شعر ونثركتابات

د.حاتم الصكر عن القصيدة الصوتية للشاعر اليمني الكبير محمد حسين هيثم 

رجل قليل وزهو كثير في " غبار السباع"

يصنف الشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم (عدن 1958 ـ صنعاء 2007 ) قصيدته “غبار السباع” كفانتازيا شعبية، ويجعل ذلك التصنيف عنوانا ثانويا لها، فيوفر لها من عناصر الفانتازيا ما يناسب ذلك الادعاء بالبطولة والمنازلة والكر على العدو، ومن الروح الشعبية يأخذ ما يلائم خطة القصيدة المتجهة صوب فضح الخطاب السياسي المزيف، المدعي ما لا قدرة له عليه، ولا نية حقيقية له في تحقيقه، وهو يشير دون تسمية إلى بعض كوميديات الحروب العربية الحديثة ومقدماتها وتفاصيلها وتداعياتها التي تبدأ عادة بالوعيد والتقليل من شأن العدو، ثم تنهزم بجدارة مخزية في جولاتها الأولى؛ لتعود فتكيّف الهزيمة على أنها نصر مؤجل قريب، وأنها خسرت حربا لا معركة، وما إلى ذلك من أدبيات التبرير، ولغة الخطاب الهزائمي الذي كان مناسبة للنقد السياسي في القصيدة الحديثة، كما تجلى بحدّة في شعر نزار قباني السياسي بعد نكسة حزيران وأمل دنقل وسواهما..

الشاعر اليمني الكبير الراحل محمد حسين هيثم

 

قد تبدو القصيدة المنشورة في ديوان “رجل كثير” الصادر عام 2001 انحرافا عن خط التحديث الذي واصله الشاعر منذ بدأ الكتابة مبكرا بطريقة الشعر الحر، ثم انتقاله لكتابة قصيدة النثر ضمن رعيل كتابتها الأول في اليمن، مع ملاحظة أن هيثم تجنب القطيعة التامة مع الوزنية، بل عاد إليها بحريّة كنت رصدتها في قراءات نقدية سابقة لشعره الذي وصل به حد إصدار مجموعة من الشعر الشعبي. أما “رجل كثير” الذي ضم قصائد نثر قليلة أيضا، فتتصدره عبارة مفتاحية مهمة تساهم في قراءة غبار السباع كفانتازيا إيقاعية موزونة، حيث يصف الشاعر قصائد ديوانه بأنها (التباسات مغناة) معرّفا بمضمونها ومحتواها المتصادم مع الخارج المرفوض في خطابه الشعري؛ لأنه ينطوي على تلك الالتباسات من جهة، ومحققا الدقة في وصفها بالمغناة؛ لأنها عالية الصوت واضحة الموسيقى تليق بغناء ذي صدى، لا تناسبه تلك الإيقاعية الهادئة في قصائد النثر. وتعينه على تحقيق صفة الغناء فيها حضور القافية وهمنة موسيقاها بتواتر واضح لا يخلو منه أي من مقاطع القصيدة التي يفصل بينها صوت الطلقات المضمّن بين قوسين.. وفقدان واحد من السباع السبعة وهم يغيرون على عدو لا يرونه إلا في حالات شبحية مستديرا أو عابرا في الظل.

 

 

قصيدة صوتية

 

يستفيد هيثم من شعبية نصه ليجعله أقرب إلى قصيدة صوتية تتحقق بالإلقاء والمشافهة بجلاء أكثر من قراءتها مكتوبة، وتبرز بالسماع كثير من عناصرها الانتقادية الساخرة، وقد حصلت لي تجربة سماع القصيدة بصوته في أكثر من مناسبة شعرية وقراءتها مكتوبة في عند نشرها وضمن أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت عام 2004، فتيقنت أنه كتبها لتلائم إيقاع الإلقاء والتلقي السمعي، فصنع لها تلك اللوازم الضرورية للتوصيل الشفاهي، ومن ذلك تدرّج القصيدة من الحماسة المتنفجة المضمّنة قصدا في الاستهلال عن أبناء عم سبعة، كلهم عصف ونار واجتياح ووعيد بشرب دم العدو، تصحبهم أصوات الطلقات (طراطق طق) سبع مرات بعدد أفرادهم وهم يهجمون على رجل (قليل)، ثم بدء انسحابهم وتناقصه العددي مقطعا مقطعا؛ ليصبحوا سباعا ستة تصحبهم ستة أصوات للطلقات التي يطلقونها صوب العدو، والتي تنقلها القصيدة لتغدو لازمة كوميدية بموازاة ذكية، وإيقاعية صاخبة يقل فيها تدريجيا صوت الطلقات وعدد أبناء العم معا؛ أبناء العم الذين يصبحون في الخاتمة سبُيعا (بالتصغير) واحدا وحيدا، وليغدوا بعدها في مرحلة الصفر والتلاشي غبارا تجسده النهاية صوتيا.. (فوووووو) التي تكنس ما ادعوه وتفاخروا به كلاميا قبل المنازلة.

يعضد التكرار ما تريد القصيدة توصيله، فعبارة (بنو عمي) تتردد في ثنايا النص لتجعل له إطاره الشعبي الذي تدور في أجوائه وفضائه لعبة النص كلها، وهي بسيطة الظاهر وممكنة وسهلة: أبناء عم يتوعدون فيحاولون المنازلة بعدَّتهم التي صنعها الوهم: برق الوعيد، الويل، ورعد الزهو، الخيلاء، فلا ينتظر القارئ منهم نصرا كما لا يصنع ذلك الرعد والبرق المستعارَيْن مطرا، ثم بعد ذلك العدد والعدة والاعتداد يهربون متناقصين واحدا واحدا مع تناقص أصوات طلقاتهم، ويظل الغبار وراءهم دليلا على هزيمتهم، ولكن العمق الدلالي للنص كمحاولة في النقد السياسي وفضح للزيف والأوهام التي تصاحب تلك المنازلات يغري بالقراءة، متوقفين عند ما يتخيره الشاعر عنوانا حيث وصف الأدعياء بالسباع وجعلهم سبعة؛ ليكونوا متوائمين صوتيا مع الوصف غير متغافل عن دلالة الأخوة السبعة في المأثور العربي وتأويل العدد نفسه في الأدبيات الأسطورية والرمزية، ولكن تكتلهم هذا وهبَّتهم صوب عدوّ (قليل) كما صورته لهم مخيلتهم جعلتهم يستخفون به متخذين أسيافا وخيلا من الفراغ، الخيل من رعود يخلقها الزهو والتفاخر، والأسياف (القليلة) من بروق وعيدهم للعدو، فتخيلوا تكتلهم السباعي جحفلا وساروا صوب عدو تكاثر من بعد لينسحبوا واحدا واحدا، وتقل طلقاتهم، ثم ليسدل الغبار ستار المنازلة كلها ويظل صوته المدوي في الفراغ.. بينما تتلاشى وعود المقدمة عن سباع سبعة متصفين بأنهم عصف وجنون وهبوب صاعق ونار، وأنهم شرابو دم وحاطبو موت يمتهنون الإغارة والمداورة وصولات النزال.

 

 

تأثيث النص

 

عمد الشاعر قصدا أن تكون روح القبيلة والهيجان العاطفي هما قوسا النص، فراح يؤثث نصه بلوازم مناسبة لذلك، تعبيرا منه عن فحوى تلك الهبة التي لا تحسب للمنازلة حسابا، فهيَّأ لهم خيلا وأسيافا، ولكنها لوازم مجتلبة من الادعاء لا الواقع، فكأنهم يستعدون لمطر خادع تبرق فيه السيوف وترعد الخيل ولكن الناتج هو الغبار لا المطر؛ فالخطاب العقيم يؤدي بحسب منطق النص وزاوية نظر الشاعر الانتقادية إلى الهزيمة التي تَمثَّلها النص صوتيا، مستغلا صدى صوت البنادق (طراطق طق) ثم صوت الغبار في النهاية، وبذا تحقق وعد العنوان الذي نسب الغبار للسباع فكان بذلك عتبة استباقية تتقدم دلالة النص ومتنه؛ لكي تفصح عن الحاصل قبل حصاده ؛ ولتنبئ بمصير لائق بتلك العنتريات الكلامية والمخيّلات الدونكيشوتية.. ولكن الشاعر يحافظ على مصاحبات الخطاب الذي اختاره لتوصيل نقده، الهبّة التي تجري بالطريقة القبلية: سباع يمتشقون سيوفا صنعها الوعيد بالويل، ويمتطون خيولا أسرجها الزهو، فكان التجانس واضحا بين ما يهيئ السباع من وعد فارغ، وما ينتظر غزواتهم تلك أو سيرهم في جحفل، وهنا نتوقف عند لغة النص ومستواه المعجمي، فهو يحافظ على لوازم من المفردات المناسبة كتصغيره للسباع حين صاروا سبيعين ثم سبيعا واحدا، وفي اختياره مفردات للغزو بمعانيه التقليدية التي لا تناسب عصرا نعيشه ونشهد فيه الآخر وهو يستعد بما هو متاح له من أسباب الغلبة، فالجحفل هو بديل معنوي ودلالي للجيش، وتأتي المفردة محفوفة بما تحملها من دلالات في الوعي المخلوق بتراكم شعر الحرب التقليدي في التراث، ووصف الجيش بالجحفل الكبير أو اللجب الذي تتدافع صفوفه للنزال وتغير وتصول وتداور عدوها ثم تفر منه، وقد تكرر في النص كثير من مفردات الكر والغزو والإغارة ليستكمل صورة السباع السبعة وأوهام إغارتهم وحروبهم.

 

لقد كان هيثم موفقا في اختيار زاوية الاحتكاك بالخطاب الذي ينتقده ويعرّيه، ووجد له الشكل المناسب صوتيا وإيقاعيا وتصويرا ولغة، كما أفلح في تجنيسه كفانتازيا شعبية لا يمكن إغفال جانب السرد في صياغتها، فهو يستفيد من ممكنات وجود الحدث أو الفعل وتسلسله في النص وصولا إلى نهاية أو خاتمة سردية حدثية، كما يغتني بالوصف والتضمين الصوتي والمفارقات التي حققت خطة النص وقصد الشاعر وتوافقت مع أفق قراءة المتلقي قارئا له أو مستمعا لإنشاده.

 

فانتازيا شعبية

 

بنو عمي سباعٌ سبعةٌ، شرّابُ دمٍّ، حاطبو موتٍ

بنو عمي جنون واجتياحُ

بنو عمي هبوبٌ صاعق، عصفٌ، ونارُ..

بنو عمي استعاروا

من رعود الزهو خيلا، واستعاروا

من بروق الويل أسيافا، وساروا

جحفلا يختط للنسيان دائرة

وللطوفان دائرة

وللقتلى دوائر تُستثارُ

بنو عمي رأوه على مشارف ظلهم

رجلا قليلا فاستطاروا

بنو عمي رأوه

فداوروه

فسار ملغوما بهدأته

فثاروا

بنو عمي استداروا

 

بنو عمي أغاروا

 

على رجل قليل، عابر في الظل

 

فاشتد الأوارُ

 

(طراطق طق – طراطق طق – طراطق طق – طراطق طق – طراطق طق – طراطق طق – طراطق طق)

بنو عمي تنادوا في تبعثرهم وحاروا

بنو عمي انسحابٌ باسل في العتمة الأولى..

يساوره غبارُ..

بنو عمي استداروا

إلى الرجل الكثير

وحاولوه

وطاولوه

في ضحىً عارٍ كلِيلٍ وأغاروا

بنو عمي استخاروا

رعبهم واستدبروا وهناً يرتلهم غبار

بنو عمي ثلاثتهم سباع.. حاطبو موت..

 

…………………………..

 

بنو عمي هبوب صاعق.. نار

(طراطق طق – طرطق طق – طراطق طق)

بنو عمي

بنو عمي سبيعان.. هبوب صاعق.. نار

(طراطق طق – طراطق طق)

بنو عمي..

بنو عمي.. سُبيعٌ واحدٌ نار

بنو عمي

بنو عمي

(فووووووووو)

بنو عمي غبارُ.