نوافذ
هذا الصباح،
شاعر يحمل اقفاصا ملأى بالطيور
ويطبقها من النوافذ..
اعجوبة المرأة الغامضة
ظهرت المرأة في البلدة النائية، حيث الضجر يفور في الغرف، وحيث الرجال يتعفنون في وحل اليأس. شاهدوا اعجوبة السعادة، وهي تمشي موبوءة بالحب، وملوثة بالجمال، وقد تسمم الهواء بعطرها العجيب، فأطلت الرؤوس من النوافذ، ومن الأبواب، وتوقف السير في الشوارع. هذا مما أصاب الناس بداء الدهشة، وهو مما دفعهم للمشي خلفها، من شارع إلى شارع، حتى دخلت زقاقا جانبيا، لكنهم لم يجدوها: شاهدوا طيفا يشبه البرق يتبخر، كما تتبخر الايام والأحلام في تلك البلدة القاحلة.
لم يشعروا بالأسى، إلا لبرهة، لأنهم شعروا بالمجد، تخضبوا بشرف المشي وراء اعجوبة المرأة الغامضة
استنارة
استنرتُ برؤيتكِ تخرجين من العطر إلى الوردة، من يأس الحب إلى الحب، منتشية بالوهم أو بالحلم، انتشاء العشب بسقوط المطر، تحملين الصباح على كتفيكِ، كما لو كان طفل، ومن ابتسامتكِ تشرق شمس الشبابيك، والنهار والحدس
رؤيتك كانت لحظة عابرة،
لكن ما بقي، بعد انفجار رؤيتكِ، هو الزمن، وهو الأبد.
عاشق من ذلك الزمان
حبه السري فاض عن السر فصار شائعا، مما الجأه إلى ابتكار عدة اسماء، يعرف الجميع أنها أنتِ.
كانت حياته مغلّفة بالحنين،
وكان حنينه يزداد كلما أصرّ على تفاديه..
ذات ليلة، وقد طوّحه الهيام والسكر، اعتلى سطح المنضدة، في الحانة، ليلقي خطبة عن الألم والحب، فتلعثم ولم ينطق، لكن الجميع شاهد طيفكِ يحوم حول رأسه..
اعصار
عندما هربتْ من البستان، شبه عارية، وركضتَ وراء عطرها، ولم تجد أحدا حين وصلتَ إلى الحافة، سوى بحيرة مخضبة بالدمع وبالحسرات.
نظرتَ إلى سطحها، فتلألأ جسدها العاري متوهجا في القعر. لبثت جامدا تنظر إلى اللؤلؤة، وهي تشع ملوّحة لكَ، حتى ترّسبَ جمالها فيكَ، وبتركيز شمل حواسكَ كلها، ثم استيقظتَ من النوم، نشطا كوردة غسلها المطر، لكنكَ كنتَ في المكان غير المناسب: كانت الدنيا تذرف أشد أعاصيرها، وأنتَ في قطار مزدحم بالجنود، ذاهبٌ إلى الجحيم، حيث ينتظرك الشيطان أو الملاك، لتلاقي حتفكَ هناك..
مثل ورقة
أمشي وحيدا، واضعا حقيبتي الصغيرة على ظهري، وأدندن أغنية عن الحب الضائع والفراق. أشعل سيجارتي وأدخن، ثم التفت إلى الوراء للمرة الأخيرة، أنظر إلى حبي، وهو يتبعثر مع الريح، مثل ورقة، تنقله من الرصيف إلى الشارع، ثم يلتصق بحائط، ويسقط على الإسفلت، فتمر العربات، سريعة وبدون قلب، عليه..
عندما
عندما طواكِ، كما طوى الورقة، وألقى بها إلى سلة المهملات.
عندما حذف الأغاني، شطب الصور، ومزق الرسائل.
عندما بقيَ جافا تحت المطر.
عندما قابله الماضي في المرآة.
عندما شعَ وجهكِ، كقمر يزيح بيديه الغيوم.
عندما هشَم المرآة.
عندما تلوى بين أحشاء ذكرياته.
عندما وضع رأسه، بين كفيه، وانخرط في البكاء..
اعجوبة يديك
تفكُ أزرار تعبي، تمسحُ رذاذ الأسى عن نوافذ بصيرتي، وتنتشرُ في بدني مثل موجة:
هذا ما تفعله أعجوبة يديكِ.
حسرات ونجوم
أتذكرُ تلك الليلة، في الحانة، عندما احتدم النقاش حول المرأة، التي خرجتْ من احدى الاغاني، ومشتْ بثياب النوم، في الأزقة، تحرسها الموسيقى، يغسلها البرقُ ويؤنسها المطرُ. كان الحوار هادئا في البداية، لكنه تحوّل إلى صراخٍ في ما بعد، لأن أجراس خطواتها اخترقتْ دوي الحرب، وتحوّلُ القبو، الذي كنا نسكرُ فيه، إلى مدينة متوّجة بالنور وبالحمائم، لكننا لم نتوقف عن النقاش، ذلك النقاش اليائس، الذي يطحنُ القلبَ، بين جنديين هاربين من ثكنة.
كنتُ مصرا على أن المرأة تمثل الحرية في شعلتها، فيما صاحبي كان يرى أنها امرأة عادية، امرأة هاربة من القصف، وليست ملاكا، بل ربما كانت عاهرة. هذا بالضبط ما جعلني أرفع قبضتي وألكمه، لكنه لم يأت بحركة، بل فتح ذراعيه، فجأة، وقام واقفا، إذ ظهرتْ المرأة، لا أعرف من أين، بكامل جمالها، وتجاوزتنا، مضيئة، بين الطاولات، حتى اختفتْ في ظلام الحانة، مثل نيزك يجرّ وراءه مجرةَ من الحسرات والنجوم..
الحرية
التفتُ إلى الخلف، إلى البيت الذي قضينا الليل فيه، حيث الصبية، صبية البارحة، مازالت واقفة لدى الباب. يبدو أن التفاتتي المفاجئة حفزتها على الركض نحوي، ولعلي أيقظتْ الوديان من نومها العميق، حين فتحتُ الذراعين، واستقبلتها بقلب تمرّن، طويلا، على الحب وعلى اليأس من الحب.
لم أحفل بالمهرّب، يهزّ يده، ويواصل المشي بدوني، لكنه حين اختفى، كانت هناك أزهار وعواصف، ينابيع وأنهار، تنمو وتنفجر تحت أصابعنا، فقد هدمنا السياج، ووصلنا قبله إلى الحرية
المصباح
كانت تهمتها أنها تحلم كثيرا، خاصة بالمصابيح وبالفراشات، لذلك أسندوها إلى الحائط، ووجهوا إلى صدرها فوّهات بنادقهم، ثم لبثوا هكذا، جامدين، بانتظار أوامر النار..
كان الرعب قد نشر اجنحته على المشهد، حتى أن الذين حاصروها شعروا به يتسرب إلى ارواحهم، فارتعشوا منه، وبعضهم كان يذرف دموعا حزينة، مبللة بالخزي، لكنها لم تستسلم، بل استظلتْ بالمصباح الذي اخترعه الخيال، ثم أضافت إليه شيئا من الموسيقى، ونتفا من الفراشات.
مضتْ أبعد فرسمتْ حوله النور، ووضعته فوق عامود، وأثناء ما هي تنقله إلى زقاق العالم، كي يطرد العتمة، اخترقها الرصاص، فسقطتْ مضرجة بالدم، لكن المصباح لم ينطفئ، وظل مضيئا..
النافذة
لم استطع مقاومة إغراء الالتفات والنظر إلى النافذة، حيث كنت تنتظرين، بصبر، مرور الحظ بهيئة فارس، فتقفزين بقوة الحب إلى ظهر جواده، منتشية بحلم، لا سبيل إلى تحقيقه حتى في الروايات.
كانت الحرب ترتدي خوذة، وتطوف في الشوارع، بحثا عن قتيل، فيما كنتِ غارقة في التأمل: تطيرين مع الموسيقى، وتذوبين في الشعر، غير أن الواقع كان أشد قسوة، إذ تحطّم البيتُ، وتبخرتْ الشمسُ من الأغاني، حين رنّتْ قذيفة مدفع، وقطفتكِ..
قصيدة الزهرة
أحيانا تظهر، من خلال الأسلاك، امرأة جميلة بثياب شفافة، تقطف زهرة من الحديقة، وترميها إلينا بعيدا، ولم ننتبه، إلى أن رجلا، هو حبيبها السري، كان يخرج، مسرعا، من البيت، أثناء ركضنا الطويل باتجاه الزهرة، إلا بعد سنوات، عندما قُتل في حرب غامضة، وشاهدتَه ـ بعد دفنه بأربعة أيام ـ من النافذة، وهو يمر، ذاهبا، إلى السوق، بكامل اناقته، وينصع بالبراءة وبالشقاء: بيده زهرة من حديقتها، ويسير غير عابئ بالمطر، الذي كان يهطل بغزارة، فشهقتْ بحسرة، وهمّتْ أن تناديه، لكنه كان قد اختفى، فجأة، في الزحام.
صورة شخصية للحب
تسرّب الحبُ، خلال انفاس الهواء، ودخل البيتَ بهيئة نسمة ساحرة، طافت الحديقة والغرف، ثم دخلتْ المكتبة، وصعدتْ إلى السطح، ثم نزلتْ حتى وجدتْ ضالتها في قلب الصبية، التي أصابتها اللعنة، فورا، فلم تعد تعرف ما بها: هل هو الفرح أم الحزن، هل هو الخوف أم الرغبة، فلبثتْ تبحث عن ” الشيء “: ذلك الشيء الذي بلبل هواجسها، جمعها وفرقها، أشعلها واطفئها، فخرجتْ إلى الشارع، وقد أضحت منيرة، ثم ركضتْ في كل اتجاه، بحثا عن ” الشيء ” الذي اذاقها الاحلام والأغاني، ووشوش في روحها الموسيقى والصلاة..
لبثتْ تائهة في طرق اللهفة وأزقة الاشتياق، ولم يعثر عليها أحد، لأن النسمة كانت تضيء أمامها، وتنير الطريق..
قصيدة نثر تحت العاصفة
أدخنُ سيجارتي الأخيرة، واقفا أمام الباب الذي غيّرتِ مفتاحه، غير مكترث بالمطر وهو يسقط، غاضبا، على هامتي، ولا بالعاصفة التي تحاول أن تنتزعني، وهي ترمي كل شيء أمامي وخلفي.
أتخيلني مثل ورقة توشك أن تفلت من يد الشجرة، أو مثل عصفور يهشه الغصنُ، ولا شيء يمكن أن أفعله غير الإصرار على أن أظل واقفا، أستمع إلى أغنية جحودكِ، وحيدا، في البرد، لكن فجأة، وبدون منطق، يخطر لي المشهد الأخير لشريط سينمائي، عندما خرجتْ امرأة من بين الانقاض، واخترقتْ قطيع جنود يحاصرون المكان: مشيتْ بينهم، رافعة الرأس، وهم ينظرون إليها باندهاش وبرغبة مكتومة، حتى استداروا ينظرون إلى حيث تمشي، فيما بقيتْ فوّهاتُ بنادقهم موجهة إلى الجهة التي خرجتْ، بكامل جمالها، منها..