّحت التوقعات عودة القصف بشكل أكثر ضراوة، مما قد يجبر آلاف السكان على النزوح من منازلهم، وبذلك سيضاف عنصر جديد إلى أزمة المساكن، التي تعاني منها اليمن جراء الحرب المتواصلة منذ تسعة أعوام.

 

خبرة النجاة التاريخية

 

ينتشر معظم مساكن اليمنيين، المقدر عددهم بأكثر من 30 مليون نسمة، على قمم الجبال وسفوح المرتفعات الشاهقة. راكم اليمنيون خبرة للنجاة على مدى قرون واجهوا فيها أخطاراً متنوعة ظلت تهدد حياتهم. غير أن كل تلك الخبرات لا يبدو أنها تسعفهم في التغلب على المخاطر المتجددة بفعل الحرب المتواصلة منذ قرابة عقد.

منزل في أعلى جبال المقاطرة. تعز
منزل في أعلى جبال المقاطرة. تعز

في الماضي، كان لجوء اليمنيين إلى بناء مساكنهم في الجبال العالية، رغبةً منهم في الهروب من الأوبئة، التي كانت تنتشر عادة في الأودية والمناطق المسطحة بفعل تجمع المياه، ثم رغبةً في الهروب من أخطار السيول، التي ظلت تهدد المناطق المستوية جراء غزارة الأمطار وانحدار التضاريس. غير أن السبب الأبرز في تفضيل السكن في الجبال، كان بالتأكيد الهروب من الغارات العسكرية، التي كان يشنها الحكام ضد معارضيهم أو لجباية الضرائب الباهظة.

 

 

وعلى الرغم من استمرار ظاهرة بناء المساكن في المرتفعات، إلا أن النصف الثاني من القرن العشرين كان قد شهد تحولاً باتجاه تفضيل إقامة المساكن والاستقرار في المناطق المسطحة وعلى مقربة من الموانئ. فقد أنهى التحول السياسي وقيام النظام الجمهوري في ستينيات القرن الماضي، عصوراً من الاستبداد والاحتلال، ولعب دوراً كبيراً في تحفيز اليمني على الخروج من عزلته. لم تعد المرتفعات الشاهقة مكاناً مثالياً للعيش بسبب وعورة التضاريس وغياب الخدمات الأساسية، كما لم تعد المناطق المسطحة مخيفة مع حدوث نوع من التطور النسبي في خدمات الصحة العامة، التي قضت على كثير من الأوبئة.

غير أن الحرب الأخيرة والمتواصلة منذ تسعة أعوام، أعادت تذكير اليمنيين بحكمة الأجداد، إذ صارت المساكن في المناطق المستوية في مرمى الحرب، إما بتفجيرها والاستيلاء عليها، وإما بغياب أية حماية بالنسبة للذين يقطنون منازل بالإيجار، بسبب انعدام سياسات الإسكان، التي كان من المفترض أن ترافق رحلة هبوط اليمنيين من الجبال.

تصاعد أزمة المساكن

خلال الأشهر التي سبقت اندلاع الحرب في اليمن، بعد استيلاء جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء، كتب رئيس “حزب الحق”، الذي صار فيما بعد وزيراً في أول حكومة تشكلها جماعة الحوثي وحليفها صالح، منشوراً على حسابه في فيسبوك، ينصح فيه من يمتلك منزلاً في الريف، أن يبادر إلى ترميمه. وكان هذا تلميحاً إلى اقتراب اندلاع حرب المدن.

 

وفعلاً اندلعت الحرب وتوسعت باتجاه عدة مدن يمنية، أبرزها مأرب وتعز وعدن في أقصى جنوب غرب اليمن، بينما وقعت مدينة المكلا تحت سيطرة تنظيم القاعدة لقرابة عامين، وشهدت مدينة الحُديدة على ساحل البحر الأحمر جولة صراع كادت أن تدمر المدينة وميناءها. وطوال السنوات الماضية، خلَّفت الحرب دماراً هائلاً في البنى التحتية للمدن، سواء بالقصف الحوثي أو بالاشتباكات بين الفصائل المتصارعة، أو بقصف طيران “التحالف”.

ووفقاً لتقارير رسمية، فقد أدت الحرب إلى تعرض قرابة 41 في المئة من الأصول السكنية لأضرار مختلفة، بتكلفة تتجاوز 6 مليار دولار. ولا تزال مناطق واسعة في بعض المدن، تشهد على حجم الخراب الذي خلفته الحرب، جراء تدمير منازلها ونزوح عشرات الآلاف من سكانها، خاصة في تلك الأجزاء التي لا تزال مناطق تماس وتمركز للقوات المتحاربة، كما في الأجزاء الشرقية والشمالية من مدينة تعز، التي نمت فيها الأشجار وعم فيها الظلام الدامس، أو كما هي حال مدينة حرض، على الحدود الشمالية لليمن مع المملكة العربية السعودية، والتي كانت تشهد نمواً متسارعاً ثم صارت مدينة أشباح.

 

أدت الحرب إلى تعرض قرابة 41 في المئة من الأصول السكنية لأضرار مختلفة، بتكلفة تتجاوز 6 مليار دولار. ولا تزال مناطق واسعة في بعض المدن، تشهد على حجم الخراب الذي خلفته الحرب، جراء تدمير منازلها ونزوح عشرات الآلاف من سكانها

 

مع انخفاض حدة القتال خلال الأعوام الأخيرة وتوافر نوع من الأمان النسبي في المدن اليمنية الرئيسية، عاد كثير من أولئك الذين كانوا قد نزحوا في بداية الحرب نحو الأرياف أو المدن الثانوية أو خارج اليمن. هذه العودة أدت إلى خلق أزمة سكن لا تزال آخذة في التصاعد. خاصة أن سنوات الحرب كانت قد عطلت أعمال البناء بشكل شبه كامل.

 

تتجلى ملامح أزمة السكن في المدن اليمنية مع بداية كل عام جديد، حيث تتصاعد المشاكل بين الملاك والمستأجرين، ويبدأ موسم الحج إلى المحاكم التي يلجأ إليها المؤجرون الذين يرغبون في طرد المستأجرين.

لا ينافس عدد قضايا المؤجرين والمستأجرين في المحاكم، سوى تلك المرتبطة بإنهاء العلاقات الزوجية، لكن حتى هذه، وإن كانت تشير في بعض أوجهها الى حجم التدهور في الصحة النفسية وسوء الأوضاع الاقتصادية جراء الحرب، إلا أن عدم القدرة على تأمين مسكن لائق، يأتي أيضاً ضمن قائمة العوامل، التي تؤدي إلى كثرة قضايا الانفصال وانتهاء العلاقات الزوجية.

 

قدّر البنك الدولي احتياجات إعادة الإعمار في اليمن بما يتراوح بين 20 و25 مليار دولار، مؤكداً تضرّر أو تدمير أكثر من ثلث المنازل والمدارس والمستشفيات ومرافق المياه والصرف الصحي، خلال الحرب التي اندلعت أواخر آذار/ مارس عام 2015(1).

 

***

المعنى السياسي للبيت

للبيت في المجتمع اليمني مكانته الفريدة. فاليمن لم تشهد طفرة عمرانية كتلك التي شهدتها بعض البلدان العربية، حيث صارت المباني ذات الطوابق الكثيرة والتصميم المتشابه هي الشكل السائد.

في المدن اليمنية، لا يزال لكل مبنى شكله المعماري المختلف، حتى وإن كان مخصصاً للإيجار. كما ان أصحاب المكانة الاجتماعية يحرصون في الغالب على بناء منازلهم وفقاً لشكل فني وبأحجار من نوع خاص، حتى يصبح للمبنى من حيث المظهر الخارجي شكل المكانة التي يتصورها صاحبه عن نفسه في المجتمع. أما داخل المنزل فتتركز العناية في تصميم المجلس (يطلق عليه “الديوان”)، من حيث الزخارف والأثاث وأيضاً الحجم. فالمجلس هو واجهة المنزل وفيه يجري استقبال الضيوف، ويتجمع فيه المعارف والأهل والأصدقاء بصورة دورية لمضغ القات والنقاش في القضايا العامة. وفي الريف اليمني يصبح مجلس الشخص صاحب الوجاهة الاجتماعية بمثابة مكان للفصل في قضايا المتخاصمين.

 

تتجلى ملامح أزمة السكن في المدن اليمنية مع بداية كل عام جديد، حيث تتصاعد المشاكل بين الملاك والمستأجرين، ويبدأ موسم الحج إلى المحاكم التي يلجأ إليها المؤجرون الذين يرغبون في طرد المستأجرين”.

 

بالنسبة للمسؤول الحكومي، فإن حجم وتصميم منزله يصبح معطى أساسيّاً في تقييم نزاهته، لهذا يحرص بعض المسؤولين الحكوميين على عدم امتلاك منازل أكبر أو أكثر جمالاً مما يمتلكه محيطهم الاجتماعي حتى وإن كانوا فاسدين. ولعل هذا الاعتبار هو ما دفع مهدي المشاط رئيس ما يسمى بالمجلس السياسي في سلطة صنعاء إلى التصريح في لقاء عام ومتلفز، بأنه لا يمتلك منزلاً، وأن أسرته تقطن في شقة مستأجرة.

 

عندما سيطرت جماعة الحوثي على محافظة عمران ــ التي تُعدّ موطناً لأسرة الأحمر (يطلق عليها أيضا “بيت الأحمر”)، وهم مشايخ قبيلة حاشد، التي ظلت تتمتع بنفوذ سياسي كبير طوال العقود السابقة ــ كان السؤال المركزي: لماذا تخلت القبيلة عن مشايخها، وكيف كان سيغدو الوضع لو أن الشيخ الأب عبد الله بن حسين الأحمر (رئيس مجلس النواب السابق) لا يزال حياً؟

أحد التفسيرات التي قُدِّمت لسبب تخلي القبيلة عن أبناء الأحمر، هو أنهم كانوا بذكاء اجتماعي أقل، فلم يراعوا الحساسية التي كان يراعيها والدهم. فعلى الرغم من أنه كان يوصف بالشيخ الرئيس، وكان رئيس مجلس نواب وصاحب علاقة متينة مع المملكة العربية السعودية، إلا أنه ظل محتفظاً بمنزل والده الذي كان ينزل فيه كلما عاد إلى مسقط رأسه. لم يبنِ الأحمر الأب لنفسه منزلاً جديداً، على عكس أولاده الذين بنوا منازل فخمة بأسوار عالية في محيط اجتماعي فقير. الأبناء الذين أصبحوا تجاراً ونافذين، على الرغم من أنهم لم يكونوا يعودون إلى مسقط رأس والدهم كثيراً، كانوا قد بنوا تلك المنازل بجدران سميكة بينهم وبين الناس، وعندما قدم الحوثي الذي كان هدفه الرئيسي القضاء على بيت الأحمر، وجد المحيط القبلي نفسه غير معني بالمعركة. بالطبع الأمر أكثر تعقيداً من مجرد منازل فخمة، فهناك عوامل مختلفة تقاطعت، غير أن الأحمر الأب لطالما كانت لديه تلك الحساسية والحرص على عدم التميز عن محيطه الاجتماعي، فلو كان حياً، ربما كان سينجح في الانتباه إلى العوامل الأخرى ومنعها من أن تتضخم وتجعل رجال قبيلته يتخذون ذلك الموقف شبه المحايد.

***

سياسة تفجير المنازل

 

قبل تدخل “التحالف العربي” بقيادة السعودية، وقبل حتى وصول الحرب إلى المدن الرئيسية، كانت جماعة الحوثي قد تبنت تفجير منازل خصومها كاستراتيجية حربية، ولا تزال هذه السياسة متواصلة إلى اليوم.

 

تشير تقارير لمنظمات محلية وحقوقية، إلى أن عدد المنازل التي قامت جماعة الحوثي بتفجيرها منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء، تجاوز 900 منزل([2])، فيما وثقت اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات حقوق الإنسان، قيام جماعة الحوثي بتفجير 20 منزلاً في عام واحد، خلال الفترة من 1 آب / أغسطس 2022 حتى 31 تموز/ يوليو 2023([3])، كما أن تقريراً حقوقياً آخر صدر حديثاً، قال إن جماعة الحوثي ارتكبت جرائم تفجير المنازل “بشكل ممنهج”، وعلى نطاق واسع في15 محافظة يمنية.

أدى تفجير هذه المنازل إلى “مقتل 27 شخصاً، بينهم نساء وأطفال، ووثق التقرير تعرض 513 منزلأً لنهب جميع محتوياتها قبل تفجيرها. وبلغ إجمالي ضحايا المنازل المفجرة 1123 أسرة. سياسة تفجير المنازل طالت “السياسيين والعسكريين والقبليين وحتى الناشطين الحقوقيين، دونما أي ضرورة عسكرية”([4]).

***

عادة ما تفسر استراتيجية جماعة الحوثي القائمة على تفجير منازل الخصوم، بأنها تعود إلى الرغبة في الانتقام من خصومها وإرهاب المجتمع المحيط. تلجأ جماعة الحوثي إلى تفجير منازل خصومها، بهدف محو رمزية هؤلاء ومحو أي أثر لهم، بحيث لا يبقى أمامهم خيار العودة في يوم ما، ثم تبني على أنقاض تلك المنازل رمزيتها الخاصة.

 

وهناك من يعيد تفجير منازل الخصوم إلى ثقافة ورثها الحوثيون عن أسلافهم الأئمة، الذين كانوا يهدمون بيوت من يعارضون حكمهم بعد إعلان الحرب عليهم وتشريدهم ونهب ممتلكاتهم، كنوع من التنكيل والعقاب وحتى لا يعودوا إلى المعارضة من جديد.

أيا يكن التفسير لهذا السلوك، فإن ما سيبقى قابلاً للعيش هو ذلك الذي سيتبناه الضحايا. كما حدث خلال السنوات التي أعقبت حرب صيف 1994، عندما أعاد نظام صالح المنتصر في الحرب توزيع ملكية الأراضي والممتلكات العامة على أتباعه، واستباح منازل قادة ومسؤولي الدولة في الجنوب المنهزم. لكن هذه السياسة ظلت في نظر الضحايا لسنوات تُفهم كـ” إمعان في الإهانة وممارسة الإذلال”، كما أصبحت أحد عناوين المقاومة الاحتجاجية ضد نظام صالح.

**”

البيت كرهينة

 

خلال فترة حكم صالح كان قد برز نمط لبناء الفلل في المرتفعات التي تحيط بالمدن، ومعظم تلك الفلل كانت تعود ملكيتها إما إلى مسؤولين حكوميين أو إلى تجار نمت تجارتهم في ظل سلطة صالح. اختيار المرتفعات لم يكن يعني فقط رغبة هؤلاء في الاعتزال عن مجتمعهم وفي الوقت ذاته البقاء على مقربة من حركة المدينة، وإنما تشير إلى الرغبة في التباهي. فالمكان المرتفع يجعل المنزل (الفيلا) مرئياً، ويجعل الجميع يعرف هوية صاحبه. لسنوات طويلة كان الحصول على فيلا وسيارة دفع رباعي حديثة جزءاً من عدة الاستقطاب والمغريات للعمل ضمن سلطة صالح. لكن معظم تلك المساكن صارت اليوم رهائن تحت يد جماعة الحوثي، لضمان صمت أصحابها، أو لمصادرتها عندما يخرجون عن صمتهم ويتبنون مواقف مناوئة.

 

قبل تدخل “التحالف العربي” بقيادة السعودية، وقبل حتى وصول الحرب إلى المدن الرئيسية، كانت جماعة الحوثي قد تبنت تفجير منازل خصومها كاستراتيجية حربية، ولا تزال هذه السياسة متواصلة إلى اليوم”

خلال الأعوام الأخيرة، بدأ الأمر يأخذ منحى قانونيّاً مضمونُه أن توضع منازل الخصوم وممتلكاتهم تحت سلطة الحارس القضائي باعتبار أنهم خونة، وبدأ الأمر يطال النشطاء الذين فروا إلى خارج مجال نفوذ سلطة الحوثي وتبنوا خطاباً معارضاً لها.

***

لا سياسات إسكان في اليمن

 

ظلت المشاريع السكنية العامة في اليمن طوال العقود التي سبقت الحرب محدودة للغاية، وقامت على إعادة توزيع ما تركه الاحتلال البريطاني من مساكن في عدن وفقاً لنظام التأميم الذي تبناه النظام الاشتراكي الحاكم في الجنوب، إلى جانب عدد من المدن السكنية التي جرى تمويلها من قبل دول صديقة. أما في الشمال فكان الأمر أكثر محدودية، والمدن السكنية التي بنيت جرى تمويلها أيضاً من دول أخرى.

 

أدى تحقيق الوحدة اليمنية في العام 1990 إلى اندماج النظامين الاقتصاديين وانتهاء نظام الرعاية الاجتماعية، وصارت مشاريع المدن السكنية ضمن مجال استثمار القطاع الخاص، وفي الغالب القطاع الخاص المرتبط بالنظام السياسي والمستفيد من التسهيلات التي يحصل عليها. لكن هذه المدن ظلت محدودة جداً، وأسعار الشقق فيها مرتفعة وفوق قدرة أبناء الطبقة المتوسطة على شرائها.

***

مع اندلاع الحرب في اليمن مطلع العام 2015، غادر كثير من القيادات السياسية ورجال الأعمال اليمنيين البلاد، واستقر القسم الأكبر منهم إما في القاهرة وإما في تركيا. وهناك استثمروا مدخراتهم في شراء الشقق والمباني. بحلول العام 2019، نقلت تقارير إعلامية عن إحصاءات عقارية تركية، أن عدد ملاك العقارات اليمنيين في تركيا ارتفع بشكل كبير، واحتل حمَلة الجنسية اليمنية المرتبة 12 من بين أكثر الأجانب الذين يمتلكون عقارات في البلاد، والتي كانت بمثابة وجهة مفضلة للمنتمين إلى تيار الإخوان المسلمين، عكس ما هي عليه الحال في القاهرة ، التي صارت وجهة للمعارضين من أحزاب أخرى ومن التجار المتوسطين.

أما في الداخل، لا يوجد حتى الآن مشاريع سكنية، باستثناء مدينة أُنشئت في المخا المهملة على ساحل البحر الأحمر، والتي انتقل إليها طارق صالح، بعد انفضاض عقد الشراكة مع جماعة الحوثي ومقتل عمه أواخر العام 2017. لا علاقة لتلك المدينة بأي فكرة تتصل بعملية الإسكان، هي فقط مربعات مغلقة للقادمين من خارج المخا، من الذين لم يعتادوا على جوها الحار ورياحها القوية. وقد بنيت على حساب دولة الإمارات التي يوجد فيها الاستثمار العقاري الأكبر لعائلة صالح.

 

ربما الشيء الوحيد الذي يربط مدينة المخا السكنية بفكرة الإسكان هو شكلها الخارجي، الذي ينتمي إلى نمط المدن السكنية، التي بنيت في اليمن خلال عقدي السبعينيات أو الثمانينيات، سواء في عدن أو في صنعاء.

 

وحتى اليوم، لا يوجد في اليمن طرف سياسي يتبنى تصوراً واضحاً لسياسة الإسكان، ولا حتى من باب الاستقطاب السياسي. وحدها مسودة الدستور التي لا يحفل بها أحد، يَرد فيها نص يتيم في المادة 61، يقول: تضع الدولة سياسة وطنية شاملة للإسكان تتضمن التوسع في مجال الاستثمار العقاري وتشجيع مشروعات الإسكان التعاوني وإشراك القطاع الخاص والمصرفي، بما يكفل لذوي الدخل المحدود الحصول على سكن ملائم وبسعر يتناسب مع مستويات دخولهم.

***

هذه المسودة التي يفترض أنها برنامج عمل للمستقبل، صارت جزءاً من الماضي الذي تحاول كل القوى المتصدرة للمشهد اليمني نسيانه لارتباطها ب”الحوار الوطني”، الذي جاء نتيجة ثورة شعبية في 2011. بل إن كثيراً من المساكن التي بنيت في الماضي، صارت ضمن مجال النهب ومحاولة الاستيلاء عليها. سجلت العاصمة صنعاء محاولات للاستيلاء على عدد من المباني والأراضي الفارغة في مدينة سعوان السكنية، ومساكن ضباط ومنتسبي الحرس الجمهوري، وأيضاً مبانٍ تعود ملكيتها إلى الأوقاف. لهذا يبدو مستقبل الإسكان في اليمن مظلماً، ويبدو أن أزمة السكن سوف تتصدر مشهد مرحلة ما بعد الحرب.

لقد شهدت اليمن أول ناطحات سحاب في العالم، إذ أُطْلِقَ على مدينة شبام في حضرموت، وهي المدينة التي بنيت في القرن الرابع الميلادي بأنها منهاتن الصحراء، ولدى اليمنيين فن معماري فريد طوع ظروف المناخ، ووثق ملامح إبداعية، ظلت بمثابة شاهد تاريخي على المدى الذي وصل إليه التقدم الحضاري والثقافي في هذا الجزء من العالم. غير أن الحروب، تقضي في كل مرة على جزء واسع من هذا التاريخ. وفي الحرب الحالية فقد اليمني دفء البيت، وما يجلبه من الشعور بالأمان.______________________

نقلا عن موقع السفير العربي

“البنك الدولي: قطاع الإسكان كان الأكثر تضرّراً من النزاع باليمن”، الموقع الإلكتروني لقناة اليمن اليوم، 27 يوليو/ تموز 2023،

الشبكة اليمنية للحقوق والحريات، “بيان: ارتفاع المنازل التي فجرها الحوثيون في اليمن إلى 910 منذ 2014″، يمن ديلي، 25 أبريل/ نيسان 2023،

التقرير السنوي للجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الانسان في اليمن،

“دموع على الركام.. تقرير حقوقي يوثّق تفجير مليشيا الحوثي أكثر من 700 منزل بشكل ممنهج”، الموقع الإلكتروني لصحيفة الثورة الرسمية، 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023،

 

نقلا عن السفير اللبنانية