ريمة جارةُ السماء وبستان الملائكة، تستلقي كحديقةٍ معلقةٍ بين السماء والأرض، وكأنها عاصمة الغيم الدائمة والفاتنة، لكل بيتٍ في ريمة حكايةٌ مع الغيم، وأحاديث لا تنتهي مع النجوم! ففي أثناء الصعود إلى “جبينها” تنفر منك العين كظبيةٍ في بَرارٍ عذارَى، وجناتٍ متراميةٍ، فيما يَركضُ القلبُ كحصانٍ هاربٍ من عوادم المدن ووحشة الأسفلت.
كلما تعمّقتَ أكثر فيها، تفجّرت أمام عينيك ينابيع من الخضرة والغيوم التي لا تستقرُّ على صحو ولا تتعب من الصعود والهبوط، وكأنك في سباق معها. تتشكل تارة بما يشبه عمامة على رأسك، وتتراءى تارةً أخرى – أسفلَ منك – كسجادةٍ سحريةٍ مستعدةٍ للطيران، فيما تمشي معك وتلتحم بك تارة ثالثة، فلا تفرّق بين بَياضها وبَياض قلوب أهالي ريمة البسطاء في سلوكهم وملابسهم وحياتهم العادية.
رَيمة.. الجنة المجهولة أو المُتَجَاهَلَة المُهمَلَةُ، والملهمة الفريدة، التي تمنحك في كل منعطف عناقًا، وتختطف -دون تكلفٍ- شهقةً من أقاصي روحِك، كأنك ترى الأرض لأول مرةٍ، أو كأنك هبطت إليها من كوكبٍ آخر. في ريمة ستجد الأرض غيرَ الأرض، البيوت التي ينبت الورد من شقوق جدرانها غيرَ البيوت، والخُضرةَ غيرَ الخُضرة، كل شيءٍ مختلفٌ فيها ومتفردٌ، لن تجد مثله في أي مكان أو بلاد.
أما تسميةُ عاصمة المحافظة بالـ”جَبِين”، فلم تأتِ من فراغٍ، إذ أن من يصعد إلى قمتها لن يساوره شكٌ في أنه يقف على جبين الأرض وذروة شواهقها. أما من يتجول فيها فسيشعر أنه ينفذ من غيمة إلى أخرى، لا مِن حارة إلى أخرى، فلا وجود للحارات والأحياء ولا لما يشبه الحياة التي نعيشها في المدن؛ لأن كل بيتٍ فيها، أو سلسلة بيوتٍ ملتصقةٍ ببعضها، تلوح أمام عينيك على صخرة أو “جرفٍ هارٍ” واقفة بشموخٍ وكبرياءٍ فريدَين، وكأنها نبتت وتشكلت مما تقف عليه، حد ظنك أن لا علاقة للإنسان في تكوينها أو هندسة ملامحها.
وإن كانت “الجَبين” هي العاصمة، التي من المفترض أن تتوافر فيها أبسط الخدمات، إلا أنك تذهل حين تراها، لا بعينيك بل بخيالك، وكأنك تستعيد ما تختزنه ذاكرتك من حكايات الأجداد عن القرى بكل بساطتها وجمالها البكر وحياتها المطمئنة والمتصالحة مع كل ما حولها ومَن حولها، إذ سرعان ما يتبادر إلى ذهنك تساؤل عمّن روَّضَ الآخر هنا؟ الأرض أم الإنسان؟ وهو تساؤلٌ تصعب الإجابة عنه، ولا يتوقف التفكير عن ملاحقة سراب أجوبته، التي تتلاشى وتغيب كما تغيب “الجبين” في أمواج الضباب المتعاقبة.
حين تغادر “الجَبين” بما تركته فيك من أثرٍ لا يُمحى، ويحالفك الحظ بالتوقف في منحدرات الطريق لالتقاط صورة هنا أو هناك، ستقف مذهولًا وأنت لا تعرف هل تصعد أم تهبط على سُلَّمٍ يربط بين الأرض والسماء! غير أن ما سيختطف بصرك وحواسك هو تلك المنازل المعلقة حد تفكيرك كيف بُنِيَت وكيف يصل إليها الناس، وأيّةُ عزيمةٍ فولاذية وقوةِ شكيمة جعلت الإنسان “الريمي” يتخذ من تلك الأماكن الوعرة أرضًا لأحلامه؛ يسكن فيها ويشيِّدُ المنازل العالية عليها، وكأنه في غنًى عن الأرض المنبسطة. يأتيه قُوتُهُ كل يوم على جناح ملاكٍ متجولٍ يهبط من السماء، محملًا بما تشتهي الأنفس والأرواح، بل قد تشعر أيضًا أنك تشاهد سماءً مقلوبةً، نجومها تلك البيوت المتفرقة على شواهق الجبال، وللعمارة وثقافة البناء في “ريمة” عالم خاص ومختلف، لا يزال يعتمد في كثير منه على الصخور الصلبة والكبيرة الحجم، ولا يستخدمونها لبناء الجدران فقط بل وللسقوف أيضًا، وقد يسقفون بيوتهم أحيانًا من خشب الأشجار كـ”الطلح” و”الطنب” وغيرهما.
المذهل في الأمر، هو طريقة البناء المحكمة حد الترف، والتي تصمد في أعالي الجبال وتقاوم الزمن وتقلباته. ورغم ارتفاعها الشديد، فإنهم لم يعدموا الوسيلة لإيصال تلك الصخور الضخمة إلى مكانها المناسب حملًا على ظهورهم، وكأنهم يحملون حقائب سفر. أما الشرفات في أغلب البيوت، فهي أشبه باستراحات كاملة، أو طاولات في حديقة عامة، فقد يجلس فيها عدة أشخاص متقابلين، وكأنهم يجلسون على مقهى مطلّ على البحر، غير أنه بحر من الغيوم والغابات والزرقة الناصعة، كلما آبَت الغيوم إلى أعشاشها في السماء.
عندما تدخل أحد بيوت ريمة، تجده مجهز بكل لوازم الحياة العصرية وأبّهة المدينة، فتبقى في مفترق الحيرة ما بين داخل المنزل وخارجه، وكأنك تعيش في الحدود الفاصلة بين عالمين.
لكن هذه ليست سوى البداية؛ فما ينتظرك في كل قرية وعُزلة، من تفاصيل وسمفونيات عجيبة ومبهرة، تتناغم فيها عناصر الطبيعة بعبقرية الإنسان، لتشكلا عالمًا فريدًا وساحرًا، لم يخطر لك على بال، إنه سفر طويل في عالم أشبه بالخيال!
أوديةٌ أم غابات؟
في “ريمة” أنت على موعدٍ مع مفاجآت لا تنتهي. فكلما انعطفت انخطفت، وكلما سمحت لنفسك وساعدك الوقت على الغوص، رأيت ما لا عينٌ رأتْ، ولا ورد على خيال بشر. في الجزء الأول من هذا المقال كان الحديث عن عاصمة المحافظة، وهي في حقيقة الأمر لا تحمل من صفات العاصمة غير الاسم، فهي أشبه بقرية كبيرة تفتقر إلى أقل المقومات، ولا بد من الحديث عن ذلك في الأجزاء اللاحقة.
في طريق عودتك من “الجبين”، عاصمة المحافظة التي لا تحمل من صفات العاصمة غير الاسم، وتفتقر لأبسط الخدمات، تتناثر ما تحسبها أودية للوهلة الأولى، على جنبات الطريق، لكنها ليست مجرد أودية بل غابات تتجاوَرُ فيها حياة الإنسان بحياة النبات والحيوانات الأليفة والمفترسة. ومن أغصان أشجارها، تتدلى الثمار المحملة بما تتوق إليه النفس إلى نافذة سيارتك دون عناء ولا نَصَب، وكأنها تقدم إليك واجبَ الضيافة كجزءٍ من طبيعتها وكرم أهلها.
من تلك الوديان الساحرة أو بالأحرى، الغابات الوارفة، مكانٌ يُعرف باسم “وادي البلبل”، ويقع بين “الجبين” ومديرية “الجعفرية”. يلزمك للصعود إليه أن تضع مخاوفك على الطريق الأسفلتية، وأن تتسلح بحسٍّ يَقِظٍ قادر على التجاوب السريع مع مباغتات الطريق، التي تشبه إلى حد بعيد “الصراط المستقيم” كما نتخيله. فمن الأسفل، هاوية وسيل، ومن الأعلى، جناتٌ مرسلةٌ على مد البصر. ولا يلزمك للمرور في الطريق سيارة عادية، بقدر ما يلزمك بُراقٌ قادرٌ على القفز والطيران، إذ لا تكاد تلتقط أنفاسك -وأنت تقف في وجهتك- إلا وتُدوِّي طبول الدهشة في حناياك وعينيك، لتسبح في بحارٍ من خضرةٍ وسحرِ طبيعةٍ ما تزال على طبيعتها التي أبدعها الله أول مرة، دون تدخل عابث لأية يد بشرية.
في “وادي البلبل” أنت وحدك الحَكَمُ، حيث ينازع بصرك سمعك، وهو يصغي إلى موسيقى الطبيعة، المتشكلة من حفيف الأشجار وقهقهات العصافير وتموجات المياه، حتى تكاد تشعر أنك المخلوق الوحيد في هذا العالم، وأن لا أحد يشاركك فيه. لكنك سرعان ما تكتشف -وقد أحاطت بك قلوب أهلها الكرماء- أنك لست وحيدًا، وأن ثَمّة من سبقك إلى المكان وسكن فيه وتعايش مع سكونه وامتزج بخضرته وسحره، فتعيش وكأنك في ضيافة الأغصان لا في ضيافة بشرٍ كباقي البشر الذين تصادفهم كل يوم. لا يزال الناسُ هنا يحتفظون بصفات العرب الكرماء وكرم أخلاقهم، كما قرأنا عنهم في كتب الأخبار والسِّيَر، حاتميون بالفطرة، تتجلى قلوبهم في صفحات عيونهم المشبعة بالألفة والبساطة.
الغريب في الأمر، أنك ما إن تدخل إلى منازلهم حتى يقشعر قلبك، وكأنك في غمضةِ عينٍ انتقلت من الجنة إلى منزل في مدينة حديثة على الأرض، مجهزٍ بكل لوازم الحياة العصرية وأبّهة المدينة، فتبقى في مفترق الحيرة ما بين داخل المنزل وخارجه، وكأنك تعيش في الحدود الفاصلة بين عالمين؛ أحدهما: ما يتجسد في داخل المنزل من حياةٍ عصريةٍ مكتملةٍ، والثاني: ما ينتظرك خارجه من حياةٍ بريةٍ وريفيةٍ وارفة الجمال والظلال. حينها تجد نفسك بين سخطين؛ سَخَطٍ على الزمن الذي لا يتوقف جريانُه، وسَخَطٍ أكثر على الشغف الذي يدفعك من الداخل لمغادرة الجنة التي اكتشفتها للتو، طمعًا في رؤية المزيد الذي لا ينتهي، وقد تجمد لسانك وتخشبت كلمات الشكر في فمك، وأنت في حضرة النبلاء الذين فرشوا قلوبهم قبل موائدهم لاستقبالك. استقبالٌ بكرم الملوك وشهامة الملائكة، حدّ ظنك أنهم أهدروا من أجلك ما يكفيهم لعامٍ كامل، فتغادرهم ممتلئَ القلب والعين، بفم صامت وفؤاد خجول.
قد تعتقد أنّكَ أصِبتَ بالتخمة لفرط ما تسلقت حواسك في مدارات الجمال!
لذا تتوجب عليك الاستراحة قليلًا، فلا بد لك، للانتقال بين جنتين، من عبور طريق فاصل وحط الرحال في مساحة خالية. ولاستعادة حواسك وتشويقها بالكثير الذي لم يُكتشف بعد، لن تجد أجمل من تهامة المترامية الرمال، لإعادة تفعيل روحك وتهيئتها للمزيد من المغامرة في اكتشاف تفاصيل الجنة المنسية. غير أنك قبل الانطلاق، ستجد نفسك مضطرًا للمقارنة بين عوامل الثراء المهدورة بين المحافظتين، فتؤجل ذلك حتى لا يشغلك عن الانغماس الكُلِّي في روعة وفتنة الجنة التي جئت من أجلها.
الجعفرية التجسيد الأمثل لليوتوبيا
بعد نزولك من جبين ريمة ومديريتها عمومًا، وقد استمتعت باكتشاف بعض خباياها الموزعة في الطريق، والمحتجبة خلف الجبال الشاهقة المتسربلة بالخضرة والثمار، واستراحتك القصيرة في تعاريج خمائلها، واستعادتك للهفة الحواس، وقد أصبحت على يقين أن ثمة جنات وأنهارًا تُلوِّحُ لك من بعيد، من خلف جبال شاهقة – وإن كنتَ لا تراها – لكنك تشعر بها، وتتخيّلها بكل ما يمنحك الخيال من قدرة، فتستيقظ فيك روح المغامرة، والمزيد من الرغبة والفضول لاكتشافها وسبر أغوار جمالها.
لذا عليك أن تحشد طاقتك في الصباح الباكر لمسابقة أشعة الشمس الذهبية، التي تشعر بأن شروقها اليوم مختلف قليلًا، وكأنها تشرق من داخلك لاكتشاف ما ترغب باكتشافه بمعيتها، عملًا بالمقولة السائدة “الرفيق قبل الطريق”!
ولست أدري هل ثمة رفيق أعظم من شمس سبئية ساطعة، تجاريك بدفء، لتقف حيث تتوقف أنت، وتتحرك حين تتحرك. يحدث كل ذلك ما دمت في الطريق إلى مديرية الجعفرية، الجنة التي رأيتَها بالأذن قبل العين، وها أنت يسبقك الشوق، وتحاذيك الشمس في الطريق، توقًا لبلوغ الجنة المرتقبة!
وحدها الجعفرية – دون سواها – الأرض لا تتوقف الحياة فيها عن ابتكار جمالٍ جديد كل يوم، على الرغم من أن الطريق إليها وإلى أعاليها شاقٌّ ومرهِق أحيانًا، لكنه العذاب الحلو الذي لا يمل، فبمجرد أن تشتم سيارتك أريج أشجار الجعفرية، وتطأ أولى سنتيمترات حدود ترابها، فإن سرعتها تخف وعجلاتها تلتصق بالطريق، فلا تكاد تتحرك، فكل متر تقطعه بمثابة عمرٍ ضائعٍ وحلمٍ جميلٍ لم يُحِط بتأويله المفسرون بعد!
للأشجار في الجعفرية أغانيها الخاصة، كما للينابيع لغتها العذبة، وللجبال أيضًا مواويلها السحرية التي تسمع بالعيون وتشاهد بحدقات القلوب، ولا غرابة فتحت كل صخرة نبع زلال، وخلف كل شجرة عاشقان غير مرئيين، وعلى صدر كل جبلٍ وتلٍّ معرضٌ دائم الجمال ليس بالغامض الخفي، ولا بالواضح الجلي، أبدعته يد الطبيعة بإيحاء رب جميل يحب الجمال، ما يجعلك في حالة استنفار دائم من التماهي والاكتشاف وقراءة ذاتك الأولى وصورتك في عالم المثل، فضلًا عن جذورك العميقة التي نبتت هنا ذات زمن، وضلت طريقها إلى عالم المدن الموحش!
للطبيعة في الجعفرية حكاياها اللامتناهية، وللإنسان قصصٌ مسرودةٌ على الأرض، لا يلزمك أكثر من تفعيل مداركك لقراءتها وأنت تراها ماثلةً أمامك. ما بين بيوت موزعة على الجبال، كأنها باقات وردٍ مهندسة بعنايةِ بستانيّ عبقري مَرَّ مِن هنا قبلك بلحظات، وأعدَّها من أجلك، لتراها في أجمل صورة وأحسن تقويم. أو بين مدرجات وغابات وغير ذلك مما يفرضه صراع الإنسان في طريقه لأنسنة الحياة والبيئة التي يعيش فيها ومعها.
لن يفارقك الذهول وأنت تشاهد كيف حوَّل الإنسانُ هنا هذه الجبال الشاهقة إلى مَواطن، واتخذ من أعاليها سكنًا له، حد شعورك وأنت تنتقل من مكان لآخر أنك لا تسير على طريقٍ بل تجلس على غيمة، تعلو وتهبط بجسدك حسب مقتضى الحال، وهي تنقلك من شاهقٍ لشاهقٍ ومن حصنٍ إلى قلعة، وكأنك تسافر في كتاب التاريخ، أو تقرأ بخيالك وعينيك كتاب ألف ليلة وليلة، لكنك لا تكف عن النزول للالتحام بالأرض والتشبع من جمالها والتعرف على أسرارها الموزعة بالعدل ما بين شلالاتٍ وينابيع ورياضٍ وبساتينٍ وخضرةٍ لن تشاهد مثلها في أي مكان آخر.
خضرةٌ متداخلة، متناغمة، متنوعة حيثما تحركت قدماك وتلفتت عيناك، وكأنك في بستانٍ هاربٍ من الجنة أو في دنيا أوجدها خيالك في لحظة محاولةٍ لتجسيد اليوتوبيا التي يعم فيها الجمال والخير والسعادة، وتختفي فيها الشرور والأحقاد والهموم التي تشغل الإنسان المعاصر وتحاصر أفكاره، فلا تفتأ تعي هل ما زلت أنت في الزمن الذي كنت تعيش فيه قبل ساعات أم أنك انتقلت عبر آلة الزمن إلى دنيا مختلفة لا تعرف شيئًا عن القرية الكونية والعولمة بكل مظاهرها وجنونها.
شَعَف أم شَغَف؟
في الجعفرية ستجد الحياة على طبيعتها، وكأنها وجدت منذ أيام قليلة، فهي أشبه بقصةٍ أبدعها عبقريٌّ فنان، لكنها ظلت حبيسة في أدراجه فقط، حد شعورك أنك أول من يقرأها ويعيشها ويشارك في كتابتها.
هذا التداعي الجَمالي الذي يستقبلك بترحابٍ وأنت تصعد من أفقٍ إلى أفقٍ حتى ترتقي إلى قمة “شعف” في مديرية “كُسمة” “بني الطليلي” أو “شغف” على الأرجح، فقد سقطت النقطةُ من على العَين وتوزع حبرُها في الأرض حدائقَ وأنهارًا مصغرة للجنة الأصل التي تستلقي الدنيا تحتها بكامل فتنتها.
وبين حيرتك في أصل التسمية “شعف” أم “شغف”! ما عليك إلَّا أن تتنقل ببصرك يمنة ويسرة لتجيبك الينابيع والشلالات وتصحح السماء ما التبس عليك من أصل التسمية، فوحدها السماء تسمعك الآن حيث تراها أقربَ إليك من أي مكانٍ آخر، إلى درجة توهمك أن بإمكانك الإمساك بزرفتها ما إن ترفع يديك.
كل هذه الدلالات تمنح خيالك المساحة الكافية لافتراض أصل التسمية، مُعززةً يقينك أنه المكان الذي حط فيه أبونا آدم فور نزوله من السماء، وبدأ شغفه بالحياة وبجمالها، وبحوَّاء التي شغفته على تلةٍ من تلال المكان، أو تحت شجرة من أشجارها، فسالت الحياة وتناسل الإنسان ليغمر الأرض ويتقاسم خيراتها.
وشعف أو شغف هي إحدى بوابات مديرية “كُسمة” من جهة الجعفرية، وبالعودة إلى معنى التسمية فجميع دلالاتها المعجمية تشير إلى الآتي: الأكسوم: الرياض المترامية الخضرة، وكَسَمَ: أي جَدّ في طلب الرزق، وهي معانٍ تشير إلى أنها كانت البداية الأولى للإنسان، ومنها انطلق للكد في طلب الرزق بعد أن حمل في يده كَسمًا: أي جزءًا منها ليُذَكِرهُ بها.
في رحلتك السريعة وانتقالك بين “كُسمة” و”الجعفرية” يتوجب عليك – كي تُشبع شغفك بالطبيعة – أن تتمرغ بها حدّ الارتواء، ولا أظنك قادرًا على الارتواء، بل يجب عليك أن تتجرد من كل مظاهر الحياة المدنية القاحلة، لتلقي بجسدك تحت هدير أحد شلالاتها لتغتسل من درن المدن، ولتداوي روحَك من وخزات وضجيج العالم، المعلق على قطار السرعة، المسافر بلا وجهة، والمُثقل بالجثث وأسلحة الدمار الشامل، فلن تجد مكانًا يعيد إليك سلامَك الداخلي أكثر جمالًا من جنة ريمة التي لم تصل إليها يدُ العبث لتجرح صفاءها وجمالها البكر.
ريمة التي تحافظ على براءتها وعنفوانها ورونقها الخاص وكيانها البعيد عن مظاهر التكلف غالبًا هي المكان الوحيد الذي بمقدوره أن يغير نظرتك للأشياء، حيث تساعدك على استدعاء التاريخ والغوص في فصوله، مستحضرًا “قصة الحضارة”، التي تقف الآن في فصل من فصولها الأولى.
وليست مبالغة إن قلت إن ريمة تستطيع أن تعيدك إلى أصولك الأولى، من خلال ما قرأته عن صراع البشر مع الحياة، وكيف اجتهد الإنسان لتطويرها وتطويعها حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
وهنا لا بد من العودة إلى أهلها، فربما من يسكنون ريمة بشكل عام يشبهون الطبيعة التي ينتمون إليها، فهم كرماءُ مثلها، يقاسمونك خيراتها كأنك واحد منهم، وقد لا يتركون لأنفسهم شيئًا لكنهم سعداء بما يفعلون، وأكثر ما يزعجهم أن تعاتبهم على ما أسرفوا أو أن تشكرهم على كرمهم وحسن ضيافتهم، فالأرض كلها لله وخيراتها حقٌّ لكل بني البشر، لا ينبغي أن يُحرم منها أحد، وقد قيل في مروياتهم إن من يردّ الضيف أو يغلق بابه في وجه عابر سبيل تأتي لتصفعه الشياطين خلف رأسه طوال المساء لثلاثة أيام متتالية، وقد يطول الأمر، حتى يقيمَ وليمةً كبيرة أو يستقبل ضيوفًا آخرين، وربما هي حيلة اخترعوها لإكرام ضيوفهم ومن يطرق أبواب منازلهم، التي لا تغلق إلا في بداية الظلام، خوفًا من تسلل الوحوش إليها.
“الحَدِيَّة”.. ما يُشبه الأسطورة
بدخولك الجعفرية من جهة بيت الفقيه، يبرز أمامك طريقان؛ الأول يقودك إلى “بني سعيد” وبني “الحرازي” و”ديور الحيم”، وهي من أجمل المناطق التي تجتمع فيها تجليات الطبيعة وصلابة الإنسان في التعامل مع ما حوله، والسيطرة عليه واستصلاحه. ومنهما تصعد إلى “كُسمة” عبر بوابتها “شعف” التي ينتابك في قمتها يقينٌ أنك وصلتَ إلى قمة الأشياء.
أما الطريق الآخر، فهو طريق ترابي طويل في السير عليه بالسيارة أو بالأقدام، فدون إرادتك لن تتوقف عن الرقص، وكأنك لاعب سيركٍ في مسرح روماني، حيث تتناثر الحجارة من تحتك بأحجامها المختلفة، وكأنها ثمار جافة نبتت وتحجرت لغاية ما ستكتشفها بعد اجتيازها.
في نهاية الطريق، وأول ما تكتحل عيناك ببوابة مركز المديرية -ويا لها من بوابة تسر الناظرين- ستدرك أن تلك الصخور الصغيرة التي مررت من فوقها كانت تؤدي مهمة ضرورية، الهدف منها مساعدة الجسد من أجل الحصول على عملية الإحماء اللازمة التي يحتاجها لخوض مباراة مهمة يقف فيها وحيدًا أمام فِرقٍ لا حصر لها من الجمال الواثب والمستعد لعناق الوافدين إلى رحابه البهية دائمًا منذ خلقَ الله الأرض المكتنزة لكل هذا البهاء المبهر، بمعنى أن تلك الهزات أو الرقصات الإجبارية كانت لازمةً لتعيد إلى الحواس قدرتها على الإدراك واستيعاب ما ينتظرها في أول لحظة تلامس العين فيها عنفوان المكان الطاغي بكل ما فيه من روعة وسحر.
في البوابة التي تظن للوهلة الأولى أنها كل شيء، حيث تسمع باسم “وادي اللواء” هذا الوادي العامر بالحياة، والذي بمقدوره أن يجبرك على التوقف رغمًا عنك، لترى وتسمع وتشم وتحس، وحيث يمكنك اختبار حواسك، وهل ما زالت بكامل طاقتها وقدرتها على الإدراك.
وهو ما ستتأكد منه وقد تَوزّع جسدك على المكان مفتونًا بكل ما فيه، ومنغمسًا في تفاصيله المسترسلة في تنوعها بين أشجارٍ نادرةٍ ومياهٍ جاريةٍ وأزهار تتناثر برائحةٍ عبقة وفاكهةٍ تتسرب حلاوتها إلى فمك بمجرد رؤيتها، وقبل أن يؤتى بها إليك طازجةً عذبة من يد الطبيعة إلى يدك.
في الصعود إلى مركز المديرية عبر الوادي تحتضنك الأشجار وتصعد معك وتفتح لك نوافذَ للرؤية هنا وهناك، وكأنها تُدرك حاجتك إلى اكتشاف المكان من أعلى بما يساعدك على أخذ لقطة بانورامية كاملة تشبع تلهفك المزمن للجمال، بعد أن تشرّبتَهُ من الأسفل قطرةً قطرةً وزهرةً زهرةً، وأرشَفتَهُ في أقاصي الذاكرة والوجدان وامتلأتَ بتفاصيله الوفيرةِ والمتنوعةِ الإدهاش والصفاء.
وقبل بلوغك مركز المديرية ستقف رغمًا عنك، متمنيًا أن تتوقف عقارب الزمن عن الجريان، لتعيش هنا بقية عمرك في رحاب الأرض المحفوفة بالهدوء وتجليات الطبيعة، وبينما أنت غارق في الشرود، تتناهبك الجهات، فحيثما يمّمتَ بصرك ثمة ما يبهر ويسر، وإذا بالدليل يخبرك أن هذا المكان الذي تقف عليه هو نفسه الذي وقف فيه الرحالة الدنماركي “نيبور” مخطوف البصر مثلك تمامًا، غير أنه طلب من الرسامين الذين رافقوه أن يرسموا تلك المناظر التي تتجلى أمامك كما تجلت أمامهم، وكأنها لوحة في متحفٍ عالمي، غير أنها هنا لوحة حية تتوفر فيها كل عناصر الإبداع الكوني المتناسق والمتشكل من أرض وحيوان وسماء وجبال، تنتصب إلى ما لا نهاية، مكسوّةً بخضرة صامتةٍ تقول كل شيء وتهبكَ فوق ما تتمنى من الإبهار والصفاء، فإذا بك تغوص لتتخيل “نيبور” وهو يصرخ في رساميه قائلًا لهم: استعدوا أيها الرفاق فلن تجدوا مكانًا أجمل من هذا، فيهزون رؤوسهم دون التفات إليه وقد نصبوا لوحاتهم وحمل كل واحد منهم ريشته، مهيئًا اللون والعين والروح التي ترتشف من نبع الطبيعة دون وسيط، وهي تحاول أن تحاكيه بالألوان، غير أنها محاكاة غير مجدية تتغلب فيها الطبيعة على عبقرية الفن وتفوز في النهاية كما ينبغي لها، وتلك سُنتها وقانونها الذي يعجز الإنسان عن اختراقه مهما فعل ومهما أطلق العنان لخياله وقدراته.
في هذا المكان الذي وَجَدت فيه البعثة الدنماركية غايتها تجد أنت ذاتك وكيانك، وبعيدًا عن تفاصيل الرحلة الدنماركية التي اختارت السماء لفريقها أن يختم حياته هنا باستثناء نيبور، وبعيدًا عن أهمية مركز المديرية التاريخي والتجاري كمحطة لبيع ثمار البن وتصديره والمعروفة باسم “الحَدِيَّة”، والتي ورد ذكرها في الكتاب الشهير “من كوبنهاجن إلى صنعاء” وغيره.
ما يلفت الانتباه هو أنها -أي “الحدية”- المكان الوحيد ربما في ريمة الذي يشبه في بعض ملامحه المدن من حيث الكثافة السكانية وتشابه بعض المباني التي تقع بالقرب من الطريق العام المرصوف بالأحجار مع نظيراتها في المدن، وهو وإن كان شبهًا صغيرًا إلَّا أنه يجبرك على التنبه إليه، وكأنه برهان على سعي الإنسان في هذه البلاد إلى استلهام المدينة ومحاولاته لمجاراتها، وهو ما لم يتحقق له إلى يومنا هذا.
بتجوالك في “الحَدِيَّة” ستحار، فلا تدري أأنت في قرية تشبه المدينة أم في مدينةٍ في ثياب قريةٍ؟ غير أنك ستتجاهل السؤال كما تجاهلت أسئلة كثيرة تعرف إجابتها ويعرفها الجميع.
عندما ترى “الحدية” من الأعلى، يقودك نظرك إلى سبب تسميتها بذلك، إذ تبدو على شكل حدوةٍ كبيرة لحصانٍ، وكأنها تشكلت في زمن بعيد إثر عبور حصان أسطوري ضرب بحدوته الأرض فجاء الناس لمشاهدتها بعد أن رحل
وهنا تعود إلى التشبع والهيام في تفاصيل المكان وأنت تجتاز شوارعها الضيقة جدًّا، التي تسمى مجازًا بذلك لمرور السيارات عبرها صعودًا نحو قمم الجبال، وهم يدفعون أغصان الأشجار التي تصر على مصافحتهم مرحبةً بهم رغم تذمرهم لفرط مرورهم بها من اقتحامها لنوافذ سياراتهم المفتوحة أثناء مرورهم منها.
هذه الشوارع الضيقة التي تقترب في تكوينها من الأزقة والممرات التي تتشكل بفعل حركة المرور عليها ذهابًا وإيابًا، تحيل التذمر الذي يَشعر به من يمرون بها كل يومٍ إلى دهشة جامحة تستولي على من يطأها للمرة الأولى، إذ يحس أنه يعبر طريقًا ملكيًّا أعدّ خصيصًا لاستقباله، مزينًا بالورود والأزهار الملونة، فما عليه إلا أن يثقل الخُطَا ويعيش اللحظة، فلن يعيش مثلها مرتين.
وبالانتهاء من ذلك المرور الملكي المهيب، ستجد نفسك وقد صعدت إلى تلةٍ مرتفعة بعض الشيء، تطل من خلالها على “الحَدِيَّة” وتراها من الأعلى، وهو ما سيقودك إلى سبب تسميتها بذلك، إذ تبدو على شكل حدوةٍ كبيرة لحصانٍ، وكأنها تشكلت في زمن بعيد إثر عبور حصان أسطوري ضرب بحدوته الأرض فجاء الناس لمشاهدتها بعد أن رحل، بدافع الفضول أول الأمر، ولولع الإنسان بالأسطورة، فقد فكروا بتقاسمها فيما بينهم واختار كل واحد منهم نصيبه منها، غير أنهم وجدوا صعوبةً في ذلك، فأخذ كلٌّ حصته وبنى منزله عليها، أما من وصل متأخرًا فقد بنى منزله على الجبال المحيطة بأثر الحدوة ليشاهدها من الأعلى، وكأنه يحرسها من الزوال، فكانت الحدية التي نعرفها اليوم، وهي بالفعل أشبه بأثر حدوة كبيرة في غابةٍ ترفل بالحياة، تجري من تحتها الأنهار.
يحيطها السكان برعايتهم ويستصلحون ما أمكنهم من أراضيها ويتقاسمون خيراتها ويتناسلون في أحضانها، متوارثين شغفهم بها، الذي يكبر كلما ابتعدوا عنها، وهو مَن يعيدهم إليها مهما منحتهم المدن من عجائبها وغرائبها.
وبعد كل هذا التطواف في جزء بسيط منها فإنك كلما صعدت أكثر، كان هناك المزيد والمزيد الذي لا ينتهي، فلكل قرية عالمها الخاص، وطابعها الفريد وعجائبها وأساطيرها وتاريخها الذي لم يُكتشف بعد.
بالعودة إلى عنوان المقال قد يعتقد البعض أن الخيال أخَذ الحيز الأوسع في الكتابة عن هذه الجنة المنسية، غير أن الحقيقة هي أكبر بكثير من كل المعاني والأوصاف. وفي الحلقات السابقة ارتَكز حديثنا عن جمال ريمة – تلك الجنة المنسية- بما تزخر به من مقومات طبيعية فريدة، تجعلها وجهةً وغايةً لا بد منها لمن يبحث عن الجمال والنقاهة وبكارة الاكتشاف، وهو حديثٌ يشبه إلى حدٍّ بعيد ما يمكن تسميته بـ”التقريب بين العاشق والوردة”، غير أننا لا بد أن نتساءل أيضًا: من أين لنا بالعاشق الذي يتوق إلى الورد؟! وهو – بالتأكيد- سؤال معقد يدعونا إلى الخوض في جملة من الصعوبات التي تواجه العاشق، وما أكثرها.
ولعل مِن أهمها: افتقار هذه المحافظة الساحرة إلى أهم وأبسط الخدمات الحيوية؛ بَدْءًا من بنية تحتية مؤهلة، كمتنزهات عامة، ومطاعم، وفنادق وغيرها، والأهم من ذلك كله الطريق الذي يحول بين هذا العاشق وبين اكتشاف جنة ريمة والحج إليها كقِبلةٍ سياحيةٍ نادرةٍ وفريدةٍ تتآخى فيها الفصول والمواسم، ويجتمع فيها كل الذي يريده الإنسان ويبحث عنه لينعم بالاسترخاء والهدوء والهواء النقي.
هذه الخدمات التي من المُفترض أنها قد توفرت منذ زمن بعيد لن تجد لها أثرًا في ريمة وأخواتها، مثل مَحميَّتَي “بُرع، وعتمة” القريبتين منها في المسافة والتنوع الجمالي والبيئي الفطري الذي فقدته أغلب مناطق اليمن، في ظل زحف العمران المخيف والمحزن. زحف عمراني دمَّر في طريقه الكثير من خيرات الأرض اليمنية الغنية بالحياة الطبيعية الخصبة، التي كانت تسمى قديمًا “العربية السعيدة”.
الحديث عن الخدمات العامة في ريمة لا يقتصر على القرى البعيدة أو التي يصعب توفير تلك الخدمات فيها، فريمة كلها خارج دائرة الاهتمام الرسمي، سواء عاصمة المحافظة “الجبين” أو بقية مراكز مديرياتها الست، ناهيك عن مراكز التجمع السكاني الكثيف في القرى المتناثرة هنا وهناك. هذا الحرمان الخدمي -الذي يبدو متعمدًا- قد أسهم في نزوح الكثير من السكان وتوزعهم في أرجاء الوطن ومنافي الاغتراب للبحث عن الحياة الكريمة ولقمة العيش، ما تسبب في إهدار الأرض وتحولها من حقول إنتاج إلى مراعٍ متخمة بالحياة لا يستفيد منها أحد، رغم أنها لا تحتاج إلا إلى القليل من الجهد لإعادة إنعاشها!
لقد أصبح الحديث عن الزراعة في ريمة مبعثًا للوجع والأسف، لا سيما إذا ما أدرك المرء أن ريمة، بكامل مساحتها الجغرافية، تكاد أن تكون مزرعة واحدة متنوعة التضاريس، متعددة الإنتاج؛ إذ كل منطقة فيها تتميز بزراعة نوع معين من الفواكه والحبوب، وهناك روايات تقول إنها كانت المُصدِّرَ الأول للبن عبر ميناء المخا، والرافد المهم لليمن بأكملها، يقصدها من تضيق بهم الأرض، حتى صار يُضرب بها المثل لمن فقد الحيلة وعزت به الوسيلة فيقال له: “حِجنة وريمة”، وهو ما يشير إلى أنه سيجد فيها ما يتمناه، باعتبارها أرضًا ثريةً وخصبةً وكريمةً يسهل على الإنسان أن يجد فيها الرزق والزاد الذي عز وجوده في سواها.
وكما حرمتنا العولمة من الحياة البسيطة، فقد ألقت بظلالها الكئيبة على الأرض والإنسان، وشغلته عن جنته التي عاش يأكل من خيرها، بمتطلبات الحياة المدنية التي لا تنتهي وبدأت تسرق الكثير من سكانها وتخمد شغفهم بالزراعة واستصلاح الأرض، رغم أنها كريمة معطاءة، تأبى أن تستسلم لعوامل الزمن والإهمال ولا تزال تنتج رغم ذلك الكثير من الفواكه والحبوب، وما يزال البعض من أهلها يأكلون مما يزرعون، ويتشبثون بها كما يتشبث الأطفال بأمهاتهم، أملًا في تحرّكٍ قادمٍ، ولَفتةٍ من الجهات المعنية التي يُتوقع منها أن تستغل هذه المساحة الغنية والمتنوعة، وأن تستثمر فيها وتمد يد العون لأهلها وتشجعهم على استصلاحها لما فيه الخير والفائدة لهم، ولما ستعود به من نفع على البلاد بشكل عام، من خلال توفير الخدمات والاستفادة من السياحة الداخلية والخارجية التي تعتمد عليها أغلب البلدان في دخلها القومي، بما فيها بلدانٌ عربية فقيرةٌ قياسًا باليمن عمومًا، وريمة خصوصًا، التي تتمتع بثراءٍ خصب ونادرٍ، لو أنه وَجَد الاستغلال الأمثل لَتَحَوَّل إلى وجهة سياحية يقصدها كل المشغوفين بالحياة الطبيعية والباحثين عن السكون والهاربين من صخب العالم من داخل وخارج اليمن.
تلك هي ريمة، الكنز المدفون، الذي يترقب هطول يدٍ حانيةٍ بمقدورها أن تكشف جواهرَه النادرة والفريدة، وربما قد يطول الانتظار، رغم أنه قد طال بما فيه الكفاية، غير أن اليأس هو المخلوق الوحيد المطرود من هذه الجنة التي يتفتق الأمل فيها، وينبت على جنبات طرقاتها الوعرة كما تنبت الأشجار.
غير أن استمرار الوضع كما هو الآن لا يبشر بخير على الإطلاق، فريمة مزرعة اليمن المهجورة التي حُرمت البلاد من جُل خيراتها؛ بسبب الإهمال وتحول جزء كبير منها مع مرور الزمن إلى أرضٍ طاردةٍ، ينزحُ منها بعض سكانها نحو عواصم الاغتراب والمدن، بحثًا عن الحياة السهلة، بعد أن نال منهم الكسل وحيّدهم الإهمال عن مواصلة السير في طريق الأجداد الذين شيدوا المدرجات وبنو السدود و”البرك” لري مزروعاتهم وحقولهم التي كانت من أهم الروافد المغذية لليمن ككل عبر التاريخ، في مرحلة لم تكن فيها الحياة متاحة بسهولة، كما هي الآن.
ولا شك أن هذا النزوح السكاني الذي بات يستهوي الكثير من أهالي ريمة وغيرهم، ويدفعهم إلى التخلي عن فلاحة الأرض وزراعتها، قد ترك وسيترك أثره على السوق المحلية إلى أن نجد أنفسنا في قادم الأيام نستورد ما نأكله من أصغر الأشياء إلى أكبرها، إذا ما بقي الحال على ما هو عليه اليوم، وهو ما ينذر بكارثة بدأت أعراضها بالظهور على السطح من خلال ارتفاع أسعار بعض المنتوجات الزراعية المحلية، نتيجة لانحسار مساحة زراعتها كالطماطم بعد أن كانت تباع بأقل الأثمان في الأمس القريب.
إضافة إلى الازدحام السكاني في عواصم المدن، التي تتوسع على حساب الأرياف العامرة بالحياة الطبيعية والخيرات، بعد أن هجرها سكانها وتوجهوا إلى عواصم المحافظات، التي تخلو فيها الحياة من المشقة التي يكابدها سكان الأرياف في ريمة وأخواتها من بساتين البلاد وحقولها الخصبة.
غير أن هذه الراحة التي توفرها المدن لن تدوم طويلًا؛ إذ سرعان ما سيغدو توفير الخدمات فيها بما يلبي حاجة الناس أشبه بالمستحيل على الدولة والمواطن، وهو ما سيجعل العيش في المدن باهظ التكلفة، لا يقدر عليه إلا من يمتلكون الوفرة التي تساعدهم على توفير احتياجاتهم الضرورية بعد أن جفت الأرض الخصبة، ونال الإهمال وعوامل الزمن من حالتها السابقة، وهو ما يجعل أمر استصلاحها وعودتها لسابق عهدها محتاجًا لعمر جديد وإرادة صلبة لم يعد يملكها سكان المدن الذين تمرغوا في الرفاهية وتنكروا للأرض التي أطعمتهم وعاش على خيراتها الآباء والأجداد من قبلهم.
ولكم أن تتخيلوا حجم الكارثة التي تنتظر الجميع، ما لم يتكاتف الكل للمحافظة على حياة الأرض والاعتماد عليها في توفير ما يحتاجه الإنسان، وما لم تكثف الجهود لإنعاشها حتى تعود إلى إنتاج ما بمقدورها أن تنتجه وتغرق به السوق المحلية والعربية، بما لا يجعلنا أمة فاقدة الحيلة والعزيمة، تعيش على ما يأتيها من خارجها.
وكلي ثقة أن هذه الهواجس ستتلاشى أمام إرادة أهالي ريمة واليمن الأوفياء لأرضهم، وبأنهم لن يستبدلوا جنتهم الحية بسواها، فمن نبتت سواعده ونما عوده من خير الأرض لن يكون لها يومًا الابن العاق، وهذا ما تقوله ريمة وما يسطره رجالها الذين قهروا المستحيل في زمن الحرب فشقوا الطريق وأوصلوها إلى الكثير من القرى، وهو ما لم تفعله الدولة وعجزت عنه طوال ما يقارب الستين عامًا من عمر الثورة وتعاقب الحكومات. ومن يشق الطريق في الصخر الصلد بمقدوره أن يصنع المعجزات، وأن يعيد للأرض الحياة، وهو ما سأشير إليه في الجزء الأخير من هذه الكتابة، بعد أن أخذتنا الهموم عن الاستمرار في محاولة نقل صورة تقريبية بالكلمات لعبقرية الأرض والإنسان في هذه الجنة المسكونة بالجمال والأحلام والواعدة بالثمر والموعودة بالثراء.
الإنسان والطبيعة
بقدر ما تدهشك ريمة “الجنة المنسية” لحظة دخولك إليها، فإنها توجعك لحظة خروجك منها، وذلك لسببين اثنين؛ الأول: هو تعلقك بالمكان وفتنتك بكل تفاصيله ورغبتك في البقاء أكثر، هذا إن لم تفكر جديًّا في أن تعيش الحياة هنا وأن تترك العالم من خلفك إلى الأبد، مستحضرًا، وأنت تغادرها، بيتَ “الشريف الرضي” الشهير في وداع ديار من يحب:
“وَتَلَفَّتَت عَيني، فَمُذ خَفِيَت
عَنها الطُّلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ”
أما السبب الثاني، فيتمثل في الحسرة التي تحفر مشاهداتك على جدران قلبك وأنت ترى ثروةً مهدورةً يتناهبها البِلى والنسيان، ويصارع أهلها كل صنوف الحرمان من أبسط الخدمات، وقد حاوَلَت الأجزاء السابقة من هذه السلسلة التطرق للكثير من مقومات الحياة والثراء في ريمة، وفي الجزء السابق كان التركيز على جانب الخدمات التي تفتقر إليها هذه المحافظة، وما ينبغي على جهات الاختصاص عمله للنهوض بها واستغلالها بالشكل الأمثل، وهي أمنية ليست بالمستحيلة إذا توفرت النية والعزيمة الصادقة لذلك.
وهنا في هذا الجزء، كان لا بد من الحديث عن سعي الإنسان في ريمة، لخلق وسائل الحياة والتغلب على صعوباتها، وعلى الإهمال الذي يلازمه ويَفرد أجنحته على الأرض والبشر، كما هو الحال في كثير من الأرياف اليمنية المحرومة من كل ما يساعد الإنسان على البقاء في أرض أجداده ليعمرها ويستثمر فيها ويحصد ثمارها.
فلم ينتظر الإنسان في ريمة إلى أن تتحرك الجهات المعنية، بل سعى بكل ما أمكنه لتوفير ما يساعده على العيش في بلاده التي يحب، بشموخ وأنفة لا نظير لهما، وهو يرفض إغراءات المدن للتخلي عن جنته الخاصة التي ينتمي إلى ترابها.
لقد كان للإنسان في ريمة مع الطبيعة صولات وجولات، رغم كونه ظل يقف ويعارك وحيدًا في محاولاته وسعيه الحثيث لفرض معادلة البقاء، عبر ترويض الأرض والتغلب على صعوبات الحياة فيها وقلة الخدمات الضرورية بما يسهل حياته، ولو بقدر ما تسمح به إمكانياته المتواضعة، من تلك الصولات التي دفعته الحياة العصرية ومتطلباتها ورغبته لنيل نصيبه منها أنه سعى لاختراع ما يشبه “التلفريك” في عدة مناطق، وبأدوات بدائية، حيث يتم تشغيلها بمحرك سيارة، ولا علاقة بالتلفريكات التي يعرفها العالم إلا من حيث الأداء الجزئي لبعض وظائفها المتعارف عليها، هذه “التلفريكات” منها ما بقي صامدًا في وجه الزمن حتى اليوم، ومنها ما تعطل وبات محتاجًا إلى الصيانة العاجلة، ومنها ما آل إلى مجرد ذكرى يشار إليها بالبنان بكثير من الحسرة والألم.
عُرِفَت ريمة أنها كانت مخزن الطعام وصاحبة اليد الطولى في تموين مخازن الدولة من الحبوب أيام الحكم الملكي، ولهذا سُميتْ إحدى مديرياتها بـ “بلاد الطعام”
لقد كان اختراع التلفريك في ريمة محاولة جادة للتعايش مع الزمن خارجها وجلب السلع التي لم يكن ليفكر أهالي المنطقة باقتنائها، لصعوبة وصولها ونقلها عبر الطريق الذي يتكبدون مشقاته كل يوم، فكانت محاولتهم ضربةَ حظ، نجحت أحيانًا بجهود فردية ودعم بعض المنظمات أحيانًا، وفشلت أحيانًا أخرى لعدم وجود الخبرة والصيانة الدائمة، في ظل الحرب وانحسار دور أغلب المنظمات على تغطية القليل من متطلبات المناطق القريبة من المدن، ولانعدام المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها في أحيان كثيرة.
وكما كان لأهالي المنطقة محاولة مع “التلفريك” لمواكبة الحياة العصرية، فإن محاولاتهم لإصلاح الطريق لا تتوقف في مكان إلا وبدأت في مكان آخر، والحديث هنا ليس عن طريقٍ معبد أو عن طريقٍ تعرض لانهيارات صخرية بسبب السيول أو نال منه الخراب بسبب عوامل التعرية، بل عن جبالٍ وعرةٍ تتعثر حتى الدواب والحيوانات وهي تتسلقها، كل ذلك بروح تعاونية أساسها تكاتف السكان وذويهم من المغتربين داخل وخارج الوطن.
ومع ذلك فالطريق لن يصل بك إلى مبتغاك دائمًا على ظهر سيارتك أو على ظهر حمار، بل لا بد لك أن تتسلق غالبًا وتتكبد مشقة الوصول إلى غايتك بيديك وقدميك.
الموجع أن ريمة وحدها باستطاعتها، إذا تكاتف الجميع – الدولة والسكان- وتوفر الدعم، إثراء السوق المحلية، ولا أبالغ إن قلت والسوق العربية أيضًا، بكل ما لذ وطاب من الثمار، فقد عُرِفَ أنها كانت مخزن الطعام وصاحبة اليد الطولى في تموين مخازن الدولة من الحبوب أيام الحكم الملكي، ولهذا سُميتْ إحدى مديرياتها بـ “بلاد الطعام”.
كل هذا الحرمان والإهمال يجعلها تتقاسم، هي وسكانها الذين يتوزعون في كل البلاد، العطاء والكد، بعيدًا عن الضجيج وبصمتٍ وتفانٍ قل نظيرهما، يحملون مظلوميتهم على أكتافهم برؤوس تطاول السماء كجبال بلادهم المرتفعة دون شكوى أو ادعاء للمظلومية، وهي حقيقة لم تعد خافية على أحد، هذه هي ريمة، التي أرادوا لها أو شاء قدرها أن تبقى جنة منسية على امتداد التاريخ اليمني، ولا أمل لها، كما يبدو، في الخروج من فصول مأساتها إلا همة أهلها ومحبتهم لها وإخلاصهم من أجلها، أهلها الذين باستطاعة الكثير منهم، وهم ممن يملكون رأس المال المهول، أن يقفزوا بها بسرعة البرق، إن استشعروا ما يقع على عاتقهم من مسؤولية أخلاقية، وخصصوا لها جزءًا من استثماراتهم خارجها، مستفيدين من القوى العاملة المتوفرة، التي لا تحتاج لأكثر من نداء يطلقه محبٌّ مقتدر، أنْ “حيَّ على خير العمل”، وسيلبيه الجميع فليس هناك من يضاهي أهالي هذه المحافظة في حبهم وولائهم وعشقهم لتراب بلادهم وقراهم المعلقة، فما يربطهم بها أكثر مما ينفرهم منها.
لم يغفل أهالي ريمة عن تلبية نداء الواجب لشق طريق أو بناء سد أو حفر بئر أو دفع رواتب المعلمين، في ظاهرة لم يسبقهم إليها غيرهم، وها هي قلوبهم وعيونهم؛ نصفها معهم في منافيهم، ونصفها الآخر تشرف على تعمير الأرض في مسقط الرأس
هنا ينبغي التأكيد أن ريمة ليست وحدها حبيسة هذا الإهمال والتغييب عن دائرة الاهتمام الرسمي، فهي وأخواتها “بُرع وعتمة” وتهامة خارج دائرة الضوء، رغم ما يكتنزنه من خيرات بشرية وطبيعية، لا تحتاج إلى أكثر من رؤية وطنية خالصة لإنعاشها، ولن يطول الانتظار لحصد الثمار.
حاولت في هذه الكتابة أن أرسم صورة تقريبية لما اختزلته الذاكرة من زيارة قصيرة وسريعة لبعض المناطق في محافظة ريمة، وهي كلها جديرة بالاكتشاف والزيارة، وما كتبته هنا لا يمثل إلا القليل جدًّا مما يستحقه المكان، فكل شبر فيه ملهم ومليء بالأسرار والمعاني، هذه الأرض الغنية بذاتها لا تحتاج إلا إلى القليل من العناية، ليغتني منها وبها الجميع.
فها هم أهلها يحملونها في صدورهم، ويصارعون الحياة وقسوتها بشرفٍ، من أجلها ومن أجل اليمن ككل، بهاماتٍ عاليةٍ وأكفٍّ تكدح وتفلح وتنجح في أي مكان تحل فيه بما يملكونه من عزيمة فولاذية اكتسبوها من معاركهم المستمرة مع الحياة، في أعنف وأبهى تجلياتها، وها هم يقتسمون حصاد سنواتهم معها سواء بسواء، ويبذلون من أجلها الغالي والنفيس، لتنعم وينعموا فيها بالحياة كما ينبغي أن تعاش، فلم يدخروا المال ولا الجهد يومًا، ولم يغفلوا عن تلبية نداء الواجب لشق طريق أو بناء سد أو حفر بئر أو دفع رواتب المعلمين، في ظاهرة لم يسبقهم إليها غيرهم، وها هي قلوبهم وعيونهم؛ نصفها معهم في منافيهم، ونصفها الآخر تشرف على تعمير الأرض في مسقط الرأس ومهوى الأفئدة.
إن الحديث ذو شجونٍ، كما يقال، وخصوصًا حين يكون عن عالم محتجبٍ – أو محجوب بالأصح – ومجهول للقريب قبل البعيد، وما أكثر التفاصيل التي تحتاج لتوقفٍ لا بد منه ذات يوم، يشير لجزء من تفاصيل حياة الناس وعلاقتهم ببعضهم وبالأرض وعاداتهم وتقاليدهم ومناسباتهم، بالإضافة إلى استكمال استكشاف ما لم يتم الوصول إليه، وهو أكثر بكثير.
ختامًا: هذه هي ريمة، جارة السماء، وبستان الملائكة، ومحطة انتظارهم بين الأرض والسماء، حيث يطوفونها على شكل غيمٍ أبيض، ويقطفون من ثمارها ما يشتهون في طريق صعودهم، ليبرهنوا به لملائكةٍ آخرين أن ثمة جنة في الأرض، لا يعلم بها أحد كما أقول لكم الآن.