حامد بن عقيل
شاعر وسارد وناقد من السعودية
….
ليس لديّ ما أقوله للعالم، ويجب أن أتوقف. في هذا الوسط الإنساني الذي يكتظ بالسرد؛ المقاتل الذي يبرز وجهه ناحية عدو يمتلك وجهاً آخر بسردية مختلفة، الشاعر الذي يثبّت رؤيته في هيئة ومضة لا يتخلص من سرديته هو الآخر، الأفعال ستبقى أبداً كزمن يقترن بحدثٍ ما، وحتى الطفلة التي تروي حكاية لعبتها المحطّمة على يد طفل شرير آخر.
ماذا عن الصمت؟
الصمتُ كلامٌ كثير. إنه سردية احتجاج من نوع ما، ومقاومة، ليس فيه رصاصة للجندي لكنه يرفضها، وليس فيه مجازا شعريا لكنه يحجبه، ولا لعبة محطّمة ولكنه يبكيها بإعراضه عن قول شيء، مهما كان بسيطاً وعميقا.
سأعود إلى رغبتي القديمة في العزلة، في محاكاة الفراغ المنتزع من مشهد مسرحي، الفراغ الذي يحفّه مشاهدون بعدد لا نهائي من الاحتمالات.
سأتوقف
أعلم ذلك يقينا، وأخطط لحياة هادئة أعود فيها للرّعي، كسائح يعود إلى طفولته، لا يريد استعادة شيء لكنه يريد مواصلة ما يحب أن يقوم به، أن يموت وهو يمشي على طريق السعادة وحيداً، تاركاً عالماً من الضجيج خلفه، وجحافل من المقاتلين على الطرفين، وغابات من الرصاص المهدر على فكرة ربما لا تستحق.
سأعتزل حتى المجاز الشعري، اللقطة التي لا بد من أن يتوسطها فعل في هيئته الأبدية التي لا يمكن تغييرها؛ حدث مقترن بزمن، ذلك المجاز الذي يثب على صاحبه دائما ليأسره، والذي يضع عقل قائله في ميزان التنمر والعدالة، ميزان الحقيقة والزيف، ميزان المحبة والكراهية، في الموازين اللانهائية من الأضداد.
سأعتزل يوما، دون أن أفكر في أطفال العالم وألعابهم المحطّمة، أو في طريقة هذا الكوكب لتربيتهم على الخسائر، على العنف والدموع والألم.
في مكان ما من هذا العالم هناك حقيقة وحيدة، وهي أنك تولد وحدك وتموت وحدك، لكن أحدا لا يتعامل مع ذلك، فالحدث الآني هو ساحة الرصاص البشرية التي تتكاثف كل يوم، وهو مجاز الشاعر الذي اشتبك مع مخلوقات كثيرة وتجاوزها لكنه يفشل في استحضارها من جديد، وهو الألعاب المحطّمة تحت ركام القنابل في كل الجهات.
لم يعد لديّ ما أخبر به العالم، فمع كل كتاب تتراكم جثث جديدة، ومع كل فيلم يزداد الألم، ومع كل قصيدة يتوحش الجندي، ومع كل لعبة طفل يموت المزيد من الأطفال بلا سبب مفهوم. ومع كل موسيقى يزداد القبح، ومع كل رقصة تتشابك وجهات النّظر حتى الموت.
في مكان ما من هذا العالم
سأعتزل الكتابة
وسأمشي كل صباح خلف قطيعي
باتجاه المرعى
فلعل أملا هناك
خلف تلك الجبال
يولد ويزدهر بسرديته البكر
بمجاز شعري لا أفعال فيه
بأطفال من سلالة شفافة تنساب على المرتفعات بلا تدخل من إنسان هذا الكون الجحيمي..