ريشة

المشهد التشكيلي اليمني المعاصر .. قراءات وتوقعات – الدكتور حاتم الصكر

الدكتور حاتم الصكر
الدكتور حاتم الصكر

أتيح لي ومنذ أيام وصولي الأولى لصنعاء أواخر عام 1995م أن أواكب عروض الفنانين التشكيليين اليمنيين ، وأراقب تجاربهم مشاهداً ومتابعاً ، وحصل لي يقين عبر هذه الأعوام مؤداه أن ثمة (قطيعة) زمنية (وأسلوبية بالضرورة) تحكم نسغ الشجرة التشكيلية في اليمن عبر غياب التجارب الأولى الضرورية كتمهيد تأسيسي أو ريادي ممتد في الزمن ، لأن اعتبار الفنان هاشم علي مؤسساً للتشكيل اليمني المعاصر وهو اعتبار مناسب ومستحق ، يرهن لحظة انطلاق التجارب التشكيلية واندماجها في أفق المعاصرة ثم التحديث في وقت واحد ، وهو أمر نادر الحدوث قياساً للسيرة التشكيلية في البلاد العربية الأخرى التي شهدت مراحل ممهدة تتسم بأعمال الهواة أو الأجانب أو طلاب الفن ..
رغم ذلك فقد كانت انطلاقة هاشم علي وتأثيره في طلابه والوسط الذي أتيح له معايشته، ذات أثر تأسيسي وإن كان يرجع إلى الستينيات كتحديد زمني ، وقد سد مرسم هاشم علي واحتضانه لطلابه النقص الملحوظ في القدرات التشكيلية أو مواطن الدراسة المنظمة – وهي لا تزال حتى الآن غائبة بالمناسبة – ولن تستكمل إلا بسفر بعض الفنانين للدراسة في الخارج (فؤاد الفتيح ، عبدالجليل السروري ، سعد مبارك ، عبدالجبار نعمان) من الجيل الأول ثم سفر فنانين آخرين نذكر منهم (ناصر عبدالقوي ، سعيد علوي ، ياسين غالب ، حكيم العاقل ، آمنة النصيري ، هاني الأغبري ، إلهام العرشي ، أحمد بازبيدي ، عبدالعزيز إبراهيم ، طلال النجار ، صبري الحيقي ، داود راجح ، عبدالحميد جحاف ، كمال مقرمي ، محمد وائل ، أحمد بامدهف ، إخلاص منصور ، علي الذرحاني ، عبدالله عبيد ، فؤاد مقبل..) وعودة بعض الفنانين المغتربين للوطن (مظهر نزار ، ريما قاسم..).

                                                 من اعمال الفنان التشكيلي الراحل هاشم علي

ولكن الفنانين اليمنيين لم تجمعهم نقابة أو جمعية فاعلة ، أو جماعة فنية (باستثناء تجربة أخيرة لجماعة الاتيليه آمنة وطلال وريما ومظهر) وظلت معارضهم الجماعية موسمية أو ذات طابع مناسباتي ، كما أن مثابرتهم لإقامة المعارض الشخصية ظلت غير متحمسة أو متواترة ..
وإذا رصدنا ملاحظتين حتى الآن هما:
1- افتقاد العمق الريادي أو الممهد للحركة التشكيلية في وقت مبكر.
2- غياب الدراسة المنظمة داخل الوطن والاستعاضة عنها بالدراسة في الخارج.
فإن ما سيترتب على ذلك هو نقص الوعي بالفن لدى المتلقين بسبب غياب العاملين السابقين.
ونصل عبر ذلك إلى ضعف الصلة بالفنانين الأجانب (خلاف ما حدث في العراق ومصر والشام مثلاً) وظل النشاط الوحيد – ربما – هو تأسيس (الحلقة الدولية) التي تعثرت منذ أعوامها الأولى (تأسست عام 96) كما توقف المطبوع التشكيلي الوحيد (تشكيل) الذي ترأست تحريره الفنانة الدكتورة آمنة النصيري (عام 1998) واندمج في الحركة التشكيلية فنانون بدأوا هواة وجاءوا من حقول دراسية غير تشكيلية (مثل: أمين ناشر وعبدالفتاح عبدالولي) أو دارسون للفن داخل اليمن جنوباً وشمالاً (عدنان جمن، وعبدالرحمن السقاف، وصالح الشبيبي)وبعض الهواة غير المنضوين في دراسة محددة (كمحسن الرداعي ، وعبدالغني علي الذي درس لدى الفنان هاشم علي).
من اعمال الفنان طلال النجار
من اعمال  الفنان التشكيلي طلال النجار

ولاشك أن هذا الحشد من الأسماء وبعد تزايد صالات العرض منذ أسس فؤاد الفتيح أول صالة عرض في صنعاء ، يعد بنشاط تشكيلي متنوع الرؤى والأساليب ، لكن وجود الفنانين في بيئات ثقافية معزولة عن بعضها وافتقاد التفاعل المطلوب بينهم ، جعل الحركة التشكيلية موسمية وغير فاعلة رغم المشاركات الكثيرة للفنانين اليمنيين في السنوات الأخيرة في معارض خارجية عربية وأجنبية ..
يضاف إلى جوانب الإشكالية غياب النقد الفني الذي لم يخرج عن إطار المتابعات الصحفية السريعة للمعارض ، وبعض الأعمدة الثابتة لآمنة النصيري (التي وسعت دراساتها النقدية والجمالية في السنوات الأخيرة) وحكيم العاقل في الملاحق الثقافية والمجلات ..
لكن المتابع يستطيع رصد بعض الأسلوبيات الواضحة في أعمال الفنانين اليمنيين من أبرزها عكوفهم على استلهام البيئة والمحيط والطبيعة اليمنية متنوعة الأجواء جبالاً وودياناً وبحاراً ، وبعض جماليات البيت اليمني القديم (الصنعاني خاصة) بتفاصيله لا سيما الأبواب والمطارق والشبابيك والزجاج الملون (القمريات) والجدران وكذلك مظاهر الريف ومدرجاته الزراعية وذرى الجبال المتناهية في الارتفاع فضلاً عن الظواهر الثقافية الممثلة في الثياب والخناجر والوشم والحلي والعباءات والنقوش والرقصات وغيرها ..

من اعمال الفنان التشكيلي الكبير فؤاد الفتيح

لكن التيار الواقعي القريب من الفوتغراف مع بعض اللمسات الفنية في التلوين والأوضاع وزوايا النظر قد سيطر على جهود الجيل الأول بسبب الدراسة في روسيا وجمهوريات الكتلة الاشتراكية السابقة حيث يسود المذهب الواقعي في الرسم وهذا واضح في أعمال السروري ونعمان وفي أعمال الشباب مثل: سعيد علوي وداود راجح وفي الرسوم الأولى لطلال النجار وحكيم العاقل (الذي سينتقل إلى أسلوبيات أخرى لاحقاً) لكن فؤاد الفتيح وكما في أخر معارضة عام 2001 وهو معرض استعادي متنوع (رسم – جرافيك – نحت ..) قد أكد تطويره لتلك الواقعية بخصوصية أشرت إليها وأنا أقدم معرضه (بين الأمس واليوم) صنعاء 1996 ، فهو لا يقف عند موضوع البيئة ومفرداتها التقليدية بل يستلهم ثقافة المحيط واستيعاب روح الموروث للمنطقة واليمن وتكريس ملامح شخوصه ذات السمات الأفريقية المنتمية إلى أجواء البحر وأساطيره مركزاً على الخطوط الخارجية ودقة الأجساد ورهافتها معتنياً بالتفاصيل الدقيقة (الثياب ، والإشارات المحلية، والحيوانات والطيور والأسماك ، وأجزاء البيت اليمني ذات الطبيعة المعمارية الخاصة) كما يتعامل مع مواد هذه البيئة كتجربة الرسم على الشواقيص (الشبابيك بالغة الصغر) واستخدام الألوان الشعبية الدلالة كالأزرق في مرحلة من مراحله والأحمر المعبر عن العنفوان والاندفاع للحياة ، مع العناية بتعبيرات الجسد والوجه لا سيما في شخصية المرأة التي تبدو عنده ذات جمال وإغراء مع شيء من الحزن أو الحنين للخروج من واقعها وأسر تقاليده مرمزاً لذلك بوجود الطير في اللوحة أو الحصان أحياناً.

من اعمال الفناة التشكيلية أمنة النصيري

فالمرأة في حالة سكون ومراقبة دائماً رغم جمالها الظاهري تعبيراً عن المحددات التي تتعرض لها ، كما أن التقنية اللونية الواضحة لدى الفتيح في جرأته وتنوع ألوانه وحدّتها هي انعكاس لعمق تجربته ومداها الزمني ، مما تأكد في أسلوبه المميز الذي استراح له وارتضاه في مسيرته الفنية.
ويهتم أمين ناشر كذلك بوجود المرأة غي اللوحة رمزاً للحياة ذاتها وقد خصص أحد معارضه (حواء في الذاكرة) صنعاء 1996 لهذا الموضوع ، وقد طور ناشر تجاربه بالنزوع إلى الأعمال الجرافيكية فترة من الزمن تركت ظلالها على أعماله المتسمة بلمسة طباعية تقرب من التجسيد الحاد.
ولعل دراسة أمين ناشر الهندسية ثم إيغاله في تجريب الرسم الطباعي تدفع إلى تلمس الخطوط ذات الوجود المركزي في أعماله ، فهي تتعامد أو تتقاطع أو تتوازى مناظرة البيئة اليمنية ذاتها وتزينها المساحات اللونية التي استخدمها الفنان بجرأة وقصدية واضحة. وفي أعمال كمال المقرمي تشدنا أيضاً المساحات اللونية التي تستلب البصر تعويضاً عن تمويه الوجوه وإخفاء الملامح ، فيما يتم التركيز على أوضاع الشخوص وحركاتهم كما في (امرأة جالسة) مثلاً والتي قد يحيل عنوانها لعمل شهير لبيكاسو تتضخم فيه المرأة كناية عن الانتظار (أصابع اليدين والقدمين المتضخمة) لتتوافق مع نظرة المرأة الناضحة بالخسران والإعياء ، لكن نساء المقرمي ذوات الأبعاد التكعيبية والغارقات في لونية صارخة لا يبدو الانفعال على سيمائهن سواء أكن صغيرات أو شابات أم عجائز ، ولا يظل للمشاهد إزاء هذا الغياب سوى الانتباه للسرد الذي يبدأ من العنوان وتقصي دلالات اللون والثياب والحركة ، وهو يخضع لمؤثر التكعيبية حتى وهو يرسم موضوعات محلية مثل (قمريات) و(باب اليمن). وتظل لأعمال المقرمي جمالياتها الخاصة فهي تدعونا لموضوعها بفنية عالية وتضادات لونية تجمع بين التحديث وبناء اللوحة الحر ، وبين الحس الشعبي (الشرقي) وبهرجة اللون كجزء من ثقافة المحيط.

من اعمال الفنان التشكيلي عبدالجبار نعمان

وهذا التأثر بالأسلوب العالمي نتيجة الدراسة والثقافة نراه في أعمال فنانة شابة هي ريما قاسم التي تأخذ دون تردد أشكالها وخطوطها من بواطن اللاوعي والأحلام ، مما يناسب التكوينات ذات الطابع السوريالي في أعمالها المتسمة بتكرار المتاهات والأجساد المحورة. وبذلك تكرس أسلوباً شخصياً يدل عليها بمجرد معاينة أي من أعمالها ، وفي ظني أن ذلك سيكون في مرحلة راهنة فحسب في مسيرتها الفنية ، إذ لا أشك في أنها ستدخل مناطق تعبيرية أخرى بعد الخروج من كوابيسها القاسية التي تنسحب على إنجازها أيضاً ، وتترك الشعور بأنها تكرر موضوعاتها وأشكالها كثيراً .
ولكن فناناً أخر أطول منها تجربة هو مظهر نزار العائد لوطنه بعد فترة نشأته ودراسته في الهند سوف ينجح في المواءمة بين ما اختزنه هناك وما شاهده بصرياً وعايشه بعد عودته. وهو غزير الإنتاج يتراوح بين أسلوبيات متعددة ، لكن الموضوع الشرقي وما يبثه من سحر وغرابة هو المسيطر على أدائه لا سيما في معارضة الأولى التي اعتمد فيها الكولاج لدرجة تطعيم اللوحة بمواد بيئية من بينها قطع ذهبية حقيقية وكأنه يريد تأكيد مناظرة الحياة وواقعها ، وعبر رموز أثيرة لديه كالحصان ووجوه النساء المعصوبة أو المغطاة .. في حنين لإنجاز تعبيرية تحقق له البوح مع المحافظة على درجة من التوصيل والفهم للمشاهد..
ويوازي ذلك احتدام المؤثرات واشتباك الموتيفات والرموز ، ويرافقها تنوع تقنياته التي لا يكف عن تنويعها فهو يستخدم (المونو برنت) فترة ثم يعززها بالكولاج وبعض المائيات والحبر الصيني والباستيل والزيت ، وفي المواد الخام يستخدم كل شيء من الورق والخشب والقماش ليحقق تجريداً شاعرياً يطابق أفكاره ورؤاه ، وكأنه يوازن بين الحداثة والموروث ، لا سيما في تفجير القيم الدلالية للألوان الضاجة في أعماله والتي أكسبته خصوصية مميزة بين زملائه.
ويقدم شاعر ورسام راحل هو عبداللطيف الربيع أمثولة لحوار المرسوم والمكتوب ، فهو يستفيد من تجربته الشعرية وكتابة القصيدة الحديثة لينجز ما أسميته في نقد معرضه الاستعادي بعد رحيله (تعارضات التوافق) ومن أهمها تعارض أدوات الشاعر والرسام، وحقائق الموت والحياة ، والحرية والقيود ، فهو بقدر ما كان يذكر الموت بجرأة واستباق مصيري غريب في شعره ، كان الربيع يحاول مطاردة الموت عبر الحزن المبثوث في لوحاته والمتحقق في غنائية شجية لألوانه وأسى شفيف لموضوعاته وشخوصه.

من أعمال الفنان حكيم العاقل

وفي إحدى لوحاته تظهر جثة حيوان ميت وأجزاء مدماة من جسده بتشريح شديد وتفصيل ، مؤكد بينما اصطفت النسوة النادبات حوله في صفين في عمق الخلفية وبألوان غامقة معماة ، كي لا تظهر الوجوه التي لم تعد تعني شيئاً إزاء حقيقة الموت.
وفي وضع كهذا يغير الربيع أسلوبيته ولا يتوقف عند نزعة محددة ، فهو يميل للتجسيد والتشخيص في بعض أعماله ، إلى جانب الشاعرية والاختزال والرمزية في أخرى ، بينما تظهر ثقافته واضحة في تجارب التلصيق (الكولاج) حين يجعل بعض المخطوطات اليمنية القديمة بدل أوراق الصحف أرضية تستريح فوقها الألوان والدهان اللامع ، إلى جانب بعض المعالجات الجنسية في أعماله المختزلة والمشيرة بشاعرية ورهافة.
وهذا التنقل الأسلوبي يسم أغلب رسامي اليمن المعاصرين كناية عن عدم استقرارهم (أو قناعاتهم) عند أسلوب محدد أو خاص. وهذا ما تجده في تجارب رسامين آخرين مثل حكيم العاقل في مراحله الأولى وحتى لدى هاشم علي كما بينت في الدراستين المستقلتين عنهما في هذا الكتاب.
لكن تجربة طلال النجار توحي – بين زملائه – باستيعاب المؤثرات والتنقل الأسلوبي بشكل مدروس .. وقد تيسر لي رؤية متواليات للوحاته نفذها مؤخراً تكشف عن هم ثقافي يجعله يتجاوز التشخيص في مراحل سابقة (وهو يجيد البورتريت بشكل لافت لا يضاهيه فيه ربما سوى زملائه المعروفين بذلك مثل سعيد علوي ، وداود راجح ، وكذلك عبدالجليل السروري ، ونعمان من الجيل الأسبق).
وفي رسومه اللاحقة يحاول طلال النجار استثمار سطح اللوحة لبناء شاعري مدروس وحس لوني مرهف يوجهه السرد ونقل تفاصيل الموضوع مع اهتمام بالأسطورة والرمز ومحاولة إثراء اللوحة بمفرداتها وقد تنبهت أيضاً لتجربة رسام من الجيل نفسه هو ياسين غالب المتسم بقلة نتاجه ومعارضه لكنه كما تدل رسومه الأخيرة في حالة تطور وتخطي لمراحله الأولى حيث سادت القيم اللونية معظم أعماله واقترب من حداثة التجريد مع المحافظة على إيحاءات ودلالات تعقد ألفة بينه وبين مشاهده .. حيث تختزل بعض المفردات كالأبواب والجدران والوجوه المموهة كثيراً من الدلالات التي تعززها الألوان الحادة وذات الملمس الناتئ نتيجة معاملتها بأدوات حادة بديلاً للفرشاة فيما أعتقد…
ومن التجارب الحديثة والمستمرة تستوقفنا تجربة الناقدة والفنانة آمنة النصيري التي سنفرد لها قراءة خاصة لمناسبة أخر معارضها المقامة في صنعاء.

من اعمال الفنانة التشكيلية ريما قاسم