الثواني المندلقة على ما تبقى من نغمات لموسيقى تعزفها أصابع بارعة، الصمت المترقب لضربة مباغتة على وتر مشدود في بداية المقطوعة التالية. أصابع العازف البارعة وانفعاله المهدر. الأشياء المتاخمة للصداع. لا شيء يتمزق إلا إذا ظلت الأوتار مشدودة والأصابع تتنقل بخفة فراشة. (هايتش- جورج ابيض- حسام شاكر والفرنسي). اسمه الفرنسي لأني لم اعتد حفظ الأسماء الأجنبية. “هايتش” استثناء ويجب أن يكون كذلك. لأفترض أني سأبرره بالتشابه مع اسم عربي؛ “هاشم” مثلاً، وهذا يقودني لتذكر “هاشم علي”، وإدراك كم أن التمزق قادر على بناء جوهر صلب.
أرغب بتركيب أسماء أخرى من هذا الأجنبي؛ “شتي”، شتيه”، “شاتيليه”. ها قد تمكنت من تركيب اسم فرنسي(كما يبدو) أو أني تذكرته، فأين يكمن الغباء؟ الغباء المستفحل في الأسماء، في الأشياء، في الـ………… …. في الأشياء… “أنا متعب يا أبي… لن اذهب معك إلى الجنة”.
الصداع يمنعني من ركوب دراجة نارية لا يحتاط سائقها لسلامة ركبتيّ الطويلتين، القلب الذي يخفق في الركبة والصداع الذي يصيب أصابعي. كيف أبدو منطقيا في كل شيء؟ القرفصاء جلسة مناسبة على مرحاض عربي، تماما كما هي مناسبة لكآبة قرد يتأمل الغروب.
الأشياء الكافية لملء قرص اليكتروني، أحاجي جدتي التي ماتت دون سابق إنذار، لا أريد التفكير بالموت، كما إن الامتلاء يزعجني. في كل الأحوال لا بد لي من إيجاد مساحة، ولا بد لي أيضاً من تعبئتها. ((“هو”.. كل ما يشغل حيزا من الفراغ))
(انتبه يا أخي.. لا تكتب شيئا وأنت مسترخ. يجب ألاّ تبدو بليداً حتى لا تكون كذلك بالفعل… استغفر الله لي ولك… عفوك يا مولانا، لم يقصد أن يتبول على بلاطكم، أرجو أن تترك لي أمر عقابه)
أتدحرج من شاقوص ضيق على ارتفاع برج وجبل. قبل قليل كنت أنظف أعشاش الحمام. من الذي دفعني؟ ماذا افعل الآن وأنا اهوي؟ لن يسمعني احد، لا احد يستطيع إنقاذي. لماذا افترض أني أموت؟ لو كان لي جناحان كما قال أخي، لتمكنت من التحليق؛
((عزيزاتي الحمام: لا تتعبن أنفسكن. أنا أثقل من أن تحملني هذه الأجنحة المرهفة، أثقل من أن ترفعني مناقيركن الملونة. آسف لأني لم أكمل تنظيف الأعشاش))
أطير بدون أجنحة، لا أفكر بالموت مطلقا، وأتمنى أشياء كثيرة. أعرف أني بعد قليل سأرتطم بالأرض، وهذا لا يعني أني سأموت بالضرورة. مازال أمامي مسافة كافية للحياة بمرح طفلة “تنفض التراب من لحية أبيها”. سأغني دون خوف من أن يسمعني أبي بأذنيه أو بأذني صديقه (المطوّع) الذي يراقبني دائما. أريد أن اغني باتجاه السحاب، لكن رأسي باتجاه إجباري نحو الأرض، وريثما أستطيع تحويل وجهي إلى الأعلى، سأغني للأرض، سأكتب لها ما أريد دون تذمر من أن يجيء في بيان النعي:(لقد غنى للأرض، كتب للأرض، بل كان متفردا في عشقه للأرض). هكذا تتحقق إرادتي في عدم تمكين الآخرين من تحديد نوع العلاقة بيني وبين الأشياء.
الحمام الزاجل خلفي، هو من يساعدني على تبديل وضعيتي، النسور الصغيرة التي كانت تحلق بعيدا، اقتربت. أستطيع أن أتعرف من بينها على من سيغمض عينيه باشمئزاز قبيل الارتطام بنصف متر، من سيشيّعني حتى آخر سنتيمتر، ثم يجفل ضاربا بجناحيه حتى يوشكان على التحطم، ومن سيحتفظ بهما للانقضاض مرة أخرى على أشلائي الأكثر دسماً. هناك، بالتأكيد، من سيبقى في الأعلى يراقب المشهد ويعلق بـ”لا حول ولا قوة إلا بالله”.
النسور التي تحولني نحو الأرض مرة أخرى، جاءت من الأسفل، ومع أول لمسة لها على جسمي، أدركت لماذا فرد النسر الكبير جناحيه، كأنما يتأهب للطيران، دون أن يغادر مكانه على قمة البرج. كان جناحاه فقط، يستطيعان إنقاذي من السقوط، وبدلاً من فعل شيء، ظل يرسل إشاراته لي كي أعود إلى الأعلى. لهذا السبب، تقريبا أو تحديدا، لا ارغب بالعودة. هذه اللحظة بالذات، قررت ألاّ أعود. في كل الأحوال، إذا عدت، سأبقى في متناول قدميه، يدحرجني وقت ما يشاء، ولأي سبب يراه كافياً، هذا هو وضعي الطبيعي.
صارت الأرض قريبة…. قريبة جدا. كان يفترض أن أهيئ نفسي بوضعية جيدة للارتطام، يستحسن أن افقد الوعي أولاً؛ رأسي إذاً، ركبتاي الطويلتان، يجب أن احل مشكلة الوعي.
((عُدن أيتها الحمام وأكملن تنظيف الشاقوص، لا تشاهدنني عندما ارتطم، لكن إذا استطعن، اجمعن ما يتطاير من رأسي. انتزعن قلبي ولا تفتحنه إلا في بداية الكرنفال الذي سيقام غدا. سأكون حاضرا هذا الكرنفال وأحب أن أرى الفراشات تتطاير فوق رؤوس المحاربين، وتحط على أنوفهم كي تكتشف العيون التي تخبىء الخطيئة، الأنوف الممتدة إلى كل شيء))
لم تعد الأرض قريبة جدا، والكثير مما يجب قوله فات بسرعة، صار مناسباً كي أقوله خارج زمنه الأصلي. بعض المناقير الملونة طويلة أيضاً. ستحط عليها الفراشات غدا لتجعلها بحجم منقار البوم. الصخور التي اصطبغت قبل قليل، الفضاء الفسيح، الثواني المندلقة على ما تبقى من علبة بيبسي أشربها باستمتاع اللحظات الأخيرة للصداع، وعلبة أخرى “تطلّع لك جواااااانح”.
ها أنا أجفل ضارباً بجناحين لا [يوشكان على التحطم]، وأعود إلى الأعلى بدون إشارات. الأعلى….. حيث أستطيع-بدون أن ألتفت- رؤية القدم التي تنوي أن تدحرجني، أمسكها بقبضة قوية وأعيدها إلى مكانها، متظاهرا بعدم معرفة ما كانت تنوي. تماما كما يشعل البطل- في فيلم(اكشن)- سيارة خصومه برمي الولاعة التي أشعل بها لتوه سيجارة، على الوقود المتسرب. مثله تماما، عندما يلتفت إلى الخلف بعد انفجار السيارة ويرمي سيجارته وهي لم تحترق بعد بأكثر من مجتين؛ الملامح المستهترة بالحياة بعد أن قُتلت زوجته وطفلته الوحيدة بمسدسات قراصنة البنوك، إتلاف القرص الذي يحتوي على أسماء مسئولين كبار متورطين في شبكة القرصنة. قذف الشارة باتجاه زملائه الذين يهمهمون بعدم تمتعه بحس المسئولية واحترام القانون. الأنفاس المحتبسة لمحاولة استعادة اللياقة. التخلص من واجب الوظيفة التي تصير الأمور فيها شخصية أكثر مما ينبغي. حياة ناقصة لكنها أكثر هدوءاً.