علوان الجيلاني
نقلا عن مجلة نزوى
قراءة المشهد الشعري التسعيني في اليمن ـ بمجموعه لم تحدث حتى الآن..ثمة قراءات جزئية..قام بها كتابٌ مستعجلون أو منحازون أحياناً تناولت إما تجارب منفصلة لشعراء يمثلون توجهات شكلية مختلفة ولم يكن هدفها قراءتهم بصفتهم يمثلون مشهداً يفترض أن تتحدد فيه السمات المشتركة..وكذلك الاختلافات التي يمكن أن نتوقعها في نتاج أبناء جيل يعيشون على أرضٍ واحدة..ويشتركون في التعرض لما يسقط عليها أو يهب نحوها أو ينبت منها.. وإما..تجارب متقاربة شكلياً وهذا ما ظفرت به قصيدة النثر وحدها حتى الآن من خلال كتابي «قصيدة النثر في اليمن أجيال وأصوات» للدكتور حاتم الصكر..و«الكتابة الجديدة» هوامش على المشهد التسعيني للاستاذ أحمد السلامي…
والملاحظ أنه بمقدار ما حظيت تجارب شعرية فردية متميزة لشعراء تفعيليين بقراءات واسعة،فإن مشروعاً قرائياً لهذه التجارب مجتمعة لم يتم على نحو ما فعل الكاتبان المشار إليهما.
وعلى نحو مافعلت قراءات أخرى لكتاب آخرين منهم محمد المنصور على سبيل المثال إزاء قصيدة النثر.
احمد السلامي محمد المنصور
ويبدو ذلك مبرراً بكون قصيدة التفعيلة قد استقرت وتحددت ملامحها وصارت الكتابة ضمنها ،تدخل في إطار المقبول والمألوف كما صارت الكتابة عنها لاتحتاج إلى كثير من التنظير والتبشير والاحتفاء بها كشكل وتجربة بل صارت الكتابة عنها تركز فقط على ما يمكن أن تضيفه تجربة شاعر قادر أن يحقنها بدماء جديدة..ويضيف إلى روحها من روحه ونفسه…وقوة إبداعه.
وذلك بعكس قصيدة النثر التي مازالت كتابتها في حاجة إلى حفاوة خاصة تشمل التبشير بها والتنظير لها..ولفت الأنظار إليها..وتأمل صياغاتها ومقترحاتها..ورصد المتغير المرتبطة به أو المرتبط بها..
ومن ثم مرجعياتها وأنماطها..إلخ .وهذا شيء طبيعي عرفه التاريخ الإبداعي على مر الأزمان كلما حدثت انتقالة وجاء جديد.
ويبدو أن الشكل كلما استقر واعتاد الناس عليه..كلما قل الاهتمام به بوصفه تياراً أو موجة أو مشهداً واسعاً..وثم التركيز على الحالات الاستثنائية التي تحرك مياهه..وتفتح أزهاره بين الحين والحين..فإذا كانت قصيدة النثر يحتفي بها كلها، ويحتفي بحميع كاتبيها تبشيراً وتنظيراً وتأمل صياغات ومقترحات و..الخ.
وإذا كانت قصيدة التفعيلة يتم الاحتفاء بها من خلال أبرز أصواتها والتجارب النوعية فيها فقط.
فإن قصيدة العمود تبدو مهملة ومهمشة بشكل مذهل إلا من بعض التفاتات لاتتناسب وسعة حضورها.
لابد من التذكير عنا مرة ثانية أن الأمر سيبدو لمن يقرأون التاريخ الإبداعي شيئاً طبيعياً..
وأن كل حالة من هذه الحالات لها أشباه ونظا’ئر في التاريخ…غير خافية..فعندما ظهر التجديد في القصيدة العباسية احتفى النقاد بكل شعرائها وإضافاتهم واختلافهم واصطفافاتهم الواضحة من أجل رؤيتهم الجديدة للحياة من خلال ابداعهم واختلاف لغتهم وتشابههم في الأساليب والصياغات. .وغيرها.
وعندما جاء المتنبي كانت شروط التجديد قد تحققت ولم يعد يلفت الناس أو يصطدمهم ما يقوله أي شاعر،لم يعد يلفتهم إلا الشاعر الاستثنائي..الذي يقول شعراً استثنائياً داخل الشكل المكرس نفسه.
ولعل تعاملنا مع كل الكبار داخل العمود من أبي العلاء حتى البردوني لم يخرج عن هذا المفهوم..
الأمر نفسه تم مع حركة الشعر الجديد من منتصف الأربعينيات حتى نهاية الستينيات تقريباً..وبعد ذلك لم تعد تلفتنا إلا التجارب الاستثنائية..سواء تلك التي واصل ابداعها الرواد،أو تلك التي أبدعتها ثلاثة أجيال امتدت على مساحات السبعينيات بشكل واسع..ثم الثمانينات..ثم التسعينيات وإن تراجعت كثيراً لصالح قصيدة النثر..تماماً كما تراجع الاهتمام بالعمود لصالح قصيدة التفعيلة قبل ذلك.
قد يفهم من مقدمتي أنني أحاول الدفاع عن العمود والتفعيلة أمام صخب الاحتفال بقصيدة النثر..لم يفهموا مثل هذا الفهم الذي يلتبس مرات كثيرة إما بالجهل أو المزايدة..فبوسع ورقتي هذه أن تقدم عرضاً مختصراً لما ساهمت به أشكال الكتابة المختلفة داخل هذا المنجز الشعري التسعيني في اليمن.
أريد أن أقول إن تعميماً مفسداً يلتبس فيه ـ أحياناً ـ سوء النية بالجهل..حين يتحدث الناقد أو الدارس عن القصيدة التسعينية من خلال حصرها في شكل أو الإصرار على الحديث عنها من خلال شكل مع الإغفال التام للأشكال الأخرى ـ لا أقصد هنا ـ ضرورة الحديث عن الأشكال الأخرى..إذ من حق أي مبدع أو ناقد اختيار ما يريد والدعوة له وقراءته ودرسه ـ ولكنني أقصد..أن يتلازم الحديث عن شكل باعتبار الأشكال الأخرى لاغية…بمعنى آخر ..تعميم الحديث عن القصيدةالتسعينية «مثلاً» من خلال قصيدة النثر أو التفعيلة أو حتى العمود ولاشيء غيرها..
سأخرج من المقدمة وذيلها..لأدخل إلى صلب موضوعي وهو محاولة تقديم قراءة موجزة..في «تجاور الأشكال الشعرية في تجربة الجيل التسعيني اليمني».
وأريد الإشارة أولاً إلى أن تجاور الأشكال الشعرية لا يعني فقط تجاور الكتابة في أشكال مختلفة بين مجموعات أو أفراد من الشعراء يتجاورون في المكان والزمان وإنما يعني أيضاً تجاور الكتابة في أشكال مختلفة عند الشاعر الواحد..ليس عن طريق التطور..تطور التجربة في مرحلة لاحقة كأن يبدأ الشاعر تفعيلياً وينتهي نثرياً،أو أن يبدأ عمودياً ثم في مرحلة لاحقة يكتب التفعيلة..يم يتطور أو ينتقل إلى كتابة قصيدة النثر..وليس هذا أيضاً فقط..وإنما أن تجد شاعراً يكتب الأشكال الثلاثة..في مرحلة واحدة من تجربته الشعرية.
إن النتاج الشعري التسعيني في اليمن والذي يتم تداوله من خلال الحفلات الشعرية أو النشر في الصحف أو مطبوعاً في مجموعات شعرية خلال عشر التسعينيات وما تلاها حتى اليوم.. يؤكد ..مايلي:
أولاً:وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين..الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات
أو ظهروا في التسعينيات ..عرفوا من خلال القصيدة العمودية..وظلوا يكتبونها ويراكمون منجزهم الشعري وخبرتهم من خلالها..غير مبالين في أغلبهم بالأشكال الأخرى وقليل منهم يعادون حتى التفعيلة ناهيك عن قصيدة النثر،وهؤلاء في الغالب لا يبالون بالنشر أو الظهور إلا إذا دفعوا إليه دفعاً: ومن هؤلاء مثلاً الشاعر فيصل البريهي.
ثانياً:وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات جاوروا في كتابتهم بين الشكلين العمودي والتفعيلي..وقليل منهم من تعامل مع قصيدة النثر بعداء…وبعضهم تجاهلها والبعض الآخر بتقبلها بحماس وإن لم يكتبها..ومن هؤلاء من أخلص أكثر للعمود على حساب التفعيلة مثل الشاعر إسماعيل مخاوي ومنهم من هجر التفعيلة بعد أن قدم فيها تجربة لابأس بها وانكفأ على قصيدة العمود مثل الحارث بن الفضل الشميري ومنهم من ظل يراوح بين الشكلين مثل الشاعرين عبد الله عصبة وأحمد الشلفي.
ثالثاًً: وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات جاوروا في كتاباتهم بين الأشكال الثلاثة العمود والتفعيلة والنثر.
وأغلب هؤلاء بدأو كتابة التفعيلة والعمود في وقت واحدٍ..ثم انتقلوا إلى قصيدة النثر لاحقاً.
وهؤلاء في أغلبهم أيضاً يهمهم في المقام الأول البحث عن فضاءات متعددة لكتاباتهم.
حتى أن بعضهم ليعاود كتابة قصيدة العمود بنفس كثافة كتابة قصيدة النثر..كما أن بعضهم يكتب قصيدة نثر ولكن بمفردات ومعجم..وصياغات تأتي من عالم العمود.
لعل من أبرز هؤلاء الشعراء محمد المنصور،أحمد الزراعي،جميل مفرح ،علي جاحز.
أحمد الزراعي مثلاً:
جميل مفرح احمد حسن الزراعي
قدم مجموعة شعرية هي مجموعة «أسلاف الماء» التي تعد من أهم المجموعات الشعرية التي أنتجها التسعينيون ورغم أن غالبية نصوصها تؤكد على تماهي الشاعر مع الشكل الجديد «قصيدة النثر» ..إلا أن إصراره على تقديم نفسه متعدداً يبدو واضحاً من نصوص تفعيلية داخل المجموعة المشار إليها مثل نص «رؤيا» ص68.
صاحبي قتلته هواجسه
وأنا قتلتني الفراشة
بعد حين من الموت
أدعى قتيل الفراشة
وأبحث عن صاحبي
في الهواجس
وأنسى دمي
في الفراشة
ولكن إصراره على تقديم الأشكال متجاورة في مجموعته يتضح أكثر من افتتاحها ببيت شعرٍ عمودي ..جعله عتبة لها ومفتاحاً لكنوزها…
أنا
الطائر
المجهول
في
كل
رفة
بكل
بروق
الأرض
لم
يكتمل
عشي
البيت مجتزا من نص عمودي للشاعر عنوانه «طائر».
يقول الشاعر فيها أيضاً:
مشيت إليكم في زماني برؤيتي
وبعد مماتي سوف يمشي بكم نعشي
و«صنعاء» في قلبي ينابيع لوعة
قصور الهوى تدري مفاتنها نقشي
وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام هي أن الزراعي يمارس كتابة العمود والتفعيلة بنفس الوعي الذي يمارس من خلاله كتابة قصيدة النثر..وهذا توجه لايقتصر على شعراء من اليمن فحسب بل إن شعراء في الخليج والسعودية والعراق يفعلون ذلك أيضاً.
الشاعر محمد المنصور:على نفس منوال الشاعر الزراعي ومجموعته «سيرة الأشياء» التي ضمت أقلية تفعيلية لاتزيد عن أربع قصائد..تقع كلها تحت سيطرة قصيدة النثر لكن المنصور وإن كان يقدم مجموعته خالية من العمود .. فإنه ينشر بعض النصوص العمودية المتباعدة في الصحف.
التمثيل بالزراعي والمنصور بالذات سببه ثراء تجربتهما وقوة حضورهما داخل المشهد الشعري والثقافي اليمني من خلال ثقافتهما الواسعة ووعيهما بالدوافع والمرجعيات في الكتابة التي تمتد داخل الثقافة المجتمعية والموروث ورؤية المبدع المتغيرة للذات والعالم..
إنهما قادران على التبرير لما يفعلان..ويعرفان جيداً حدود التداخل والتباعد بين الأشكال وموجهاتها ولحظات خلقها..
ومثلهما في هذا الاتجاه الشاعرة ابتسام المتوكل.
ثمة أيضاً من يكتب قصيدة نثر ولكن بمعجم وصياغات تأتي من عالم العمود…ونحن نتعامل غالباً مع نصوص هؤلاء الشعراء من واقع طرافة نصوصهم..خاصة عندما تأتي من شاعر يمثل حالة من أكثر حالات العمود تقليدية سواءً في اللغة أو الصياغات أو الوعي بالكتابة الشعرية..أعني الشاعر فؤاد المحنبي الذي ترسخت صورته في أذهاننا شاعر مناظرات ومعارضات ومناسبات يقول المحنبي في نص من نصوص مجموعته النثرية الماثلة للطبع «أشياء لاتهمكم أحياناً»:
تحجرت المعاني وأخذت الكلمات
الذهب تتصاغر وتبهت..
هل الشعر يفي بشىء؟
لولا خشية انفجار شاعر
لما كتبت هذه الورود
رابعاً:وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا كتابة القصيدة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات..بدأوا كتابة القصيدة التفعيلية وظلوا على حالهم معها..بعضهم يعادي قصيدة العمود وقصيدة النثر معاً،وبعضهم يعادي قصيدة العمود ويتقبل قصيدة النثر،وبعضهم يعادي قصيدة النثر ويتقبل قصيدة العمود ،وبعضهم يتقبلهما معاً.
ومن هؤلاء الشعراء:
محيي الدين جرمة.
الذي عرف شاعراً تفعيلياً من أكثر شعراء التفعيلة بروزاً وانهماكاً في تجربته..واشتغالاً عليها..ولكنه .. مع ذلك يتمكن من انتاج نصوص نثرية بالغة الجمال..قد يبدو فيها تأثير اشتغالات الشاعر المتقنة على التفعيلة.. وهذا شأن كثير من كتاب قصيدة النثر الذين جاءوا من سلف تفعيلي..
يقول محيي الدين من نص معنون
بـ « نوافذ مائية»:
يد لا تقطف الورد
حديقة
يد لاتصفق
،وطن.
غير أن القاعة فارغة
إلا من التصفيق.
إلى جانب محيي الدين جرمة ثمة شعراء توازنت اشتغالاتهم على قصيدة التفعيلة مع اشتغالاتهم على قصيدة النثر..فالشاعر والناقد أحمد السلامي الذي انحاز في السنوات الواقعة بين 98و2003م إلى قصيدة النثر بشكل كلي حتى انجز من خلالها مجموعته «حياة بلا باب» التي فارق في نصوصها إلى حد كبير قوانين وصياغات التفعيلة المطورة التي كان يكتبها.
وهو رغم كل الكتابات التي بشر فيها بقصيدة النثر وتناول من خلالها بعض التجارب المنجزة فيها داخل المشهد التسعيني اليمني، تلك الكتابات التي ضمها فيما بعد كتابة «الكتابة الجديدة» هوامش على المشهد التسعيني..عاد ليؤكد أن التحول إلى كتابة شكل جديد،وكذلك التبشير به والتنظير له ،لا يعني تماماً القطيعة معه ومناصبته العداء..
عودة السلامي تمثلت في انكبابه على تجربته في قصيدة التفعيلة التي سبقت كتابة مجموعته «حياة بلا باب»..وهي الآن أي تجربته في كتابة التفعيلة ماثلة للطبع في مجموعته الجديدة «ارتباك الغريب»..
النموذج الثالث لهذه المجموعة يتمثل في أولئك الشعراء الذين بدأوا تفعيليين،ولكنهم كانوا قلقين غير مطمئنين رغم أن بعضهم قدم نماذج تفعيلية مثيرة في بداياته..مثل نبيل سبيع الذي نشر في «الثقافية» قبل سنوات نصوصاً تفعيلية جيدة ولكنه ترك ـ على حد علمي الكتابة داخل هذا الشكل تماماً ليتحول إلى كتابة قصيدة النثر..وكان الشاعر محمد الشيباني قد فعل ذلك من قبل..وكلاهما يعادي بوضوح الشكلين الآخرين:التفعيلة والعمود..ومثلهما فعل الشاعر علي المقري ولكن بدون حدية في العداوة..
نبيل سبيع علي المقري
بل إن لعلي المقري محاولات ناجحة ـ كما قيل لي في كتابة القصيدة العمودية ـ ولكنه يفضل التستر عليها وعدم نشرها…ونحن لسنا معنيين إلا بما ينشر..
خامساً: وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا الكتابة في التسعينات أو ظهروا في التسعينات باشروا كتابة القصيدة التفعيلية..ثم انتقلوا إلى قصيدة النثر..بعضهم قطع صلته بالتفعيلة..وبعضهم وقع في منطقة بينهما حتى لايلتبس على بعض المتلقين بينهما حتى لايلتبس على بعض المتلقين شكل القصيدة ..وبعضهم جاور مواصلاً بين الشكلين من هؤلاء هدى أبلان في بعض قصائدها وجميل حاجب في بعض نتاجه..
سادساً:وجود مجموعة من الشعراء التسعينيين الذين بدأوا الكتابة في التسعينيات أو ظهروا في التسعينيات بدأوا الكتابة من خلال قصيدة النثر وظلوا على ماهم عليه مثل الشعراء محمد اللوزي وعادل أوزينة وعادل قحطان.
تلزم الإشارة إلى أن هذا التصنيف يتعامل مع التجارب الجادة المهمومة بمواقفها واختياراتها المثابرة على تقديم رؤيتها والتعبير عن وعيها سواء بالإبداع ومراكمته..وقول ماتريد من خلاله..أو بالإبداع والدفاع عنه والحوار حوله ومناقشته والكتابة عنه تنظيراً أو درساً أو تقديماً..أما التجارب التي تعبر عن نزوات أو محاولات غير واعية ولا مثابرة ولامهمومة..فهذه ليست مجال هذا الاهتمام.
هذه محاولة مختصرة لقراءة تجاور الأشكال الشعرية في تجربة الجيل التسعيني اليمني ـ أعتقد أن لها ما يماثلها في أقطار عربية أخرى ـ خصوصاً في السعودية ودول الخليج والعراق ـ وهي أي محاولتي هذه ـتحاول تخفيف قسوة التجاهل الذي صار يحيط بالشكلين العمود والتفعيلة في حمى الاحتفاء بقصيدة النثر…هذا الاحتفاء الذي يغالط أحياناً في الحقائق نفسه..بل إنه لينتج حالة من الإلغاء تشبه حالة الإلغاء التي عودتنا الأنظمة العربية على خلقها..إزاء منجزات الأنظمة السابقة عليها..
ولايجهل كثير منكم أن أكثر الأصوات اجتراحاً للإلغاء في أي شكل من الأشكال كانت تتمرس في تلك الأصوات. التي تمثل القطيعة التامة مع ما سبقها أو جايلها من تجارب أخرى لكتاب آخرين.و،هي أصوات موجودة في كل زمان ومكان.. إنها أصوات لا تمثل المغايرة الواعية..وإنما تمتثل للمقولة الشهيرة..المرء عدو ما يجهل ..إن أصحاب تلك الأصوات ليس لديهم الصبر والجلد على القراءة والتعدد..ومحاولة فهم كل ما ينتج ومن ثم التعامل معه نصياً..الإلغاء يتم حتى قبل القراءة والفهم..
تجربة الجيل التسعيني
حوالي ثلاثة وستين شاعراً وشاعرة ،يمثلون تقريباً وجه الشعر اليمني الحديث في تسعينيات القرن المنصرم،تم توثيق قصائدهم عبر إصدار كان صاحب البادرة فيه الناقد والشاعر الكبير عبدالودود سيف صاحب ورئيس تحرير صحيفة «البريد الأدبي» ، طبع الكتاب وصدر بعنوان :«ديوان الشعر اليمني المعاصر ـ الشعر التسعيني» على نفقة مؤسسة العفيف الثقافية بصنعاء،في ثلاثمائة وتسعين صفحة من القطع المتوسط.
النصوص التي تضمنها العمل غير المسبوق هي مما نشر غالباً على صفحات البريد الأدبي، وتميزت بأنها مختارات للشعراء أنفسهم،ومحصلة لملف الشعر التسعيني الذي نشر بحفاوة على صفحاتها.
والكتاب مهم من ناحية التوثيق والنمذجة التي يقدمها للدارس والراصد لحركة الشعر الحديث في اليمن بمختلف مرجعياته وتشكلاته وفضاءاته.
ولهذا حرص المعد الاستاذ عبدالودود سيف،والناشر الأستاذ أحمد جابر عفيف على كتابة مقدمتين للكتاب الذي يسد فراغاً مؤسسياً ملحوظاً،ويعني بالتجربة الحديثة التي من مميزاتها التحليق خارج السرب،والانطواء على خصوصيتها دون تمكين أحد من أن يمن عليها أبوة ورعاية،وهي بهذا تدين للحداثة في خروجها على جاهزية المعايير وسنن التقليد والمتعارف عليه.
ويكشف عبدالودود سيف بتواضع العارف عن غاية الكتاب التوثيقية حصراً،ولو أننا كنا نطمح أن يضيء العمل الكبير بإضاءة نقدية يحبذها منه جيل التسعينيات باعتباره في مستوى مهمة النقد الشاقة.
وإن من قبيل المقاربة والإضاءة الخاطفة التي رأينا شيئاً منها في افتتاحيات البريد الأدبي التي واكبت نشر نصوص العمل،وندرك أن من الصعوبة بمكان تناول ثلاثة وستين شاعراً في مقدمة لاتتجاوز عتبة الإطار وفرحة المنجز «الكتاب» الذي يعد مقدمة مفترضة للإبداع في اليمن، عبر قرن من الزمن يمثل التسعينيون ـ ربما ـ إحدى الخلاصات لذلك العطاء الأدبي والشعري في اليمن عبر قرن مضى، وهو طموح أعلن عنه صاحب البريد الأدبي،وتحول دونه صعوبات ليست بالهينة.
مسألة المجايلة التي تثير وجهات نظر متباينة نقدية ومعرفية،والتقسيم على أساس زمني للتجارب الشعرية .التفت إليها عبدالودود سيف في مقدمته بقوله:
«أي كانت الكيفية التي سيكمل ديوان الشعر اليمني المعاصر بها نفسه،فقد جرت عملية تخطيطه منذ البدء على فكرة العقود، والعقد لا ينطوي في فكرته التي وظف بها على معنى المجايلة بمفهومها الفني،وإنما أسست الفكرة نفسها على أساس تسهيل عملية التصنيف والتقسيم ليس إلا، علماً أننا أشرنا أثناء نشر هذه النصوص في البريد الأدبي وهو ما يوجب الآن تأكيده،بأن تصنيف الشاعر إلى عقد من العقود قد روعي فيه بأن يكون العقد الذي صنف فيه الشاعر:إما لأنه الزمان الذي عرف بأنه ظهر فيه أو عرف بأنه اشتهر ص15».
لذلك نلاحظ أن ثمة أسماء شعرية تضمنها الديوان عرفها القراء قبل عقد التسعينيات مثل: عبدالرحمن الحجري، محمد المنصور، عبدالوكيل السروري ،عبدالحكيم الفقيه ،نبيلة الزبير، محمد الشيباني ،هزاع مقبل،كريم الحنكي ،مختار الدبعي ،محيي الدين جرمة،هدى أبلان، محمد ناجي أحمد ..الخ.
وثمة أسماء شعرية استقرت في فضاء القصة:محمد عبدالوكيل جازم،محاسن الحواتي بشرى المقطري.
وضم الديوان أسماء شعرية بوجهتها التفعيلية والعمودية،وأخرى عرفت بالمزاوجة بين الأشكال،وثالثة انحازت كلية لقصيدة النثر،كما نلاحظ من خلال الفهرست أن بعض الأسماء تكاد لاتعرف خارج النص الواحد،وأن مجمل الأسماء تشمل تقريباً الخارطة الجغرافية اليمنية وهذه محمدة للكتاب.
أما مقدمة الاستاذ العفيف،فقد محضت العمل شعوراً بالغبطة إزاء ما تم إنجازه من منطلق واجب الالتفات إلى التوثيق للتجارب الإبداعية الشابة.
ولعل من المفيد الإشارة إلى أن هذا الديوان يأتي عقب صدور كتاب يوثق للقصة القصيرة في اليمن عن مؤسسة العفيف مما يضيف لبنة جديدة في توثيق التجربة الأدبية اليمنية الحديثة.
في مدينة التسعينيين اليمنيين
إذا وضعنا في اعتبارانا أن عدداً كبيراً من شعراء المشهد التسعيني اليمني قدموا إلى المدينة «صنعاء» غالباً من قرى غارقة في ريفيتها.فإن بإمكاننا أن نتلمس أن هؤلاء الشعراء وقعوا تحت مؤثرين «المؤثر الذي طالما تحدثنا عنه وهو الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي جدت بعد عام 90م محلياً وعربياً ودولياً.
ومؤثر الانتقال للعيش في المدينة…والتعرض لمفاهيم بحكم واقع البلد الفقير المتخلف.
إن هؤلاء الشعراء بدأ يتكون عندهم ما يسميه «هايك كرانغ» بـ«بنية من الإحساس» الجديد ثمة تقابل وتضاد بين حياة المدينة التي تشعرك بالوحدة والغربة،بينما أنت في خضم هادر من الناس وحياة القرية التي تحس فيها بالجماعة والحميمية وسط عدد محدود من الناس تعرفهم ويعرفونك.
حياة المدينة تبدو «عالماً من الغرباء» بل هي سلسلة من الاحتكاكات مع أناس تعرف عنهم القليل ويعرفون عنك القليل.
حياة القرية التي تواجه فيها كل شيء وأنت تعرفه وتستطيع التنبوء ولو نسبياً بما يؤول إليه كل شيء ولذلك تستطيع عيش كل شرع بعمق واطمئنان معززاً بذاكرتك التي حقيقياً.
وحياة المدينة التي تعيش فيها عزلة وسط تجارب سريعة ومتشرذمة لاتستقر ولاتدوم.
البيت في القرية غالباً بيتك الذي ولدت فيه وتربيت…والجيران غالباً أقاربك إن لم يكن أهل القرية كلهم..الأفضية التي تلعب فيها….يملكها أهلك….والأرض التي تأكل منها غالباً أرض أبيك وجدك وأرض أهلك وأقربائك….كل رائحة تشمها اختزنتها ذاكرتك منذ أول يوم في حياتك على الأرض.
البيت في المدينة غالباً بين إيجار ..علاقتك بها نادراً ما يتوفر فيها معنى «السكن» ،المؤجر يذكرك أول كل شهر أنه ليس لك تقديم تنازلات كثيرة لصاحب البيت وللجيران.
فضاء شقة في عمارة المدينة..يختلف تماماً عن فضاء البيت في الريف،هناك أنت لاتزعج أحداً مهما فعلت..هناك كل حركة محسوبة.
الجيران غرباء وذوو طبائع مختلفة..وكل يعيش حياته وفق اشتراطاته ..ومرجعياته …حياتك وما تتعرض له لا تهم الآخرين وأنت قليلاً ما تبالي بهم.
أما إذا وضعنا في اعتبارنا أن شريحة من هؤلاء التسعينيين أو نهاية الثمانينيات للدراسة الجامعية أو بحثاً عن عمل..أو جود كان يشحون عنه…ومعنى ذلك أنهم جاءوا في بداية شبابهم،فإن معظم هؤلاء سكنوا غرفاً أرضية، اغلبها كانت دكاكين في الأصل، ومعظمها تنقصها الحمامات والتهوية وتفوح منها روائح العطب والعفونة….وإذا كنا نعرف أن معظم هؤلاء عاشوا سنوات طويلة..يرزحون تحت ظلام هذه الغرف…ويتجرعون الغربة في زحام الأسواق…والتسكع على الأرصفة ومقاعد البوفيهات «المقاصف» ….ثم الكتابة المترافقة مع هلاوس السطوي وروائح أقدامهم المتسلخة.
لقد أصبح هذا النوع من المبدعين بالذات نموذجاً شعبياً للمبدع التسعيني في مدينة صنعاء الذي يقضي وقتاً طويلاً في ممرات كلية الآداب…يراقب الطالبات اللائي لايطمعه مظهره ووضعه حتى بالتفاتة من إحداهن…ثم يذهب غالباً إلى مقيل إحدى الصحف ليناقش ويصرخ حتى إذا «قرحت» التخزينة انكفأ على نفسه يكتب ويجتر سيرته اليومية المحزنة.
وقد تراه بعد المغرب على مقهى من المقاهي يراقب الدخان المتصاعد من كأس شايه ويحصي في غير مبالاة السيارات والناس ولافتات المحلات…وخيباته التي لاتحصر،كما في هذا النص:
عند الصباح كما كل يوم
لن يكون ثمة وفرة
في المياه
مع ذلك سأفعلها
ولو مسحاً للوجه
وبلا قليلاً للرأس
سأقف أمام
المرآة
سيكون وجهي
ميداناً صالحا لكل الحروب
سأقرأ كل الكوارث
وابتسم
ولكون جيبي فارغاً
سأدلفن
إلى كلية الآداب
لمغازلة
الأشجار وبعض الأصدقاء
المسنين حد الخرف
سيحدثني البعض
أن بنتاً لايراها
تشبه غزالة أيضاً لم يرها
سيخترع لها اسماً وفقاً
لذائقته في اختيار الأسماء
بالضرورة
سيكون سعيداً بوهمه الكثير
بدوري سأبادله بعض الوهم
وأشير إلى أقرب فتاة تمرُ
وأردد بحيث لا يسمعني أحد
وأقول مثله هذه صديقتي
بالأمس كنت أذاكر لها
كم كنت جميلاً ورائعاً أيها الوهم
وفيك الكثير من القشات «المتينة»
عند الظهيرة
حين أفيق
سيدهمني كابوس مخيف
ومثقل بسؤال وجبة
الغذاء
سأقضي انفراطاً وتسكعاً
لكني سأظفر بالاهتداء إلى طريق
…………..
…………..
في عصر يومي
سأقتحم «منتدى الجاوي»
ومثل كثيرين
سأتبجح كثيراً حديثاً
عن الشعر
والساسة
والمعرفة
بالتأكيد
ستكون غيبوبتي وانتشائي
الزائف
سبباً
لن أفقد عبدالملك ضيف الله
علي الحترة
منصور الحاج
منصور هائل
يحيى صالح
عبده سيف
أحمد الأهدل
نعم سيغادرون دون شعور مني
فيما أنا سألتفت يميناً
ويساراً
وأمضي إلى «الدائري» راجلاً
ومعي
نشوة الوهم ملء الحقيبة
عند المساء كما كل ليل
سأستحضر الحديث في كلية الآداب
وأذرع أنفاقاً شتى في الخيال لرسم
«البنت» الافتراضية ،ومع اكتمال الصورة
سأمارس «السرية»
وبكل إرهاق وسرور سأنام
كم نحن محظوظون
«بعض تفاصيل ما سيحدث في يومي الذي هو كل يوم ـ نص مخطوط للشاعر علي دهيس» كثير من القصائد كتبت في هذه الظروف وأمثالها وهي تعكس إلى حد كبير الممارسات الفنية لشعراء التسعينيات…الذين نادراً ما شوهد أحدهم يدخل مكتبة عامة ليقرأ.
لطالما بدأ هؤلاء المبدعون وكأنهم يعيشون حياة فراغ ولهو يحسدون عليه،ولكنه فراغ ولهو زائف…فراغ الذي يراقب الحياة ولا يشارك فيها…وفراغ الذي يعرف قيمة الحياة ومعنى الجمال فيها….
ولايستطيع الاستمتاع به.
حياة منغصة بالعجز عن اقتناء كل شيء بما في ذلك الكتاب الجديد والقات الجيد..
حياة مطاردة بإيجار البيت وديون المطعم والبوفية والمقوت…والمغسلة..ونصف المرتب الذي يذهب أقساطاً بسبب الغياب عن العمل إن كان الواحد من هؤلاء موظفاً.
حياة يشكل بطؤها ورتابتها وتخلفها مفارقة واضحة مع شعور صاحبها بحداثة عالمه،حداثة الكتابة والأفكار…التي يفترض أنه تتلازم تلازماً شرطياً مع الحداثة في كافة مجالات الحياة…..وهناك فرق لمن يريد أن يقارن وضع هؤلاء الكتاب بأوضاع كتاب أوروبيين…هناك تقوم ممارسة للحياة على الاختيار…وهنا تقوم على الاضطرار..
من هنا يمكن لملمة «بنية الإحساس» بالحياة عند هؤلاء ،والحياة هنا تعني الكتابة إذ الواضح أن ليس عند هؤلاء مايدعون أنهم يحبونه غير الكتابة/غير الشعر.
وهو كما تقدم في هذه القراءة «حياة »«تقد» طرقاً لرؤية العالم الذي يظهر على شكل لوحات…كل لوحة هي بحد ذاتها جغرافياً فرعية تقدم مشهداً خاصاً لذات خصوصية في ذوقها وتجربتها ومعرفتها بالحياة… ولذلك ستحاول هذه القراءة تقديم ديوراما أشبه ما تكون بتصوير مدينة من نافذة حافلة….حيث تنقذف المشاهد باستمرار فيبدو فيها المتباين والمتجانس…وكل شيء ولاشيء..
عند الشاعر طه الجند ستبدو الأفضية في المدينة عالماً آخر ستبدو عالماً أجرد مظلماً..خالياً من الأحاسيس…عالماً يتخلى عن ما وعته ذاكرتنا عنها….أوصاف الأدباء والمؤرخين والشعراء القدامى والمغنين…ولن نجد فيها إلا عالماً غامضاً يمثل الهامش الرطب الذي يوحي بالأسى فاتحاً ومرئياً إلى درجة فائضة عن المعقول:
لم أرها في مسودات المتأخرين
لم ألمح ظفائرها من بعيد
لم نلتق في ميدان عام
لن نتبادل أغصان القات في الأصيل
لم أنفرد بها في بستان السلطان
وأرتمي في حضنها شاكياً جور الزمان
إلى أين تشير أصابع الشعراء المنبوذين
لم أضع علامات على القبور
لم أسأل شيخي عبدالعزيز
«أشياء لاتخصكم ـ إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 2004م ـ فقيد صنعاء ص15».
لا شك أن مدينة صنعاء كانت لردح طويل من الزمن مدينة من أكثر المدن ألفة وبساطة ….واندماجاً في الطبيعية وقد ساعد عدد كبير من الشعراء والأدباء والمؤرخين والمغنيين ليس في وصف جمالها وحسنها فحسب، ولكن في اختراع المدينة وتشكيل أخيلة الناس واحساساتهم بها..
إلا أن أولئك المبدعين الذين كانوا من علية القوم ـ غالباً ـ «أهل منصب وجاه» قدموا لنا أفضية موصوفة من خلال تجاربهم مع الأماكن وحيواتهم وكيف يرون العالم …،ولعلهم كانوا صادقين مع أنفسهم وهم يقدمون لنا عالماً علوياً للمدينة قد نستطيع تخيله من خلال أوصافهم الجميلة المثيرة للذكريات..
ولكننا لانستطيع أن نجد فيها ما كتبوه تبصراً مشابهاً حين نتحدث عن تجربتنا الحالية مع هذه الأماكن….ثمة حقيقة مفادها أن الخصوصية الدقيقة للمكان قد تآكلت ..كأن يشير إلى كتابات متأخرة تجتر بوعي أو دون وعي كتابات المتقدمين عن صنعاء «لم أرها في مسودات المتأخرين» ثم نستطرد آداة النفي المتكررة لتنفي أي إمكانية للتعرف على المكان من خلال تلك الكتابات….لكن أصابعه وأصابع زملائه من الشعراء المنبوذين القاطنين في أسفل المدينة وعوالمها الرطبة تشير بالتأكيد إلى فضاء آخر تماماً..
الذين قدموا لنا صنعاء في إبداعاتهم من شعراء القرون الأجيال السابقة كانوا يرونها من طيرمانات ومفارج عالية تطل على بساتين يرون خضرتها رواشين غيمتها المباخر والتنباك الفاخر…ويسمعون ألحان طيورها وقد تماهت في أصوات مطربين يغنون أعذب ألحان الحميني..
أما شعراء اليوم فيكتبون عن مدينة صنعاء من غرف ربطة عفنة امتزج فيها هواء الحمام غير المهوى «إن وجد» مع روائح أحذية رديئة ومهترئة..
ولعل من قول الشاعر «لم أسأل شيخي عبدالعزيز» إيحاء بالقطيعة التامة بين عالمين وفضاءين….حياتين لاتلتقيان وليس بينهما وجه للشبه… سوى واقعية الاعتراف بأنهما يعيشان في نفس الفضاء الجغرافي.
الكتابة عن الفضاء المكاني لم تعد كما كانت فالتسعينيون أكثر من سابقيهم تناصاً مع أعمال عربية وعالمية وأفكار فلسفية…وتقنيات كتابية مغايرة،وهم يبرعون في رسم تقاسيم المكان وإعادة خلقه في نص أدبي…هو في المقام الأول سيرة ذاتية.. هذا شاب أصغر شعراء المشهد التسعيني سناً، جاء إلى صنعاء أواخر التسعينيات مثقلاً بأحلام الحداثة والكتابة فكانت النتيجة:
«لاتعرف جيرانك في الشقة
لاتعرف أهل شارعك الجديد
لاتعرف من أنت
قلبك تفاحة
وصنعاء خنجر…
«فتحي أبو النصر نسيانات أقل قسوة»
إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 2004م «نص وحشة ص24».
إنها كتابة ترسم أماكن غامضة في مدينة لايمكن أن تقدم عناية ولو في الحدود المدنية لهذه الكائنات البشرية القادرة على الإبداع.
ويمكننا أن نقول أن نصوص هذا الجيل تقوم بتعرية هذه الأفضية الغامضة القاسية، وتطرح أسئلة حادة حول ارتباطنا بها خاصة حين تتحول إلى أفضية مجردة أقل الصفات حميمية، من شعورنا بحميمية المكان.. يأتي ببساطة من شعورنا بالجمال الإنساني فيه..سلاسة علاقتنا اليومية فيه..توفر الحياة الكريمة والنجاح في بناء علاقات عاطفية..والشعور بالتساوي مع الآخرين في الطموحات وإمكانية تحقيقها..لهذا «اقترحت مقاربات المكان» الأهمية الحيوية للإحساس بـ «الانتماء» إلى الكائات البشرية» ذلك أن الوجود الإنساني الحقيقي «يمتد وراء نطاق فكرة الموقع» فنحن في الواقع نحدد أنفسنا من خلال الإحساس بالمكان قولك أنا من المكان الفلاني يعني أن هذا المكان أكثر من مجرد بقعة على الأرض فهو يرمز إلى مجموعة من الصفات الثقافية المميزة.. تتعدى الإشارة إلى أين نقطن..فتشير إلى من أنت.
وبما أن القادم الجديد إلى مكان مايحتاج ليتأهل اجتماعياً لأنماط السلوك الموجودة في تلك الأماكن..فإنه إذا كان قادماً من الريف بالذات سيشعر بفداحة مايحدث له من تكييف أحياناً يكون قسرياً بفعل الظروف المعيشية بالذات..لماذا نتحدث عن هذا الجانب ونحن نتحدث عن التسعينيين اليمنيين خاصة الجواب دون عناء..أن المدن اليمنية وفي مقدمتها صنعاء التي يتركز عليها حديثنا حدث لها تحول خطير بعد عام 1990م.. فنمت على نحو ضار ركام يقوض علاقة ساكنيها القدامى بأفضيتها..وكان سوء حظ التسعينيين أن جاءوا إليها محاطين بظروفهم الذاتية.. وظروف العالم..من حولهم ليصطدموا بظروفها..ويحاولوا عبثاً التكيف مع شروطها..ولكنهم يتحولون كل يوم إلى مسوخ تعوي نادبة خساراتها..كما في حالة أحمد السلامي:
ـ لا فراش لروحي وجلودنا معهم أضطجعت الجدات تموت وجلودنا تتجعد مثل أرض زراعية أهملها الأهل تركوها ليقودوا سيارات الأجرة في طريق تبيع الخمر للنادمين ونحن دون أن ننتبه أكلنا نصف دجاج المدينة وغدونا ثعالب ترتدي النظارات «حياة بلا باب ـ إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ـ صنعاء 2002م ـ نص «تجاعيد» المقطع 70 ـ ص85» لم تعد هناك أي صفة تعبر عن البعد الرمزي للجماليات المقدمة التي اشتهر بها المكان، كما أفصح النص السابق وكما سيفصح المقطع القادم للشاعر محمد المنصور:
كم يلزمنا من الوقت
لنخلع هذا العري
في المدينة التي تبيض أشجارها غباراً
وتمنح الوحل أظافر إضافية «سيرة الأشياء ـ إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين 2003م ـ نص «مواقيت ص11».
والملاحظ أن هذه الأفضية التي تقرأها في نصوص شعراء التسعينيات اليمنيين أنها بمقدار ماهي أكثر تعبيراً عن الواقع وتطبعه بطوابعها الخاصة..بمقدار مايأتي هذا التعبير لغة وشكلاً..غريباً عن ثقافة الموقع..ثقافة صنعاء، اعتادت على الكتابة في لحظة إثارة الذكريات ـ وهي لحظة لاتستقي مادتها من الواقع واقع المدينة الحاضر..بل استناداً إلى مرجعيات إبداعية مكتوبة أو باستدعاء الكاتب لزمن طفولته..وغالباً ماتكون الكتابة.. جامعة بين المصدرين وهو ماجعل الكتابات المتراكمة في هذا المنحى..تخلق للمكان روحاً واحدة حتى عند بعض الكتاب الأكثر وعياً بالحداثة، من غير التسعينيين..مثل عبدالعزيز المقالح في كتاب «صنعاء» وأحمد العواضي في «مقامات الدهشة» ينقاد فعل الكتابة عن المكان لمحاولة استعادة صور للمدينة وبعض أفضيتها تكونت عبر أجيال في ظروف اجتماعية وثقافية تقبلت هيمنتها لأنها نابغة منها ولكنها ظلت تهيمن فيما بعد..على وعي الكاتبين عن المكان..وصنعاء في كتاب المقالح تتجلى في أربعة وجوه:
وجه أسطوري: سمح لريشة القصيدة أن ترسمها أم المدن..فتشبه حواء أم البشرية.
«صنعاء قدت من ضلع الجبل غيماه فهو آدمها».
ووجه ديني: يخلع هالة القداسة على بيوتها ومساجدها ومآذنها.
ووجه تاريخي: يمنحها لغة الاختلاف من عهد إلى عهد فتبقى في الشفتين نشيداً لأحلام العرب وموجزاً لتاريخهم.
ووجه شخصي: يجلعها ملتبسة بذات الشاعر وسيرته منذ طفولته.
إنها كتابة معيارية إلى حد كبير..تتعلق بهوية المدينة وكيف كانت المدينة، وكيف يجب أن تبقى.
وهو رسم المكان لايمكن أن يصدقه شعراء هذا الجيل..وحين تغيب صورة المكان المعياري وتصعب القدرة على الإحساس بها، تصور مكوناتها وعلاقتها اليومية التي تشبه اليوتوبياء..تصعب أيضاً على مبدعي الجيل الجديد أن يقعوا تحت مهيمناتها اللغوية والثقافية.
وبالتالي تختلف مرجعيات الطفولة والتكوين وتختلف مرجعيات القراءة والخبرة.
فيختلف الوعي وتختلف تقنيات الكتابة.
الوعي واللغة وتقنيات الكتابة عند هؤلاء الشعراء تقوم على الشطب ـ شطب المرجعيات المعيارية، التراث الإبداعي المكتوب عن صنعاء والثقافة الاجتماعية التي تكرسها السلطة والمؤسسات القائمة بمختلف اهتمامها في الإبداع المعياري كانت هوية المدينة هي هوية الكاتب.
في الإبداع المعياري..كانت هناك سمات مشتركة بين الكتاب..بالأحرى بين معظم الكتاب..في اللغة والتجربة والانتماء.
في الكتابة الجديدة..يفتقر المكان إلى العاطفة والروحانية..ويبدو غير مسؤول عمن يعيشون فيه..ويشعر الفرد بتآكل المكان وبعدم الثقة فيه، وتبدو الرغبة في كتابة نص يتجاهل التفاصيل اليومية والمشاهد التحتية الرطبة للمكان مثيرة للسخرية.