خاص| انزياحات
ما يحدث في غزة منذ احد عشر شهرا، يعيدنا إلى المجموعة الشعرية “دموعها تبكي الخراب” للشاعر الفلسطيني يوسف القدرة، الذي كتبها أثناء حرب الاحتلال على قطاع غزة نهاية عام ٢٠٠٨ ومطلع عام ٢٠٠٩، حيث كتب القدرة أثناء وبعد هذا العدوان العديد من القصائد، جمعها في ما بعد في هذا المجموعة الشعرية التي صدرت عام ٢٠١١ عن دار حكيم في مدينة الناصرة، من داخل الأرض المحتلة عام ١٩٤٨.
تُعدّ النصوص الأدبية مرآةً تعكس عمق التجربة الإنسانية، حيث يتداخل فيها الحزن مع الفرح، والحب مع الفقد، ليكشف عن التعقيدات النفسية والروحية التي يعيشها الإنسان. في هذا المقال، نتناول هذه العناصر بمزيد من التفصيل، محاولين استكشاف ما وراء الكلمات من مشاعر وأفكار.
الحزن والانكسار: لوحة من الدموع والفراغ
في عالم الأدب، الحزن ليس مجرد شعور عابر، بل هو حالة وجودية تتجلى في كل زاوية من حياة الشخصية. نرى هذا بوضوح في النصوص التي تعكس الحزن كقوة مدمرة، تجعل من العالم مكانًا خاليًا من الحياة والمعنى. عبارات مثل “دموعها تبكي الخراب” تضعنا أمام صورة تراجيدية، حيث تصبح الدموع رمزًا للدمار الذي لا يمكن إصلاحه. هذه الدموع ليست مجرد تعبير عن الحزن، بل هي جزء من كيان أكبر يعاني من الانكسار.
الطبيعة هنا تلعب دورًا حيويًا في تجسيد هذا الحزن. الأماكن المهجورة والمشاهد الطبيعية القاحلة تعكس الفراغ الداخلي للشخصيات، وكأن العالم نفسه يتآمر ليمثل حالة الانكسار التي يعيشونها. في هذه النصوص، الحزن ليس مجرد تجربة فردية، بل هو واقع يلتف حول الشخصيات، يجعل من الصعب عليهم الهروب منه.
الحب والفقد: توأمان لا ينفصلان
في الأدب، يُظهر الحب وجهه الآخر، وهو الفقد، حيث لا يمكن فهم أحدهما دون الآخر. الحب في هذه النصوص معقد، يختلط فيه الحنين بالصمت، مما يخلق توترًا داخليًا يعكس الصراع العاطفي العميق. “الآن يبدأُ صمتٌ ذو عيونٍ ناعسةٍ في ترجمة الهيولى إلى أنَّاتٍ خافتة”، هذه العبارة تقدم لنا صورة لعلاقة مشبعة بالحب، لكنها مليئة بالتناقضات. الصمت هنا ليس فقط غيابًا للكلام، بل هو ترجمة لمشاعر مختلطة، تجمع بين الحب والفقد في آن واحد.
اللحظات الحميمة في النصوص ليست ملاذًا للراحة، بل هي تذكير دائم بالفقد. الحب هنا ليس تجربة ناعمة، بل هو مشبّع بالشوق والخسارة، حيث يكون الحبيب حاضرًا وغائبًا في الوقت نفسه. هذه التناقضات تجعل من الحب تجربة مؤلمة بقدر ما هي مليئة بالحنين.
الزمن والذاكرة: تحولات الروح في مواجهة تيار الزمن
الزمن في النصوص الأدبية ليس فقط سياقًا للأحداث، بل هو قوة تُشكِّل تجربة الشخصيات. الجملة “لذا كانَ عاديّاً أن يمرَّ ذاكَ اليومُ عادياً وضوءُهُ الباهتُ” توحي بأن الزمن يمر بطريقة باهتة، حيث تُصبح الأيام خالية من الأثر. في هذا السياق، الزمن يبدو وكأنه ينساب ببطء، يزيل معه التفاصيل ويحوِّل الذكريات إلى صور باهتة، غير واضحة المعالم.
لكن الزمن ليس مجرد تيار يمر، بل هو أيضًا مخزن للذكريات التي تلاحق الشخصيات. الحنين إلى الماضي يبرز بشكل واضح، حيث تسعى الشخصيات لاستعادة لحظات مضت، لكنها تدرك في نفس الوقت أن تلك اللحظات قد انقضت إلى الأبد. هذا الصراع مع الزمن يخلق إحساسًا بالعجز، حيث تبدو الذكريات وكأنها شبح يطارد الروح، يُذكِّرها بما فقدته.
الحرب والمعاناة: جروح لا تندمل
الحرب في الأدب ليست مجرد صراع خارجي، بل هي تجربة تترك أثارًا عميقة في النفس. العبارات مثل “ليس للمرايا حياةْ فكوني يا ابنةَ الطبيعةِ طبيعيّةً في الصعودِ إلى المفاتن” تعكس الفقدان الذي تُسبِّبه الحرب. المرايا هنا ليست فقط أداة لرؤية الذات، بل رمزًا للهوية التي تشوَّهت بفعل الحرب.
الشخصيات التي تمر بتجربة الحرب تعيش حالة من الضياع الداخلي، حيث تصبح المعاناة جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية. الحرب هنا ليست فقط تدميرًا ماديًا، بل هي أيضًا تدمير للروح، تجعل الشخصيات في حالة من الحيرة والانفصال عن ذاتها.
الروحانية والوجود: البحث عن المعنى في عالم مضطرب
الروحانية في النصوص الأدبية تأتي كوسيلة للبحث عن المعنى في حياة مليئة بالفوضى. الجملة “لا تغرَّنّكَ الأسماءُ والصفاتُ، يا عبدُ. أنا خالقُ الأسماءَ والصفاتِ” تدعونا للتفكير فيما هو أعمق من الظاهر. الكاتب هنا يدعو إلى تجاوز السطحية والبحث عن الجوهر، عن المعنى الحقيقي للوجود.
هذه الروحانية ليست مجرد هروب من الواقع، بل هي محاولة لفهمه على مستوى أعمق. النصوص تدعو إلى التركيز على الجانب الروحي من الحياة، وإيجاد السلام الداخلي وسط الفوضى والمعاناة. الروحانية هنا تظهر كقوة موازية للحزن والمعاناة، تُساعد الشخصيات على التماسك والبقاء.
الخاتمة: رحلة في أعماق النفس البشرية
من خلال هذه النصوص، نرى أن الأدب يقدم لنا فرصة لاستكشاف أعمق مشاعر الإنسان وتجاربها. النصوص ليست فقط كلمات على ورق، بل هي نافذة إلى الروح، تُظهر لنا كيف يمكن للحزن، الحب، الزمن، الحرب، والروحانية أن تتداخل معًا لتخلق تجربة إنسانية غنية ومعقدة. في النهاية، هذه النصوص تدعونا للتأمل في حياتنا ومشاعرنا، وتحثنا على البحث عن المعنى حتى في أحلك اللحظات.
نصوص مختارة من مجموعة دموعها تبكي الخراب:
نصوص لهذا الليل
[1] في أسفلٍ بعيدٍ
يركلُ الفجرُ ليلاً كاملاً فيما الشبّاكُ مفتوحٌ على هدوئهِ ويدٌ صغيرة توشوشُ عطرَها الناضجْ. إضاءةٌ نعسانةٌ تفتحُ عينيها بصعوبة وتثاؤب كثير. دفءٌ ما يتسلّلُ ناحيةَ قلبٍ يرقصُ مع غجريّةٍ في روحٍ شاردة حيثُ قصرُ الحمراء في أسفلٍ بعيدٍ واللهُ أقربُ مما يظنُّ العابرون. يداعبُ إيقاعُ الراقصينَ أرضاً تمرُّ عليها ريحٌ تتصيّدُ أغنياتٍ ويقينَ فرحٍ طارئٍ.
وحدَكِ. دمُكِ يبكي قُربَ ساحلٍ. بحرُكِ يصفّقُ فرحاناً ومخذولاً يرقصُ. يشتبكُ مع موجِهِ. والموجُ ذاكرةٌ تتقلّبُ على سريرٍ مهملٍ في غرفةٍ مغلقةٍ وعتمةٍ محبوسةٍ في خزانتها. الخزانةُ تحكي تخيّلاتٍ لذاتها وعلى خشبِها القديم قصصٌ كثيرةٌ لطفلةٍ تركضُ في حدائقَ روحِكِ.
[2] .. ولا أعاتب أحداً
يغلبُني نعاسٌ أخرقْ. ألتقي مع نيران تتدفق من عتبة النوم. أشتعل كمعنىً تسوقُه الهاوية. كرسيٌّ غامضٌ يرقصُ في سقفِ الرؤيا. ونيسانٌ صغيرٌ يحكُّ جلدةَ رأسِهِ. الخزانةُ تميلُ باتجاهِ التذكّر. المرآةُ مكسورةٌ وصورتي كذلك. كوب الكابتشينو لا مذاق لهُ غيرَ أنّهُ يبعثُ دفئاً في أصابع وجدي. أتنفّسُ غيابي المقصود. وأدركُ المسافةَ التي تشبهُ وخزاً في جهةِ القلب.
أرجعُ إلى وسادةِ التعبِ ولا أعاتبُ أحداً سواي. أفكّرُ في العمى. وأرى أذني ترسمُ أرجوحةً على الشاطئ. أفكّرُ في العتمةِ الكاملة وأرى أنفي يرسمُ كوخاً بالقربِ من الأرجوحةِ بعدَ أنْ جمعَ عطورَ الصبايا التي أحبهنّ. أفكّرُ في الوحدة. وأرى لساني يرسم جزيرةً بعيدةً من مذاقاتٍ عدّة. أمشي ولي طريقي. أكفٌّ بيضاء على قماشٍ أسودٍ تدلُّ الحضور على أثر من مضى في العدم. جوع للظلال ويلتهمُني السكوت.
[3] من جهةِ العدمْ
قمرٌ مرسومٌ في دفتري يبكي وتبكي وردةٌ مسنودةٌ على ضوءهِ. شتاءً قاسياً كانَ وباردةً مساءاته. يرعبُني التشابه. غزَّةُ امرأةٌ غريبةٌ. تهجرُ عشاقَها. مدينةٌ وحيدةٌ كأرملة. سيدةٌ في يقينِها. فيما عالمٌ صامتٌ يندسُّ في جيبِ القُبحِ. يلوي صمتَ محبةٍ متروكةْ. ينجبُ مسخاً أبلهاً من جهةِ العدمْ. قيحاً ينزفُ من عطرِ عرقهِ المنزوع. يحزُّ في التعبِ ويتباهى بجيفةٍ مقشرة عن موتٍ متعفّنْ. كلُّ شيءٍ ينزلقُ في خرافةٍ تنمو على يديه المنهكتين. ورأسهُ بين قدميه يمشي في التشاؤم والاستفزاز. موسيقاهُ صداعٌ في دمه يدبُّ.
[4]عالمٌ نادمٌ في نافذةٍ
يفتحُ بوّابةَ الرعبِ على عيونٍ منهوبةٌ من اللّغزْ. والعالمُ لغزٌ. غير أنَّ اللهاثَ مِصيدةُ الهباءْ. يمشي دونَ رجعةٍ في الذهابْ. يتركُ كذباً مفزوعاً خلفه. كالميلادْ. كأيِّ نحّاتٍ يخلعُ مخيّلتهُ كلّها في حجرٍ يلصقُها. كالموتِ. كأيِّ شهيدٍ يتركُ زوجةً وأبناءً وقصصاً صغيرةً ويقصدُ يقينَه الذي في الهناك. كالحياةْ. كأيِّ نبيٍّ يقطعُ طريقَهُ عارفاً أنّ الحياةَ تستحقُ العيشَ تاركاً المجازَ في الطريقْ. عالمٌ نادمٌ في نافذةٍ مشروخةٍ. كذلكَ روحه الناشفةْ. تتشققُ في سقوطٍ هادرٍ.
[5] الحقيقة أنا وهي ليْ
لا تكُن عبداً لأرضٍ، يا عبدُ. الأرضُ ليْ. كُنْ عبداً ليْ. لا تنسَ يومَ أعطيتُكَ صوتيْ. لا تكُنْ عبداً للكلامِ، يا عبدُ. أنا صاحبُ الكلامِ. كُنْ عبداً ليْ. لا تغرَّنّكَ الأسماءُ والصفاتُ، يا عبدُ. أنا خالقُ الأسماءَ والصفاتِ. لا تكُنْ عبداً لاسمكِ وصفتكِ، يا عبدُ، كن عبداً ليْ. لا تكُن عبداً لادّعاءاتٍ، يا عبدُ. الحقيقة أنا وهي ليْ. كُنْ عبداً ليْ. لا تكُنْ عبداً لخُرافاتٍ إنْثالتْ من مخيّلتِكَ، يا عبدُ. الصفحُ لي. كُنْ عبداً ليْ.
[6] صمتُكِ يؤلمُ صوتي
بابٌ يتفتَّحُ كوردةْ. الإطارُ ضَحِكٌ لا ينتَبِهُ. يتسلَّلُ غَنْجٌ من خلفِ حُجُبٍ وكآبةْ. تَقْلَقُ عتبةٌ يمرُّ عليها غرباءٌ وينفضون حزنَهم على صدرها. صدرٌ مكتنز بالخوفِ والخرافاتْ. لا يليقُ به هذا الألمْ. إذ أنّ عينيكِ في المرآة تدرِّباني على القفز عن الوحشةْ. ابتسامتُكِ تفرّخُ فرحاً لا يُقاسْ.
الألمُ الذي في صمتِكِ يؤلمُ صوتي. لو انفجرتِ الآنْ سأكون ضحكتُكِ. أعرفُ أنَّ روحكِ الآن تسقى الورد في البراري. صدى حزنِكِ يمشي على مهلٍ في الأزقة. خطواتُكِ لا زالت تغني على العتبةْ. لماذا كُنتِ تحدِّقين في الجدار القديم؟ وروحُكِ حين تغفو تبدو كـ تشابيه؟
[7] يلتحف بظلّها
رأتْ في عينيهِ سماءٌ، وأسماءٌ من جيبِ سُتْرتهِ تسيل. أمّا الليلُ: قطعةُ قماشْ تحتفظُ بنعومتِها رغم قدومها من بلادٍ بعيدةْ حيثُ لسعتها ريحُ البحار في رحلتِها العظيمة وقاستْ. علّموه أنّ الشجرة التي في بيتهم تسرقُ الأوكسجين ليلاً وتملأُ العتمةَ بالاختناق. لا زال يحبُّ أن يلتحف بظلّها الخفيّ. يقطفُ برتقالةَ صدرها بغتةً. يعصرُها تاركاً الأخرى تشعرُ بغيرةٍ ووحشةْ.
[8] عيناكَ
عيناكَ فحمٌ يابِسٌ والدولةُ فقيرٌ خجول. عيناكَ موتٌ مُعادٌ وترتخي مفاصل الأرصفةْ. عيناكَ رحيلُ طلقةٍ والصدرُ خواءٌ مُضِيء. عيناكَ خروجٌ من الجِلدِ والقادمُ قاتلٌ سائلْ. عيناكَ تنهبُ أيامي يا أبي الذي تجمّد في خوفهِ.
[9] لهفةٌ مُؤجّلةٌ
ونَفَخَتَ في لهفةٍ مُعَلَّقةٍ بينَ ذوبانٍ وحِنَّةٍ فإذا بعشْقٍ مفْتولِ الشَّوْقِ يسيلُ أسْئلةً ويفْردُ رغباته ويطيرُ صوبَ حضنٍ تحصّنَ بتقواهْ ولما تمنّعتَ تمكَّنتْ شكوكٌ من دقِّ مساميرَ ألمٍ في صدر حزنٍ كانَ مُكفّناً بالزعْفرانْ. خَيْبَةٌ مُسَنَّنةٌ وذاتَ عينين مغمضتين على وسادتكَ نامت. الضوء لم يكترث لذبذبةٍ مسموعة. فراشاتٌ بلا سببٍ تتقشّرُ عن الجدارِ وترفرفْ. رطوبةٌ ملعونةٌ تتجمّع على ساقيك النادرتين.
يداكَ لا تكفّان عن ارتجافٍ ملحوظ. القطّة تنظر إلى السقف. بينكَ وبين الباب غابة من المللْ. أشجارٌ مهجورةٌ تمشي على أصابعكْ. أسماءٌ كثيرةٌ تسقطُ من ذاكرتِك. الحياةُ بدتْ لكَ كرسيّ من خشبٍ تحتَ نخلةٍ ظلّها أعوج أمامَ بحرٍ هائجٍ والسماء هاربة طبعاً.
تفكفكُ حكايةٌ ذاتَها بينَ حلمينِ تركتهما مهملين في خزانتكَ. الأحلامُ لا تحبُّ من يهملُها. تفرُّ من صدورٍ ضيّقةٍ أيضاً. في جيوبِ أوهامكَ قدّاحةٌ تشعلُ روحَكَ بسخريةٍ تُضْحِكُ ولا تَضْحَكْ. ضياعٌ مُبَاغِتٌ يُلَمْلِمُكَ عن أرصفةٍ مررتَ بها. لهفةٌ مُؤجّلةٌ تُصرُّ على الانتحارِ مفخّخة برغائب مكتومة التأوُّه. بَيَاضٌ ناضجٌ يُغَلِّفُ أحزاناً ويُهديها لصلاةِ غريبْ.
[10] لترجم الوهمَ
صباحُكَ وردٌ وبخورٌ يا أبانا الذي من قلبٍ يرتعش فيما حلمَها تقيسه بخطواتِها، صباحُكَ نجومٌ وليلٌ صغيرٌ ينتظر ليلها الطويل، اشرب قليلاً من الماء بالقُربِ منها، واستعذ بصبركَ من مسافة محتملة، وارقص إن استطعتَ كدرويش بين يديها، وكن أعمق في عشقكَ، كن مطراً إن لم تشأ أن تكون حجرْ، المطرُ يحتاجُ إلى مطرٍ.
أذاهبٌ أنتَ باتجاه حنينٍ قاتل إلى رحمٍ أمين يحميكَ من شرورِ خوفِكَ الذي يقفزُ من روحك بغتةً. لترجم الوهمَ بالقصائد والدموعْ. سيّان. لتشقّ الصدر عن ينابيع الثلج ولتفتّش عن دهاء. لينزف قلب الحجر تحت قدم الكون. لكَ طائرٌ بحجم لهفتكَ فوق بحرٍ من لهبْ.
..وأدْركَني التعبُ
كنتُ مُعبَّأٌ به من أزمنةٍ عتيقةٍ. وجسدي تهاوى أمامَ سياقٍ مريضٍ. الاحتمالُ أيضاً أصابَهُ السقوطْ. لم أُعُدْ شَجرةً جذرها ثابتٌ وفروعُها في سمواتٍ أزرقُها باهرْ. ربّما لم أكنْ كذلك أبداً. كلُّ خليّةٍ في بُنياني تخلخلتْ. رأيتِ ذلكْ. أسئلةٌ كثيرةٌ شائكةٌ نبتت على جلدي. رأيتِ ذلكْ. عيناي جرّحهما بكاءٌ لا أدركُ من أيِّ شلالٍ تساقط. رأيتِ ذلكْ.
الغيومُ التي تجلّتْ في بال قصائدي عادتْ خائبة إلى النهرْ؛ والنهرُ عادَ إلى حنينهِ الأولْ. والبحرُ مالحٌ جدّاً. حينها أدهشني العطش يأتي في وقتٍ غلطْ. مكتظٌّ بالعنادِ ولا أعاندُ سواي. بغتةً أريدُ الدنيا صحراءْ. لا شمسَ فوقها. ولا ذكرياتٌ لها مع الأشجارِ والنهرِ والصبايا المُعَذَّباتْ. وأريدُني جثّةً هامدةً تُدخِّنُ سيجارةً رديئةً وتتأمّل الفراغْ. أريدُني سطراً في كتابٍ مهملٍ أكلَ الغبارُ عليهِ وشَربْ.
على هامش دوّامة
القيامة تحبو.. والبَدْءُ خيولٌ من غيمٍ تُعانقُ سماءَ اللهِ في غـــزَّةَ. تتنزَّلُ على شواطئ الخَلْقِ القُدامى فيما امرأةٌ من براكينَ تتفجَّرُ غناءً على حوافِ الزرقةِ الكسولةْ. طواحينُ هواءٍ من فراشاتٍ ترقِّصُ العالمَ الحلمَ الضياعَ خلفَ جُدرانٍ عازلةٍ. وعاصفةُ العِناقِ في الشفقِ بحرٌ فيهِ اشتعالٌ. على كأسِ وردةٍ تُشكِّلُ هيولى من دماءٍ وبشرٍ ممسوخين. وحدها تُمسِكُ كتابَ العشقِ وتُسرِّحُ للشجرِ شَعرَهُ. قلقٌ يبحرُ على هامشِ دوّامةٍ تُفضي إلى نافذةٍ في الكتابْ. والمتنُ حربٌ.
القيامة تقومِ على قدميها تخطو.. والخيولُ من نارٍ وفولاذ تعجنُ لحمَ صغيرٍ هاربٍ في غــزّةْ. سرقَ أخوهُ المفزوعَ ذراعَهُ المقطوعةُ وزرعها تحتَ شجرةٍ دموعُها تبكي الخرابْ. الشجرةُ في فهمِ الصغيرِ حارسةٌ أمينةٌ. أما المقبرةُ بعيدةٌ ولا تُأتمنُ حيثُ الجحيمُ لا يستثني الأضرحة.
القيامة تركبُ سلالمَ النشازِ. تدخلُ غرفةَ صبيِّةٍ وتحرقُ ألبوماً خبّأت الصبيةُ فيهِ ابتساماتٍ لأطفالها القادمينَ من الأملِ وقصّةِ حبٍّ لنْ تكتملْ. إذ أنَّ ذاتَ النارِ اشتعلتْ في قلبِ عاشقِها تماماً ولم يستطع مقاومة نارينِ فاستسلمَ للغيابِ؛ غيرَ أنَّه رُوي أنّ ناراً من نافذةِ غرفتها اشتبكتْ مع نارهِ التي شوهدت تنبعثُ من بلكونةٍ كانَ ينتظرها فيها.