هناك، في قلب الليل، حيث تتداعى الأضواء وتختفي الأصداء، تتجلى النفوس عارية أمام أعين بعضها البعض. في لحظات الصفاء والجنون، تلك اللحظات التي قد تبدو أنها ولدت من حكايات العاشقين في عصر الرومانتيكية، تتكسر الحواجز بين الإنسان وحقيقته. يظهر هذا العالم الداخلي للألم والشوق كأفق ينكشف فيه الإنسان على ذاته وعلى الآخر في الوقت ذاته.
فلماذا إذن تكون العواطف أحيانا مثل قوى الطبيعة التي لا يمكننا السيطرة عليها؟ قد يبدو السؤال بسيطا، لكنه يحمل بين طياته عبء العصور والمجتمعات المأزومة والمعقدة. بل في علاقة الإنسان بالحب، تقف أسئلة العاطفة والارتباط أمام أسئلة الكبرياء والحرية. فعندما يغرم الإنسان، يصبح محكوما بحبٍ قد يرفعه إلى السماء أو يقيده بأغلال لا ترى.
أما في لحظات الصفاء الأولى، فينسى الإنسان أن الحب ليس مكانا للاتكاء بل هو كيان يتغير ويتقلب، يأخذ ألوانا متعددة. تسير الأيام، ويبدأ الشك ينمو كالعشب البري في قلب العاشقين. قد يكون هذا الشك مرآة للخوف، خوف من الانكسار، خوف من أن يتسلل الفراغ مكان الحضور، أو أن يصبح القرب جرحا لا يندمل. وكما قال ابن عربي: “الحب جموح، ولا يحكمه قانون”. تلك النزعة التي تدفع بالإنسان للبحث عن معانيه في الآخر، غالبا ما تنتهي بجعل الآخر مرآة يعكس فيها الفرد ما يفتقده داخله.
تتخذ القصص مسارات متشابكة وفقا لهذا، يصبح كل طرف فيها أسير مزيج من الحب والألم، من الغضب والشوق، كأنما يحاولان فهم لغز مشترك يعجزان عن فك شفرته. يظهر الصراع بين الرغبة في البقاء والرغبة في الهروب، بين احتواء الآخر وإطلاقه.بين صفع القلب وصفعة الوجه حين يلتقي الحلم بالواقع..تختلط أحلامنا بواقعنا بالضرورة ، وأحيانا ينكسر الحلم على أرض الواقع كزجاج هش. هذا الانكسار يكون مؤلما كأنما هو صفعة مفاجئة تسري في الجسد والروح. وفي العلاقات المتوترة التي تجمع بين الأمل والخوف، قد يكون الحب مثل بركان خامد يخفي تحت سطحه نارا مشتعلة. كما في لحظة من الغضب أو الضعف، تتطاير الشرارات، فيجد العاشقان نفسيهما على حافة منحدر، بين الألفة والنفور، بين الحنان والغضب.
وأحيانا، يضطر الإنسان للابتعاد ليكتشف حدود هذه العلاقة، حدود قلبه، وحدود كبريائه. وكما قال المتنبي، بما معناه إن “الجروح قصائد لا يتقنها إلا العاشقون”. فكأنما الألم جزء من الشعر الذي يروي الحكايات العاطفية الأزلية، إذ يمكن أن يكون الألم وقودا يعيد تشكيلنا، لكنه قد يكون أيضا خنجرا يغرز في أعماقنا، يترك أثرا لا ينمحى.
ثم في حضرة عذابات النفس وأفراحها، ثمة دروب منسية في تاريخ الحب..فعلى مر التاريخ، كانت العلاقات البشرية مليئة بالتعقيدات، لأن قصص الحب والصراع ممتدة كأمواج لا تنتهي، من قصص العشق في الشعر الجاهلي، إلى غراميات العرب الأوائل، وصولا إلى الروايات التي رسمها الأدب العالمي. في كل قصة نجد تلك اللحظات الحاسمة، التي ينسى فيها العاشق كبرياءه ويخضع لمحبوبه، أو تلك اللحظات التي يرفض فيها أن يخسر ذاته أمام الآخر.
هل يكمن الحل في التصالح مع هذه التعقيدات؟ أم أن الفراق هو في النهاية ملاذ الخائفين من التغير؟ تبقى هذه الأسئلة عالقة كجمرٍ تحت الرماد، تضيء قليلا، تشتعل أحيانا، لكنها لا تنطفئ أبدا.
ولذلك في حضرة الصفح والفراق، هل تكون النهاية أم تكون البداية؟
حقيقة عندما تتسع المسافات بين الأحبة، يحدث نوع من الصمت، صمت لا يخلو من أسئلة غير منتهية. يصبح الخيار بين الصفح والنسيان، بين الغفران والتجافي، خيارا وجوديا يتجاوز الكلمات والأفعال. وكأنما النفس البشرية تجد في اللحظات الصعبة لحظة من التأمل والتسامي، حيث ينكشف الإنسان على حقيقة ذاته.
قد لا يكون الصفح نهاية، لكنه لحظة يفهم فيها المرء معنى الحب الذي يتجاوز الجروح والخلافات. وربما يكون الفراق ضرورة، كتلك النهايات التي تجعل البداية ممكنة من جديد، كأنما للحب مواسم، وكأنما للعشاق سفر طويل في معارج النفس.
لكن متى يتسنى للقلب أن يجد السلام الحقيقي؟!
بالتأكيد يظل القلب دائما باحثا عن هذا النوع من السلام، عن توازن بين قوته وضعفه، بين رغباته وأحزانه. كما في كل علاقة نتعلم درسا جديدا عن أنفسنا وعن الآخر، نتعلم أن الحب ليس مجرد شعورٍ عابر بل هو اختبار لقوة التسامح والتفهم، اختبار لتوازننا بين الرغبة في الاحتواء والرغبة في الحرية.
أما حين نصل إلى قلب السكون، لابد يتسنى لنا أن ننظر إلى جروحنا بحنو، قد نجد جوابا يخبرنا أن الحب يبقى مشرقا في الأعماق، وأنه، مهما كانت عذاباتنا، هو سر الحياة وسر استمرارية الإنسان في دواخلنا.
وحين أقول إلى “قلب السكون”، اعني لحظة من الصفاء الداخلي والهدوء النفسي بعد تجارب شديدة التقلب والتوتر، مثل الصراعات أو الأزمات العاطفية. ففي هذه اللحظة فقط، نجد أنفسنا في حالة سلام حقيقي، يصبح فيها الإنسان قادرا على النظر إلى جروحه وأوجاعه بنظرة متفهمة، حنونة، متقبلة.
هذا الحنو على الجروح يشير إلى تقبل الألم وفهمه بدل من القسوة على النفس أو لوم الذات. نصل حينها إلى “جواب” داخلي يخبرنا بأن الحب لم يختفي، بل ظل في أعماقنا مثل نور لم ينطفئ. رغم التجارب المؤلمة، يبقى الحب جزءا من كياننا، يزودنا بالقوة والإلهام لمواصلة الحياة والتعلم من تلك التجارب.
بكلمات أخرى، فإن هذا التأمل يعبر عن فكرة أن الحب، بما يحمل من جمال وألم، هو جوهر إنسانيتنا. بل مهما كانت الصعوبات التي نمر بها، يبقى الحب أيقونة ترشدنا وتمدنا بالقوة للاستمرار، لأنه جزء لا ينفصل عنا ونحن لانكون نحن إلا به..به وحده .. وحده فقط.