شعر ونثر

قصائد من الأحلام والخيبات والرؤى المستقبلية للشاعر اليمني الكبير محمد عبيد

منصة انزياحات – خاص

“محمد عبيد.. الشاعر الذي لا ينتمي إلى شلل، ولا ينخرط في الحروب السياسية أو الثقافية.

في هذا الفضاء الحر، حيث الكلمات تُطوى لتصبح شراعا يحلق في بحر الخيال، نعترف بكل التقدير والاحترام بدور الشاعر اليمني الكبير محمد عبيد. كان هذا الاسم مفتاحا لأبواب الأدب، ودليلازفي رحلة الشعر الطويلة والمتشابكة، إذ أضاء لي الطريق لأول مرة، وأعطاني دفعة نحو الحرف والكلمة.

الشاعر محمد عبيد

 

كان هو من أرسل أول قصيدة لي لتنشر. كان ذلك في العام ١٩٩٦. قصيدتي الأولى وجدت مكانها في الصفحة الأخيرة من ملحق الجمهورية الثقافي، وهي الصفحة التي لطالما كانت واحة للحلم والتجريب، حيث تتلاقى الكلمات وتتحاور في أبعاد لا نهائية. كان ذلك بداية الطريق، وكانت تلك اللحظة هي الشرارة الأولى. والآن، بعد أن أصبحت رئيس تحرير لمنصة “انزياحات” الثقافية والاجتماعية والسياسية المستقلة، التي تعنى بشكل خاص بالشأن الثقافي، لا يمكنني إلا أن أعتبر نفسي مدينا لهذا الرجل، الذي جعل من الشعر نافذة للحياة ومن الأدب جسراً نحو الحقيقة.

 

محمد عبيد.. الاسم الذي يختبئ خلفه بحرٌ من الصمت، ولكن حين ينطق، تنفتح نوافذ الأحلام والرؤى. هو من دفع بي إلى هذا العالم المدهش، العالم الذي لا يتوقف عن النمو والتجدد، بفضل إيمانه بالكلمة كقوة تغيير وجسر يوصل إلى أعمق زوايا النفس البشرية. في التسعينات، وأنا لا أزال أحبو في دروب الشعر، كنت محسوبا كأصغر شاعر في ذلك الجيل. بفضل محمد عبيد، قررت أن أخوض معركة الكلمة وأن أستثمر في الصحافة الثقافية، تلك المهنة التي لا تزال تغذي روح الإبداع وتمنح للكلمة حياة جديدة في كل يوم.

 

في تلك الفترة، كان لمحمد عبيد حيز خاص في صحيفة الجمهورية، التي كان يرأس تحريرها الأستاذ سمير رشاد اليوسفي في مدينة تعز، المكان الذي ولدت فيه والمكان الذي ولدت فيه الكثير من الأحلام الأدبية والشعرية. كان عبيد هو مراسل الملحق الثقافي، من مدينة الحديدة ، المدينة التي عشت فيها أزهى وأنقى سنواتي والذي تحول فيما بعد إلى صحيفة “الثقافية”. ولطالما جمعتنا العديد من الملفات الثقافية التي تعنى بقضايا شتى، من بينها ما يمكن اعتباره من أهم وأبرز القضايا: “الحساسية الجديدة في قصيدة النثر اليمنية’.. تلك الحساسية التي تفوقت في الكثير من نماذجها على مثيلاتها في العالم العربي، إذ امتزجت فيها العواطف العميقة والرؤى المعقدة، لترسم لوحات شعرية حديثة تحمل بصمات الأصالة والتجريب.

 

محمد عبيد.. الشاعر الذي لا ينتمي إلى شلل، ولا ينخرط في الحروب السياسية أو الثقافية، بل يفضل أن يقف وحيدا، على الحافة، حيث يولد الشعر الحقيقي. لم يكن عبيد في يوم من الأيام شاعرا حزبيا، لكنه صنع لنفسه مكانة مرموقة بفضل قدراته الإبداعية وإخلاصه للكلمة. ومع ذلك، لم ينل نصيبه من الاعتراف والاحتفاء كما يستحق، ربما لأن الأصوات الصادقة في كثير من الأحيان لا تجد مكانها في عالم يفضل الضجيج.

 

حين صعدنا من قعر تهامة، حيث البساطة المتناهية والفضاءات المفتوحة، إلى صنعاء، العاصمة التي كانت حينها مركز الثقافة والإعلام، شق عبيد طريقه بجدارة، وأصبح محررا ثقافيا في صحيفة “الوحدوي”، الناطقة باسم التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.. بعدها صرت أنا بعد محمد عبيد محررا للصفحات الثقافية في جريدة الوحدوي لمدة ثلاثة سنوات. كان عمله في هذا المجال فرصة جديدة للتأمل والكتابة، لكنه لم يكن يوما تابعا لأية أيديولوجية أو جماعة سياسية. كان دائما شاعرا حرا، يكتب للعالم، للإنسانية، وللمعاني الكبرى التي تتجاوز الحدود الجغرافية والفكرية.

 

إن محمد عبيد، الشاعر النبيل، الذي جاء من قلب تهامة، يحمل في قصائده نبض الأرض والسماء. هو ابن الصمت والأفق البعيد، يكتب بحبر النجوم وأوراق الرياح، وكأن كل كلمة من كلماته هي جزء من قصيدة كونية أكبر، تمتد من الحلم إلى الواقع، ومن الماضي إلى المستقبل.

 

في مختاراته الشعرية، التي نعرضها اليوم بفخر، تجد تنوعا مدهشا بين الحلم والخيبة، بين الرؤى الطموحة والتأملات العميقة. محمد عبيد لا يكتب عن الواقع بقدر ما يعيد تشكيله، يبنيه من جديد، وفقا لقوانينه الخاصة. قصيدته ليست مجرد انعكاس لما هو كائن، بل هي دعوة لما يجب أن يكون. ترى في قصائده الجسور المعلقة بين الزمان والمكان، وبين الحلم واليقظة.

 

عبيد ليس شاعرا يعتمد على الصور التقليدية أو الأفكار المألوفة. بل على العكس، هو شاعر يسعى إلى كسر الحدود، وخلق لغة جديدة تعبر عن ما هو غير قابل للوصف. في قصائده، تجد نفسك تتساءل عن المعنى، تبحث عن الإجابة، ثم تدرك أن القصيدة ليست سؤالا يتطلب إجابة، بل هي رحلة تحملك إلى عوالم لم تكن تتخيل وجودها. عبيد يأخذنا معه في هذه الرحلة، ويترك لنا حرية الاكتشاف، في كل كلمة، وفي كل سطر.

 

محمد عبيد هو شاعر الخيبة بقدر ما هو شاعر الحلم. تجد في قصائده مزيجا من الألم والأمل، من الانكسار والتفاؤل. هو يعبر عن خيبة الإنسان في عالم غير عادل، ولكنه في الوقت نفسه، يعبر عن إيمان لا يتزعزع بإمكانية التغيير. هو شاعر يؤمن بأن الشعر يمكن أن يكون قوة للتحرر، وسلاحا في وجه الظلم والقهر.

 

وعندما تنظر إلى مختاراته، تجد أن قصائده ليست فقط انعكاسا لتجربة فردية، بل هي تعبير عن تجربة جماعية، عن الإنسان اليمني والعربي، وعن القلق الوجودي الذي يعيشه في مواجهة العالم. عبيد يكتب عن الجوع، عن الغربة، عن الفقدان، عن الحب، ولكنه أيضا يكتب عن الحلم بالحرية، وعن الرغبة في الهروب من القيود التي يفرضها المجتمع.

 

في نهاية المطاف، لا يمكننا إلا أن نحتفي بمحمد عبيد، ليس فقط كشاعر، بل كصوت يمثل جيلا بأكمله، جيلا عاش في ظل الصراعات والتغيرات الكبيرة، ولكنه لم يفقد يوما إيمانه بالكلمة وبقدرة الشعر على البقاء. هذه المختارات هي شهادة على عمق رؤيته، وعلى غنى تجربته الأدبية.

 

**صديقي التاريخي ودائما محمد عبيد.. الشاعر الذي علمني أن أرى العالم من خلال عيون الشعر، وأن أكتب ليس فقط من أجل الكلمات، بل من أجل الحلم. إلى الصديق العزيز، الذي كان دائما رمزا للنبل والكرامة، أهدي هذه المختارات بكل حب وتقدير إلى كل قارئ يمني أو عربي شغوف بإسم مغاير هو محمد عبيد.

وبالطبع فإن انزياحات تتشرف بهذه المختارات التي تنشرها للشاعر لمحمد عبيد، الذي تميزت تجربته الشعرية بعمقها وتنوعها، من أولى مجموعاته الشعرية إلى أحدثها ( أقاصي).

 

منذ بداياته في الكتابة، أسس محمد عبيد لنفسه مكانة بارزة في الأدب اليمني المعاصر. قصائده ليست مجرد كلمات تُلقى في فضاء الأدب، بل هي نوافذ مفتوحة على عوالم معقدة من المشاعر والوجود الإنساني. في كل قصيدة، ينطلق عبيد نحو عوالم جديدة، متحديا التقليد ومحدثا قفزات نوعية في البناء الشعري.

 

ما يميز عبيد هو قدرته على الدمج بين البساطة والعمق. فهو يستعين بلغة مباشرة أحيانا، ولكن خلف هذه السطحية البسيطة، تجد أفكارا غنية بالتأملات والرؤى. يتمتع شعره بجماليات فلسفية تعكس واقع الإنسان وهمومه وأحلامه. في قصائده، نجد انعكاسات لتجاربه الشخصية ومواقفه الفكرية، ما يجعلها قريبة من القارئ، ومتفردة في الوقت نفسه.

ولد محمد عبيد في فترة زمنية شهدت تحولات ثقافية واجتماعية في اليمن . تأثر بعدة مدارس أدبية وفكرية، بدءا من الشعر الجاهلي والتفعيلة والقصيدة المدورة ،وصولا إلى التيارات الحديثة، مرورا بالتجارب الشعرية العالمية. لكنه لم يقتصر على التأثر فقط، بل كان له دور فعال في صياغة نهج جديد في الشعر اليمني “الحساسية الجديدة في قصيدة النثر اليمنية”.

 

استفاد محمد عبيد من تجربته الشخصية وتأملاته في الوجود، ليقدم قصائد مليئة بالتساؤلات حول الحياة والموت، والحب والفقدان، والمكان والزمان. فهو لا يقدم أجوبة جاهزة، بل يفتح أمام القارئ ابوابا من التفكير والتأمل.

 

في مراحل لاحقة، بدأت قصائده تحمل طابعا فلسفيا أكثر، حيث يعبر عن رؤى وجودية تتناول قضايا الإنسان والطبيعة والمجتمع. في هذه الفترة، تجلت قدرته على المزج بين الأفكار العميقة والتعبير الشعري البسيط. كان يستخدم الرموز والصور بطريقة تجعل القارئ يفكر ويعيد النظر في مفهومه للواقع.

 

ومن أبرز سماته الشعرية في هذه المرحلة، هو تركيزه على التفاصيل اليومية الصغيرة التي قد تبدو للوهلة الأولى تافهة، لكنها تحمل في طياتها معانٍ كبيرة. هذا الأسلوب جعل من قصائده أقرب إلى القلب والعقل، حيث يستطيع القارئ أن يجد نفسه في كلمات الشاعر.

يُعتبر محمد عبيد واحدا من الأصوات الشعرية الرائدة في قصيدة النثر اليمنية. تميزت أعماله بقدرتها على التجديد والتطور، مما جعله يحظى بتقدير واسع بين الأدباء والنقاد على حد سواء. فهو ليس مجرد شاعر يكتب قصائد تقليدية، بل هو مبدع يسعى دائما لتقديم شيء جديد ومختلف.

قد تكون قصائد عبيد صعبة الفهم في بعض الأحيان، بسبب تعقيداتها الفكرية والرمزية، لكنها في الوقت نفسه تجذب القارئ بفضل جماليتها الشعرية وتعبيراتها الفنية الرقيقة. فهو يستخدم اللغة كأداة للتواصل، ولكن أيضا كوسيلة لاستكشاف أعماق النفس البشرية.

تأثرت قصائده بالشعر العالمي، وخاصة الشعر الفرنسي والياباني، حيث نجد في بعض قصائده تأملات تشبه تلك الموجودة في قصائد الهايكو اليابانية، التي تتميز بالاختزال والتركيز على اللحظات العابرة. كما يظهر في شعره تأثره بالشعر الرمزي، حيث يعتمد على الرموز والإيحاءات أكثر من التعبير المباشر.

ختاما، لا يمكن الحديث عن تجربة محمد عبيد الشعرية دون التطرق إلى إحساسه العميق بالوطن والانتماء. فقصائده تعكس علاقة وثيقة بالبيئة التي نشأ فيها، حيث يستلهم منها صوره الشعرية ورموزه. ( تهامة ) كما يعبر في الكثير من قصائده عن حبه للوطن، ويعكس في بعض الأحيان حالة الاغتراب التي يشعر بها نتيجة التغيرات الاجتماعية والسياسية التي مر بها البلاد جراء الحرب.

في النهاية، لا يسعنا إلا أن نشيد بتجربة محمد عبيد الشعرية الفريدة، التي تجمع بين الجماليات الفنية والعمق الفكري. انزياحات تتشرف بنشر هذه المختارات من أعماله، التي نأمل أن تكون مصدر إلهام للقراء والمهتمين بالشعر اليمني والعربي الحديث.

***

مختارات للشاعر اليمني الكبير محمد عبيد

 

خمسة وعشرون قصيدة من الأحلام والخيبات والرؤى المستقبلية والحديثة الشعرية

خاص انزياحات

الشاعر محمد عبيد

(١)

“يا رب ”

 

يارب

ليست بالضرورة

مقدمة دعاء أو ابتهال

يقولها اللصوص وهم يفتحون الخزائن

ويقولها القتلة ويقتلون بدم بارد

ويقولها السفلة وينتصرون على أصدقائهم

ويقولها نصف رجل

حين يضاجع امرأة شاهقة

وتدعو بها نساء الحارات على جاراتهن

وتقولها أنت حين يقرع بابك ليلا

ضيف ثقيل

 

يا رب

كم نحتاج إليك نحن أيضا

لتخلصنا من االلصوص

والقتلة

و أنصاف الرجال ..

 

(٢)

“تهامة”

 

تهامة

قبوةٌ يهرقها النعاس

على صدر باهض الرائحة

وبنات تدعكن أحلامهن

بفائض الرغوة

ورجال تزدردهم كوافي الخيزران

والعكاوات الحميمة

أورثوني بساطتهم وسذاجتي

(٣)

“الخمسون خلف العربة

 

الخمسون خلف العربة

الخمسون التي دربت

أيامي على الركض

أسميها الهزيمة

وأقذفها من النافذة ..

 

الخمسون المحتفية برصيف

احتفاء طائر بشجرة

كم أحتاج أستبدلها

بفائض بهجة

و أن أقايض الأصدقاء

بخلالات أسنان ..

 

الخمسون عناوين الندم

وأنا المحاصر بخيبة الظن

أدلل في الصحو

أحلامي ..

 

هكذا يحدث في الظن

أن تنمو الخيبة كندبة

أن أفتح نافذتي

على أشجار الليل

فيما الخمسون

تركض

خلف العربة ..

 

(٤)

” هكذا تمضي أيامي”

 

لديهم ذخائر لخوض الحروب

ولدي الكثير من الشتائم

يتقاسمونها بينهم،

هكذا تمضي أيامي

كعصفور يحلم أن ينام،

تستهويني الحياة

وأبتهج بأيامي الحزينة

لست مقاتلا يعانق الموت

في حروب الآخرين ..

 

(٥)

 

“نهار آخر يتسع ..”

 

 

ببقايا نعاس تنهض الصباحات

على غفلة من النافذة ،

ذهول الشاعر في المقهى

نهار آخر يتسع ..

الدخان يثرثر:

عن مظاهرة للطاولات

ضد لاعبي الورق ،

عن البياض

الذي كنسته الدهشة ،

عواء الجدران

في ساعة قائظة

من الليل ،

الشمس التي تنهض

بمانفيستو الحرية ،

الله الذي لا يحبه

تجار القمح ،

الكتب المفضلة للمضاجعة ،

المُدية المحتفية بدم ،

الغرف التي يتذكر فيها الموتى

حاجتهم إلى التثاؤب ،

قصائد الهايكو ،

النابالم ،

نشرات الأخبار ،

غاز الأعصاب ،

الأدوية الفاسدة ،

التفكير الذي تصاحبه

حكة في الجلد ..

 

(٦)

 

“لا يستطيع

اجتياز الطريق وحده ”

 

 

ندخن السجائر الرديئة

ونضحك بعينين دامعتين

ولا ينمو بين أصابعنا الورد

 

لدينا الكثير من سوء الحظ

والقليل من الضوء

مثل كفيف لا يهتم بأنوار الشوارع

لكنه لا يستطيع

اجتياز الطريق وحده

 

في النهاية يكون لدينا

فائضاً من الوقت والكلام

لنحكي للآخرين

عن خيباتنا !

(٧)

 

“ماذا لو أننا لم نكبر ”

 

ماذا لو أننا لم نكبر

فلا نهتم بنشرات الأخبار

و قراءة صحف المعارضة

أو كتابة قصيدة نثر ..؟

 

ماذا لو بقينا صغارا

و أحلامنا صغيرة

نحتفي بحذاء جديد

و حقيبة مدرسية

خضراء ..؟

 

ماذا لو ظللنا طفلين صديقين

دون تغيرات فسيولوجية

في جسدينا

تحرضنا على اكتشافها

بدخول قفص

و انجاب ذرية

نفترضها صالحة ..؟

 

ماذا لو أنني لم أفصح لك

عن هزائم يومية

تبعثرني في شوارع خلفية

مشيناها

حتى تآكلت قدمينا ..؟

 

ماذا لو أن العمر

لم يكن أياما متسارعة

تقودنا للكهولة

و تجعلنا نفكر

بوضع حد للخذلان

و استثمار ما تبقى من العمر

في مشاريع مؤجلة

كإنجاب أطفال

يحتفون

بأحذية جديدة

و حقائب مدرسية خضراء

كأحلامنا ..؟

 

(٨)

 

“لم أعد شاعرا

كما ينبغي لشاعر”

 

 

لم أعد أكتب

عن البيض المسلوق ،

و صرت أكتب

عن الأسماك الملونة

داخل الأحواض الزجاجية ..

لم أعد شاعرا

كما ينبغي لشاعر

يسكن في كومة قش ،

صرت أكثر خوفا

مثل سحابة

لا تمطر دائما

لأن الغيم مثقل

و السحابة

لا تحمل إرثا قديما

يشبه الرمل الذي تحتاجه نملة

لتبني مسكنا في حقول القمح

لا تهدمه الأقدام

الأقدام التي لا ترى في الأعالى

سوى سحابات بيضاء

مثل قلب أمي

جافة كأرض قريتنا ..

 

لست حزينا

و أستهلك كمية خرافية

من البهجة

لأبتسم و انثر البياض

الذي أكتب فيه

عن شاعر حزين

ليس لديه نافذة

و منذ أعوام

لم يكتب قصيدة

لأن السماء عالية

و الأسماك

لا تصلح جميعها للزينة ..

 

أدري بأن الحزن

لا تساويه كذبة صغيرة

لصديق يكتب

عن حبيبة مفترضة

و لا يجد من ينتظره

في موقف الحافلات !!

 

(٩)

“جهة القلب غامضة

والموت جهات عدة”

 

 

في الحرب المفترضة

فقدت دماغي،

وفي الموت وجدتني

ولم أجد الغائبين ،

ذابت التماعات الصيف

ولم يذب طعم السكر

ليس في الفنجان ما يثير،

جهة القلب غامضة

والموت جهات عدة

نحن الإخوة في الحلم

نحتاج إلى الحب

كنوع جيد للطهارة

الطهارة التي نتلمسها

عند كل صلاة،

سأحتاج إليك كـوطن

يعوي في القصائد

فالشتاء قرصان ليلي

يتربص بالهزيمة !!

 

(١٠)

متعبٌ ككتابِ نبي

أرهقهُ زيفُ التأويل

 

(١١)

“ستقضي ليلة أخرى

و.أنت تحصي أعقاب سجائرك”

 

شخير دون نوم

لا يعني سوى

أنك تحاول التنفس

بأنف مهرج

و تجرب المشي

على حبل الغسيل

بينما رأسك فوق الوسادة ..

 

ضع أنفك في مكان خارج الغرفة

و اغلق عينيك عن آخرهما

تخيل أن الحبل

ستسخدمه جارتك

لنشر نهديها المبتلين ..

تخيل أيضا أن أنفك

ليس له علاقة بشخيرك ..

و أن رأسك

علبة حليب للأطفال …

ستقضي ليلة أخرى

و.أنت تحصي أعقاب سجائرك

و لا تكف عن الثرثرة !

(١٢)

من يخبر البحر

بأننا على اليابسة

غرقى .. ؟

(١٣)

يتسكع وحيدا

بقدمين دائختين

وجيوب ممتلئة بالحنين

(١٤)

‘عينيك ليستا سجادتين في الجامع الكبير”

 

 

و حين أقول : لا أحب الرمان و أكره الحرّاس

تأكدي بأن لا علاقة لأحد بقصتنا

وإن قلت : أخاف من القذائف الكفيفة

فليس معنى ذلك أنني لا أحب رائحة الريحان في المقابر

و ان عينيك ليستا سجادتين في الجامع الكبير !

هل يمكن لشمس أن تثبت علاقتها بخدين ناعمين ؟!

لقد قلت كلاماً كثيراً حينها

عن الفراشات التي تموت في حضن المصباح ..

و قلت أيضاً : إن رائحتك تشبه رائحة المطر المخبأ

بأكمام الغيم فوق قريتنا،

و بعد حين من الكلام

قلت : إنك لعنتي الوحيدة ..

أظنني بحاجة لأعترف بأني عاشق سيء الحظ

و بأن نهاياتي دائماً سيئة !

(١٥)

و حين أموت

لا ترفعوا مكبرات الصوت بالقرآن

لا تفتحوا عزاء ولا تعلنوا عن حفل تأبين

لا تنشروا تعزية في جريدة الثورة

اتركوا روحي

تعوي كذئب في البراري ..

(١٦)

لا علاقة لي بالقتلة ولست محاربا عند أحد،

هكذا تمضي أيامي كطائر يحلم أن ينام،

تستهويني الحياة وأبتهج بأيامي الرتيبة ..

لست مقاتلا يعانق الموت

في حروب الآخرين ..

(١٧)

لستُ قطاََ في أحضان سيدةِ القصر

أو كلبا عند باب الحديقة،

إنني رجلُُ حزينُُ

أبولُ على الكلبِ

و أضاجعُ سيدةَ القصرِ

و أفتحُ بابَ الحديقة !!

(١٨)

ليس في بلادي جبال

يكسوها الثلج

لأكتب لحبيبتي

– ما زلت اتزلج و سأعود

عشية عيد الميلاد ..

ليس في بلادي أعياد ميلاد

لأزين الشجرة ..

ليس في بلادي أشجار

تحتفي بالعصافير ..

ليس في بلادي عصافير

لا يقتلها الصياد ..

(١٩)

“حسبي الله منك أيها الشعر”

 

حسبي الله منك أيها الشعر

في بياض الوقت

أنمحي برائحة قهوتك

أقيس زوايا الغرفة

ألملم قهقهات أصحاب

كانوا هنا ..

 

كم أمقت الموت

و الدائنين

الكون لا يوازي اشتياقي لأمي ..

أحتاج اقتراض أصدقاء جدد

يشاركونني الهزائم

عشيقات أغرم بهن

كنساء حقيقيات

كقصائد أضمنها

مجموعتي الجديدة ..

 

يلزمني

مزيداً من السخط

لألعن حظي

و أدعو علي بالخذلان

كولد عاق

ثم أبكي

مثلما أفعل في حالات مشابهة ..

 

(٢٠)

يلزمنا أن نثور

كأشياء كثيرة

تثور علينا

في مدن تحترف الثرثرة..

لنمقت هذا الغياب

حين لا نجدنا

حيث كنا منذ لحظات نُغني

فلا نعد نرانا

ولم يعد بإمكاننا الاعتذار

عن حماقات فائضة ..

 

سنحتاج أن نكتب

شيئاً جديداً

عن موتنا

عن أصدقاء في المجاز

أحبة خارج الكلام

داخل المعنى

ينامون دون عشاء

ويلفظون أنفاسهم

في غرف مظلمة ..

 

هل سأحصي ما التهمه الموت

من الشعر

و من الأصدقاء

الذين استنطق أيامهم

وأنا أرقب موتي

من بعيد..؟

 

(٢١)

“كم يبتهجون بالندم”

 

 

الصيف غيم صنعاء المفاجئ،

و المطر المنهمي

يشبه أسئلة الأصدقاء

حين تطلقهم النشوة إلى المقهى

و حين ينتصبون قرب الإشارات

في انتظار دهشة

أو قصيدة نثر في عربة فارهة ..

 

كم يبتهجون بالندم

يتأملون الكلام العالق في النوافذ

يخبؤون أصابعهم في جيوب دائخة،

الرذاذ يبلل نشوتهم

و مطر يناثرهم

في أزقة تحتفي بالنعاس

والكلاب الضالة ..!

(٢٢)

“يشبهني هذا النص”

 

لست ثائراََ

و لا أنتمي لثورة

كلما خرجت في مظاهرة

أجدني وحدي ..

و كلما شتمت نظاما

يستبدل قناعا جديدا ..

و في كل ثورة

هواة تسلق ..

لست ثائرا يا رفاق

لأن القتيل

لازال يحلم ..

 

(٢٣)

“صديقي صار أبا طيبا”

بعد أن أنجب طفليه التوأم

و صار له باب و نافذة يغلقها

في سطح عمارة دون سلالم

أو ساكنين ..

صار أبا طيبا

و زوجا يعود باكرا إلى السطح …

صديقي الذي لا ينتظر زائرا،

ينام مبكرا

ليرى الشمس كل صباح

تقبل حبل الغسيل .. !

(٢٤)

 

“يصحو حسب المزاج

مثل شاعر يحترف الموت ”

 

 

يغسل وجهه برائحة قهوة لم تبرد

في صباح يتسلل كشمس خرافية

تغري الأمهاتِ بنشر الغسيل باكراً

و تحرض التلاميذ على اختصار

جداول الحصص ..

 

سيرش السلام على البنايات اليابسة

و يحيي أصدقاء دون ملامح

يركضون في نهارات رتيبة

و نساء تتعثرن بنظرات العابرين ..

 

يصحو حسب المزاج

مثل شاعر يحترف الموت

أو خاطرة استدرجتنا إليها

كصلاة تؤديها أمّ تحب الله

كحبنا للسجائر و أكثر ..

 

المزاج السكران يثمل بأغنية

ربما نستغيث و نستنجد بدعاء

ليكون وسيطاً لسماء أكثر صفاءً

من المياه المعلبة …

 

سنكون أكثر لذةً من حلوى العيد

في آخر مرةٍ تذوقتها قبل مصادقة اليتم ..

إنه خلاص من موت

احتراق سجادة أطلنا السجود عليها

ولم يلبث أن عاودنا الموت

الموت الذي مللناه

و لكنه لم يمل بعد !

 

(٢٥)

‘نحن’

 

 

نحن إخوة في الكلام

نقتسم غنائم الحروب

و خسائر المعارك المفترضة ،

نحن الرفاق حين تكون القنينة

مبتهجة

و أحباب الله حين تمتلئ الجرار

بالعسل

نتحدث كثيرا عن الجنس

و فضائل ليالي الخميس ..

 

نحن الذين اختفوا ذات حرب

و فقدت خيولهم

لكن الموت لم يختطفهم

لأن الأشجار عالية ..

 

سيكون بوسع الشعراء

أن يكتبوا قصائد جديدة

– عن أرملة

تدخن كثيرا

و ترقص وحدها في الليل –

الشعراء الذين لم ينسلوا

من دخان سجائر الماغوط

و هو يكتب ديوانه الأخير

و يوقع اسمه بعود ثقاب !


قصائد نثر مغذاة بالسرد إلى محمد عبيد 

فتحي أبو النصر 

1.حوار بين نبضين

 

أنت، كنت ترسم العالم بأبجدية جديدة، وأنا أُعيد ترتيبَ الفصول كي تتناغم مع ملامح الحلم..هل تذكر ؟

ثم حين كنا نقطفُ اللحظةَ من رحم الريحِ، ونعيدُ صياغة الحقيقة على جدرانِ الغياب.

 

كان الضوء يراقص ظلال الكلمات، وأنت تأخذني إلى أفقٍ لم أزرهُ من قبل.

كنت أرى في عينيك مدينة لا تهزم،

مدينةٌ تنبضُ بالحياةِ رغمَ كلّ شيء،

فهل لي أن أكتب معك ما تبقى من اسطورة اللقاء؟

***

 

2.رائحة الأغاني

 

كنتَ تحاور الكون بلا ضجيج، وأنا استمع لصوت الحكايا في أنفاسك.

هل شعرت يوما أن الأُغنيات تسرق منا معاني الصمت؟

نحن كنا نكتب الألحان، قبل أن تدرك الآلات كيف تعزف وجعنا.

كانت السماء تمطر موسيقى، ونحن نركض تحت أمطارِ الكلمات.

 

“لنفرح” قلت، وأنا كنت أراقب الفرح يذوب بين أصابعِ الزمان.

هل نعود إلى الأغاني التي تروي حكاياتنا المبتورة؟

 

***

 

3: ما تبقى من حلم

 

كنت أحاول أن أقبض على حلمي قبل أن يهوي بين يديك،

وأنت تنسج من ضوء الشارعِ المتساقط على أوراق عشب حديقة الشعب في قلب الحديدة ،نجوما تسقط على شرفات النسيان.

كأن الحلم كان بداية كل شيء، وأنت كنت نهايته.

 

لماذا نصر على كتابة ما لا يكتب؟

ولماذا نصر على أن نضيء ما لا يضاء؟

نحن أحياء بحلم لا نملكه، فهل نعيد اكتشاف ما فقدناه ؟!

***

4: تهامة ترسم نفسها

 

في تهامة، كنا نرسم الصباحات على الرمال،

والريح كانت تعيد تشكيل الحدود في كل لحظة.

الأفق لا ينتهي هنا،

مثل الحلم الذي يسكن في أعماقنا دون أن ندرك كيف بدأ.

 

وهكذا في تهامة، كل شجرة تحمل سر الأرض،

وكل ذرة غبارٍ هي ذاكرة الرياح.

هل تذكر كيف كنا نسير بلا خريطة،

وكيف كانت الخطوات تعيد رسم وجه الغياب

 

 

***

5: البحر ينادينا

 

في كل صباح، يقف البحر على شاطئ الأمل،

يعانق رمال تهامة بلطف،

يتحدث إلى السحاب، كما نتحدث إلى القات،

نُحلي مرارة الأيام بذكريات لاتنسى.

 

وفي زوايا حديقة الشعب، نجتمع،

نفتح دفاترنا الثقافية،

تتجاوز الملفات الخمسين،

تلك الصفحات التي تحكي عنا،

كما تحكي الأمواج عن أسرارها.

***

 

6. حديقة الشعب

 

هناك في حديقة الشعب،

كانت تتراقص أوراق الشجر مع أنفاس القات،

نتنفس رائحة الأمل،

ونقرأ في عيوننا،

مسودات قصائد لم تكتب بعد.

 

كل فل هو كلمة،

وكل عصفورٍ يكتب قصيدة،

نحتسي القات،

ونجمع الحكايات،

مثلما يجمع البحر اللؤلؤ من قاعه.

**

 

7: ذاكرة تهامة

 

تهامة، ذاكرة لا تنتهي،

تحتضن الذكريات كما تحتضن الأم طفلها.

نسمات البحر تروي لنا حكايات،

ونحن نمضغ القات،

نحلق في فضاء الأفكار.

 

وفي جريدة ثقافية،

نستعرض تفاصيل الحياة،

نتنقل بين الملفات،

كما يتنقل البحر بين الشواطئ،

كل ملف يحمل حكاية،

كل حكاية هي جزء منا.