دراسات

الحرب اربكت المناسبات الوطنية اليمنية

 

تشمل الرموز التي أعادتها نزعة الحرب إلى المشهد، رمز “الوعل اليمني”، الذي مثّل في حضارات يمنية قديمة رمزاً إلى إله الخصب (“عثتر”)، ويحتفل في 22 كانون الثاني /يناير، بهذا الرمز، خاصة في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليّاً. وفيما يحمل يوما “الأغنية اليمنية”، و”القهوة اليمنية”، مضموناً هوياتياً أقل حدة وإشكالًا، يبدو “يوم الوعل اليمني” الأكثر تجسيداً لمأزق الهوية اليمنية، وانقسامها.

أحدثت الحرب اليمنية الأخيرة، إرباكاً بالغاً في المناسبات والعطل الوطنية، الرسمية والشعبية، مع حال التشظي والانقسام الهوياتي، وتضارب مصالح الأطراف التي تسيطر على القرار العام، واختلاف رؤيتها في الحل.

كان “قانون الإجازات والعطل”، الذي أقر في العام 2000، قد شمل ست عطل رسمية، هي: “الهجرة النبوية”، و”عيد الوحدة” التي تحققت في 22 أيار/ مايو 1990، وذكرى “ثورة 26 سبتمبر/ أيلول” التي تحققت في 1962، وذكرى اندلاع ثورة “14 تشرين الأول/ أكتوبر1963″، و”يوم الاستقلال” 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1967، و”عيد العمال” في الأول من أيار/ مايو من كل عام.
ولسنوات عديدة، وخاصة تلك الثلاثين، التي حكم فيها الرئيس الأسبق “علي عبد الله صالح” البلاد، أخذ الاحتفال بهذه المناسبات طابعاً متقلباً تقلب السياسة وتبعاتها على الحياة العامة، إذ كانت الأوساط الشعبية تحرص على الاحتفال بعيد “ثورة 26 أيلول/ سبتمبر”، بإشعال النار في سقوف المنازل ليلاً. لكن سنة بعد أخرى، ومع طول المدة التي حكم فيها “صالح”، بدأت المعارضة تنظر بريبة إلى احتفال السلطة بأعياد ثورتي: “26 أيلول/سبتمبر”، و”14 تشرين الأول/ أكتوبر”، وحتى بـ”عيد الاستقلال”! باعتبار أن التمسك بالسلطة والاستبداد السياسي القائم – آنذاك – يتناقضان مع الاحتفال بثورتين وطنيتين، الأولى أنهت الاستبداد الإمامي، والأخرى أتت على الاحتلال البريطاني.

بعد العام 1990، أضيف “عيد الوحدة”، 22 أيار/ مايو، إلى رزنامة العطل الوطنية، لكن لم تمر على هذا العيد 4 سنوات، حتى انفجرت حرب صيف 1994 بين شطري البلاد وحليفي الوحدة، لتنتهي الحرب لصالح نظام الرئيس “صالح”، ما أحدث شرخاً في جسد الرافضين للحرب، أو الجماعات التي انحازت إلى الشريك الجنوبي المهزوم في هذه المعركة. وفيما حظيت هذه المناسبة بحال من الزخم لدى السلطة، اتخذت المعارضة منها فرصة للاحتجاج على فرض “الوحدة” بالقوة، الذي وصل في نهاية المطاف إلى الدعوة إلى الانفصال.
**”
الحرب والعطل الرسمية

ينظر المراقبون إلى جماعة أنصارالله (الحوثيين)، على أنهم تعمّدوا اقتحام العاصمة صنعاء، والسيطرة عليها في شهر أيلول/ سبتمبر 2014. بل يذهب خصومهم أكثر من ذلك، إلى اعتبار أنهم أرادوا لـ”ثورتهم” أن تتطابق في تاريخها مع يوم 26 أيلول/ سبتمبر، أي في اليوم نفسه الذي قامت فيه الثورة على الإمامة الهاشمية في اليمن عام 1962، ما أكسب حربهم دلالة على عودة الحكم القديم في اليوم الذي أُعلن فيه عن سقوطه. لكن هشاشة الأوضاع العسكرية والأمنية، عجّلت بانهيار الأمر، ما جعلهم يسيطرون على العاصمة في 21، وليس 26 من ذلك الشهر.

وعلى الرغم من أن الجماعة، بعد سيطرتها على السلطة، لم تتجرأ على إلغاء ذكرى “ثورة 26 أيلول/ سبتمبر”، إلا أنها تظهر بشكل جلي تباينها مع هذه المناسبة، وعدم تقبلها لها، ذلك من خلال اكتفاء مسؤوليها بإيقاد شعلتها فقط. لكنها – أي الجماعة – تظهر على العكس من ذلك حسن نية تجاه ذكرى “ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر” التي قامت ضد الاحتلال البريطاني لعدن، على اعتبار أن مواجهة القوى الخارجية في صميم أبجدياتها.

خصوم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، الذين يرون في وجودهم تهديداً لنظام الجمهورية، كثّفوا في السنوات الأخيرة من زخمهم في الاحتفال بعيد “ثورة 26 أيلول/ سبتمبر”. لذلك تصل الاحتقانات الشعبية أوجها في هذا الشهر، وخاصة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وشهدت السنتان الأخيرتان مواجهات بين القوى الأمنية للحوثيين وشباب/ شابات خرجوا إلى الشوارع للتظاهر، ورفعوا الأعلام والأغاني الوطنية.

ومع أن الحكومة المعترف بها دولياً أبقت على احتفالاتها بثورة 26 أيلول/ سبتمبر، لكنها هي الأخرى حذرة أيضاً. في السنوات الأخيرة من الحرب، تكتفي الحكومة، أو من يمثلها من الجماعات، بإقامة كرنفالين، أحدهما في مدينة تعز، والآخر في مدينة مأرب، وهما محافظتان تمتلك الحكومة جزءاً من السيطرة عليهما. مع ذلك، يعزى عدم احتفال الحكومة، بالمناسبة، في مدينة عدن المتخَذة عاصمة بديلة للبلاد، إلى نفوذ قوات “المجلس الانتقالي الجنوبي” (ذي النزعة الانفصالية)، والتي ترى في “26 أيلول/ سبتمبر”، مناسبة شطرية (أي شمالية)، لا تعنيها بأي حال.

قوات “المجلس الانتقالي الجنوبي”، من جانبها، لا تظهر أيضاً حماسة للاحتفال بذكرى “ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر”، ضد الاحتلال البريطاني، بل ذهب زعيم المجلس في إحدى زياراته إلى بريطانيا، لتمجيد ذكرى الوجود البريطاني في عدن…، باعتبار أن المجلس لا يرى أولوياته إلا في إنهاء الهيمنة الشمالية على محافظات الجنوب.

أنصارالله” تحتفل

قدمت جماعة أنصار الله (الحوثيين) إلى السلطة، وفي حوزتها رزنامة طويلة من المناسبات، لا تأخذ جميعها طابع العُطل، باستثناء ما يسمونه بـ”ثورة 21 أيلول/ سبتمبر”، أي مناسبة السيطرة على السلطة في العاصمة صنعاء. ولأنهم في حال من الحرب المستمرة، تأخذ هذه المناسبات طابعاً تعبوياً، دينياً طائفياً، أو حربياً.
تحتفل الجماعة بـ22 مناسبة، أبرزها: “المولد النبوي”، و”ثورة 21 أيلول/ سبتمبر”، و”14 تشرين الأول/أكتوبر”، و”عيد الاستقلال”، و”يوم الولاية”، و”يوم القدس العالمي”. وتجعل هذه القائمة الطويلة من الفعاليات، الجماعة في حالٍ متواصلة من النشاط والتعبئة، مصحوبة بحملات دعائية واسعة، ومظاهرات حاشدة في ساحات عامة.

لذلك، ترى[1] الباحثة ميساء شجاع الدين (في “مركز صنعاء للدراسات”)، أن الخطورة لا تكمن في الاستعاضة عن المناسبات الوطنية بالاحتفالات الدينية في تحويل الدين إلى مرجعية وحيدة، تستند إليها شرعية الحُكم، بل في أنها تقوّض الالتزام بمفهوم دولة وطنية تشمل كافة اليمنيين. وتقول إن مساعي الحوثيين أدت إلى تحويل اليمن إلى مجتمع بلا تنوّع.

بالمقابل، هذا النشاط المحموم، وطابعه المذهبي، حفّز الجماعات التي ترى في الحوثيين تهديداً هوياتياً، إلى توسيع نشاطها بإضافة مناسبات وطنية جديدة، معظمها يستلهم تاريخ اليمن وحضارته القديمة، باعتباره نقيضاً موضوعياً للهوية الدينية المقابلة.
***

احتفالات

عيّنت جماعات شعبية تناهض سياسة تحريم الأغاني من قبل جماعة أنصار الله، الأول من تموز/يوليو، يوماً للاحتفال بالأغنية اليمنية، ما دفع الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، إلى إصدار قرار قضى بجعل المبادرة مناسبة سنوية رسمية.

ويمتلك اليمن موروثاً غنائياً، يحاول التمايز عن غيره من فنون شبه الجزيرة العربية، في ظل حال من الجدل حول سرقة بعض الألحان من قبل فنانين خليجيين ونسبها إلى تراثهم المحلي، إلى جانب تحدٍّ آخر أفرزته الحرب الأهلية، وهو طغيان ما يسمى بـ”الزامل” (شكل من الفنون القبلية)، والذي تم توظيفه بشكل كامل في خدمة التعبئة الحربية.
ليست الأغنية اليمنية وحدها في هذا المضمار، إذ برزت مناسبات أخرى من شأنها الإعلاء من الروح الوطنية العامة، وربما إظهار جانب من تفوقها، في ظل حال النكوص والشتات. ويمكن الإشارة هنا، إلى “يوم القهوة اليمني”، أو ما يسمى بـ “اليوم الوطني لزراعة البن” (“عيد موكا”)، والتي تتخذ من الثالث من آذار/ مارس مناسبة خاصة.

وهدفت هذه المبادرة إلى تشجيع المناطق على زراعة البن، وإعادة إنتاجه، باعتباره أحد الرموز التي احتلت مكانة اقتصادية في تاريخ اليمن المعاصر. الغريب في الأمر، هو أن هذه المبادرة، انبثقت من أخرى تهكمية، عملت في البداية على تمجيد “نبتة القات” المخدِّرة، وحاولت تصدير صورتها باعتبارها خلاصًا يائسًا من جنون الحرب، لينقلب الأمر بعد ذلك، إلى نشاط احتفالي من شأنه تشجيع زراعة شجرة البن، ودعم فلاحيه.

ويحتل “البن اليمني”، الصدارة العالمية من حيث الجودة، إذ يعتبر الأغلى عالمياً، لكن سنوات الصراع على السلطة، واستئثار “شجرة القات” بالمكانة، أديا إلى تراجع زراعته، وبالتالي صادراته
***

رموز إشكالية

تشمل الرموز التي أعادتها نزعة الحرب إلى المشهد، رمز “الوعل اليمني”، الذي مثّل في حضارات يمنية قديمة رمزاً إلى إله الخصب (“عثتر”)، ويحتفل في 22 كانون الثاني /يناير، بهذا الرمز، خاصة في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليّاً. وفيما يحمل يوما “الأغنية اليمنية”، و”القهوة اليمنية”، مضموناً هوياتياً أقل حدة وإشكالًا، يبدو “يوم الوعل اليمني” الأكثر تجسيداً لمأزق الهوية اليمنية، وانقسامها.

ففي حين قامت جماعة أنصار الله (الحوثيين) بتمييز نفسها طائفياً، بإحيائها لأدبيات “المذهب الزيدي”، وما يرتبط به من رموز تشيعية، حدث تمييز آخر من قبل فئات شبابية، ذهبت إلى التاريخ للاحتماء به.

وتُذْكر كلمة “أقيال” في التاريخ اليمني، على إنها تعني جماعة “النبلاء” الذين سادوا قبل ظهور الإسلام، وكانوا جزءاً من نظام الحوكمة القبلية. ولأن المصطلح، يدين بوجوده إلى دويلات ما قبل الإسلام، فهو يحمل دلالة تشير إلى أن المتعصبين له، يرفضون ضمنياً السردية الدينية القائمة.
***

خط المسند

لا يذهب خط “المسند” بعيداً عند الحديث عن رمزية ظهوره في الأزمة اليمنية الحالية، إذ تمثل لغة “المسند” وحروفه، حجر زاوية في الاحتفاء بالثقافة الوطنية اليمنية. وكانت لغة المسند وحروفه، قد سادت في الدولة اليمنية القديمة، من “سبأ” وحتى “حضرموت”، لذلك خصصت الجماعات التي تبنته، مدعومة من الحكومة المعترف بها دولياً، يوم 21 شباط/ فبراير للاحتفال به.
ويمكن بوضوح رؤية بعض اللافتات الدعائية في الشوارع اليمنية، وحتى أسماء بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أرفقت إلى جانب اسمائها باللغة العربية، أسماءها أيضاً بخط المسند القديم. وفي السياق نفسه يأتي يوم “المشاقر”، الذي يحتفل به في التاسع من أيلول/ سبتمبر من كل عام. ويقصد بـ”المشاقر” هنا، النباتات العطرية التي يحرص المجتمع اليمني رجالاً ونساءً على التزين بأكاليلها في أوقات مختلفة من اليوم، وخاصة في محافظة تعز.
ومع أن المناسبات الجديدة، التي يحرص مناوئو الحوثيين على الاحتفال بها، تحمل بعداً تكتيكياً، إلا أن جماعة أنصار الله (الحوثيين) تعطي بعداً استراتيجياً لمناسباتها، ما يضع مزيداً من الأسئلة عن حجم التنازل الذي تستطيع أن تقدمه الأطراف في المفاوضات السياسية، لتقليص الهوة، وبناء مشتركات وطنية، يمكن من خلالها الحديث عن عدالة انتقالية، وتعافٍ وطني.
______________________

الاحتفال في كنف المعاناة – تقرير اليمن، أكتوبر/ تشرين الأول 2022 – مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
نقلا عن السفير اللبنانية