شعر ونثر

من يوميات الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة 

 

خاص| انزياحات 

 

أيلول، في قلب المحن، يشكل انعطافة ذات طابع خاص، كأنما هو رسالة من الزمن تتحدث عن الأمل في أحلك الظروف. في غزة، حيث تتشابك صرخات الأمل مع أنين الألم، يأتي هذا الشهر محملاً بالدروس التي تعيد بناء الروح وتعزز الإرادة. هو فصل يرتدي ألوانًا من التناقض، يعكس تجدد الطبيعة رغم الخراب الذي تسببه الحرب. 

عندما يأتي أيلول إلى غزة، يكون بمثابة نافذة بين معاناة الصيف ووعود الخريف. هنا، حيث تطغى الضوضاء على الهدوء، يصبح الشهر رمزًا للتغيير والإمكانات الجديدة وسط الدمار. تصرخ السماء بألوان الأرجوان والرمادي، وهي تعبر عن آلام فصل الصيف الحار، وتعلن عن قدوم فترة جديدة قد تجلب معها بعض الراحة. 

الأوراق المتساقطة على الأرض، رغم كونها شبيهة بأشلاء الحياة التي عانقت حربًا لا نهاية لها، تذكرنا بأن الطبيعة تستمر، أن كل نهاية تأتي لتتيح فرصة لبداية جديدة. في ظل الدمار الذي يخلفه النزاع، تظهر بوضوح الرغبة في التجدد والانتعاش، كما تنبض الحياة رغم كل محاولات قمعها. 

أصوات القصف التي تتخلل الليل، يقابلها صوت فيروز الذي يعبر عن الحنين للسلام، يملأ الأجواء بدفءٍ مفقود. تغني لحنًا يذكّرنا بأن الأمل لا يموت، وأن كل قسوة يمكن أن تكون محفزًا لبدايات جديدة. رغم قسوة الواقع، هذه الأصوات ترفع معنويات الناس وتذكرهم بأن الحياة، حتى في أحلك أوقات الصراع، تظل دائمًا قادرة على التجدد. 

أيلول في غزة، يحمل في طياته دروسًا حول الصمود، والشجاعة، والإرادة. هو تذكير بأن كل فصل من فصول الحياة، مهما كان مؤلمًا، يتبعُه فرصة جديدة للنمو والتغيير. في خضم الحروب والمآسي، أيلول يعيدنا إلى جوهر الأمل ويذكرنا بأن النهايات ليست سوى بوابات لبدايات جديدة، حتى وإن كانت الطريق إلى السلام لا تزال طويلة وصعبة. 

في هذا الشهر، نحن نحتفل ليس فقط بقدوم الخريف، بل بنجاح الإنسان في النهوض من الرماد والدمار. كل بداية جديدة، حتى في زمن الحرب، هي شهادة على قوة الروح البشرية وقدرتها على التحمل والتجدد. 

أيلول، شهر البدايات الخارجة من النهايات،  

حين تتسلل نسمات الخريف بهدوء،  

تسحب معها عبق الصيف وتُغازل الهدوء.  

تحل الأوراق المتساقطة على الرصيف كذكرياتٍ عتيقة،  

وكل ورقة تسقط، تسرد حكاية عن رحلةٍ انتهت لتبدأ أخرى. 

تبدأ الشمس في الانخفاض ببطء،  

تسافر نحو الأفق بلونٍ أرجواني،  

مُذكرةً أن الأيام ليست سوى فصول تتجدد،  

وأن كل غروب يحمل وعداً بشروقٍ جديد.  

صوت فيروز يتسلل من خيمة مجاورة،  

تغنيه الأمسيات حول طاولةٍ قديمة،  

يُغذي الروح بشعورٍ غير مرئي من الأمل. 

أيلول، لم يعد فقط شهراً في التقويم،  

بل هو لحظة على حافة الزمن،  

يدعونا لنتذكر أن النهايات ليست سوى بداياتٍ مغطاة بالندى،  

وأن الحياة، رغم كل تحدياتها، تظل متجددة  

كأوراق الخريف المتناثرة تحت أقدامنا.

غزة_خان يونس

 

***** 

في سماءٍ مليئةٍ بالغبار، حيث لا نجوم تشع، يُخيّم الظلام على المدينة، كأنها تُحاكي وجوهنا الكالحة. تسير الأرواح في شوارعٍ ضيقةٍ، حيث تنزف الأزمنة الماضية في كؤوس الذكرى. هناك، في زوايا الدكاكين القديمة، تجلس الأحلام المكسورة، تدخن سجائر الصمت، بينما تسقط دموعُها على الطاولات المهترئة.
في ركنٍ مظلم، تتشابك الأيدي في العتمة، تُحاكي أشباح الحب الذي ضاع، تُعيد رسم ملامحه على جدران القلب المشروخة. هناك، حيث يتردد صدى الأنين عبر الأزقة، تفتح النوافذ عيونها على فراغٍ لا ينتهي، على جوعٍ لا يشبعه إلا الموت.
في هذا العالم الباهت، تنمو الزهور على قبور الأمل، تُغني بصوتٍ خافت أغنية الحياة التي نسيها الزمن. تمر الأيام كأنها نسائم باردة، تُلامس الوجوه المرهقة، لكنها لا تترك أثرًا، كما لو أنها لم تكن يومًا.
ها نحن، نبحث عن النور في الظلام، نلهث وراء سراب في متاهات الألم، نعيش تحت ظلال المدينة التي أكلها الصدأ. ورغم كل ذلك، نبقى واقفين، مثل أشجارٍ قديمةٍ، نتحدى الرياح التي تهب بلا رحمة.
في هذه اللحظة، حيث يُخيم الصمت، تهمس لنا الأرواح المفقودة: “لا تبحثوا عن الخلاص في هذا العالم، فكل ما هنا ليس إلا شبحًا من الماضي، صورةً باهتةً لم يُكتب لها الحياة أبدًا”.