الانزياح نوعان: استبدالي، وتركيبي؛ الاستبدالي هو استبدال المجاز بالحقيقة؛ والكناية والاستعارة من المجاز. أما الانزياح التركيبي، فله عدة تجليات؛ منها التقديم والتأخير وأهمها المفارقة.(1)
في الفن، إذا غابت الانزياحات غاب الإبداع، وبقدر غنى التعدد الدلالي، الذي تخلقه الانزياحات يكون قدر الغنى الإبداعي.
مابين تجربتها الأولى وتجربتها الثالثة قفزة هائلة على مستوى التقنية، ومع كل ذلك تبقى من أهم ملامح أعمالها، في مراحلها الثلاث، تلك الرؤية المجازية التي لا تميز إلا المبدعين الذين لا ينقلون الواقع كما هو بل كيفما يرونه، وكيفما يجب أن يكون، من وجهة نظرهم، سأتوقف عند ثلاث لوحات.
اللوحة الأولى:
تقدم فيها رؤيتها للحظة وجدانية صوفية تجمع بين كائنين (رجل وامرأة)، لحظة تماس فيها من التوحد والشاعرية والطيران في أجواء صوفية، متوهجة.
الشاعرية في الخطوط الانسيابية والصوفية في التوحد في ذوبان الأطراف، في لحظة الطيران، التي أزاحت الدلالة من سياقها المادي الواقعي إلى سياق روحي طقوسي. والحداثيون، يفرقون بين الشعر وبين النثر بهذه الانزياحات التي تقترب من العاطفة والخيال وتبتعد عن الواقعي العقلي المباشر.
إضافة إلى الخلفية التي عكست توهجاً دافئاً وشكلاً شفافاً بخطوطها الانسيابية وألوانها المصفرة لتشكل امتداداً لانسيابية وشاعرية الخطوط في الشكل الأساسي للوحة. ما يجعل هذه الدلالات أقرب إلى السمو الصوفي الطقوسي هو وحدة الجو العام للألوان والخطوط التي أكسبت العمل وحدته الموضوعية، والوحدة الموضوعية هي أهم عناصر تماسك العمل الإبداعي.
الملاحظ أن عنصر التماس هو أشبه بورقة تخرج من فم، هذه الورقة لها تداعيات كثيرة منها ما يتعلق بالتراث في ورقة التوت، ومنها ما يتعلق باللسان سواء بالمعنى المجازي الذي يتعلق بالكلام، أو بمعنى آخر … قد يكون أكثر حسية.
اللوحة 2:
نجد وحدة الجو العام، والعلاقة المتسقة بين الشكل والخلفية في ألوان متدرجة من البني المحمر نسبياً إلى الأصفر المتوهج، مما يؤكد على امتلاك الفنانة أهم أسرار العمل الفني. والشكل يوحي للوهلة الأولى بمجموعة طيور من نوع (الببغاوات) على خلفية كأنها نافذة أو باب، وكأن بعض أطراف هذه الطيور تشتبك بخشب النافذة. لكن هذا المعنى الذي يوحي به الشكل ينزاح أيضاً إلى دلالة أخرى، خاصة في أكبر هذه الطيور حجماً، وهي التي تشكل بؤرة الرؤية في اللوحة وأكثرها توهجاً مما يؤكد على مركزيتها في اللوحة. هذا الطائر يوحي بكونه أقرب إلى امرأة ملفوفة بقماش من الطائر الذي يحتل أعلى اللوحة. كان للطائر منقار أحمر تحول تدريجياً في بقية الطيور ليصل في الطائر الأكبر إلى ما يشبه شعر امرأة، مما يجعل الانزياح يحمل مستويات متعددة:
مستوى مجازي عام هو علاقة الطير بالحرية، وبالنافذة التي تجمعت أمامها وهي في حالة سكون وليس في حالة طيران، ومستوى آخر هو ربط الطير بالمرأة.
هذا الانزياح نقل دلالة الحرية الساكنة المنكفئة إلى المرأة (الطير) التي شكلت بؤرة الرؤية في اللوحة، وبالتالي تكمن القيمة في هذه الانزياحات التي لا تخلو من شاعرية وتوهج رغم حالة السكون التي تشكل تضاداً مع طبيعة الطائر المرأة النزاع إلى الطيران إلى الحرية.
في تجربتها الثالثة، قدمت ريمه لوحات مركبة من عدة أجزاء يمكن قراءة كل جزء لوحده ويمكن قراءتها لوحة مركبة كما في اللوحة الثالثة.
(اللوحة 3)
الملاحظ أن كل جزء يحمل إيحاءً بشكل يشبه الرأس، ولكن في الأجزاء الثلاثة الأولى – من اليمين -، كأنه رأس بحجاب بشكل تعبيري إيحائي، والشكل في مجمل أجزائه يشكل جسد امرأة (إيحاءً وليس تصريحاً). لكن هذا المعنى المجمل ينزاح إلى دلالات أخرى تقترب من شكل ثعبان، ورأس الثعبان في الجزء الرابع من اللوحة هو نفسه الذي ينزاح إلى رأس امرأة ورأس (عضو ما). وهناك علاقة أسطورية بين الثعبان والجنس كما في الأساطير الهندية، وبالتالي فإن الجسد الممتد في أجزاء اللوحة يشكل انزياحاً في مبتدأه ومنتهاه. أما الخلفية الحافلة بالألوان الشفافة التي يغلب عليها اللون البنفسجي، مع وجود الأصفر، فقد اتسقت أيضاً مع مفردات الشكل الرئيسي مما حافظ على وحدة الجو العام للوحة.
الملاحظ أنه في الجزء الثالث من اللوحة ما يشبه الهرم، ولكنه غائم ومغبر يكاد لا يلاحظ. الهرم هو رمز الخلود في الحضارة الفرعونية، ووضعه في منطقة البطن (وهي مكان احتواء الجنين) في الجسد الافتراضي يشكل امتداداً جديداً لمعنى إضافي، في علاقة مترابطة بين كل الدلالات التي يمكن أن تصنعها اللوحة، مع ملاحظة أن الخطوط الحادة عادة توحي بالقلق والتوتر وهو ما يشكل تضاداً مع بقية مفردات اللوحة الانسيابية الخطوط والتكوينات.
لقد توقفت أمام أهم الأعمال التي لفتت انتباهي بتركيبها المحكم ودلالاتها الإبداعية التي ربما تساعد على قراءة أعمال “ريمه قاسم” وقد تفتح بوابات التلقي على تأويلات أخرى.