أغنية حب بغدادية
” ردّيلي الفرح .. رديتْ ”
جنح اغنيدة – مظفر النواب
كانت لكِ القـدرة على رمي أحـضانكِ لإستقبال قـفـزتي ،
لكـنني كنتُ الكرة الطائشة :
لا أعـرف الا الارتطام بالنوافذ .
كان ذلك يكسرني ،
وكـنتِ دائما تجمعين شظاياي ،
كأن نصيبي من الشقـاوة هو نصيبكِ من الحب.
كأن ذلك شدّا من الشَعر بين مجرّتين من الضفائر ،
أو عراكا بين دقات الساعات
التي توّجتنا طقسا من مطرالركض خلف عربات الغيوم .
فيما مضى
كـنا نخـتبيء من الفيض في جِـرارالشطوط :
كانت أصوات المصابيح تزفنا الى البيت ،
مثل موكب من الطرق ،
و كان الليل يحبكُ ، داخـل رأسينا ، سلالا نقية من الشمس .
لا أعرف كيف غـرقنا في الظلام بعـد ذلك ،
لكنني كلما حاولتُ فكَّ أزرار قـميص الزمان ،
كي تثبي خارجا ، من بين أضلاعه ، الى صحن هذه الاغنية ،
أراكِ ترتطمين بالنوافذ ، كما الكرة الطائشة التي كنتـُها ،
كأن نصيبكِ مـن الانكـسارهو نصيبي مـن الحب ،
كأن مراسم غـرامنا لا تزدهر إلا بشدّ الشَعر بين المجرات ،
كأن ..
آه ،
أحـدهم أزاح المصابيح ، فـتـحرّك الليل من مكـانه :
هـناك شيخـوخة ترسم تجاعـيدها في جـرار الشطوط ،
وهناك سرب مـن الجراد يقضم أطراف الناي ،
الذي كنا نعزف السنابل بين ثقوبه.
***
أغنية الفراشة
كانوا يذهبون الى المعبدِ ، وكنتُ أذهبُ نحوكِ ،
حيث الكهف الذي يسرج فيه وجهُكِ القنديلَ المخبوء في أعماقـنا ،
فـنرى كـل شيء ، حـتى الظلام ، صافيا :
كـان ذلك قبل أن نكـتشف الحبَ ، في اغنيةٍ بدائيةٍ ،
ترسمهـا إيماءاتٌ أعضائنا عـلى الريح ، ونتركـها تسافـر ،
دون أن نفكر باللحاق بها ،
لأنهـم كانـوا يذهـبون الى الحروبِ أيضا ،
وكـنتُ أفـرّ منها نحو سنابل شعركِ ،
مـلقيـا الى الوديان بقوسي وسهامي ،
كاشطا عن حنجرتي الصرخة المتوحشة :
هكذا كنتُ أعتقد ،
غير أن ذلك كان مجرّد وهم ،
إذ تجلّى البربريُ الذي في داخلي ذات يوم ،
حين شـعَّ في الكهفِ نتوءُ صخرةٍ ، فتسائـلتِ بعذوبة ،
وقـد فاض نسيمُ روحكِ ، في الهواء ،
حـتى طـارتْ ، في رحابته ، الوردةُ التي كنتُ أقطفـُها يومـيا ، في طريقي إليكِ :
– ” ماذا يشبه هذا ؟ “.
أجـبـتـكِ فورا : ” إنه نسر”
ورحـتُ أدعم نظـريتي بضربات قـوية عـلى جناحيه ،
لكـنكِ تدخـلـّتِ فـي الـلحظة الحاسمة ، الـتي كـدتُ فـيها أن أصرعه :
– ” دعها تمرح ، إنها فراشة ..”
فخاصمـتـكِ :
دسـتُ بقسوة على الوردة ، وخـرجتُ غاضبا من الكهف ،
جامعـا ، في طريق العودة ، أقواسي وسهامي التي رميتـُها من قبل .
قـرون كثيرة مرّتْ مذ أن فارقتكِ ،
صارالعالم بعدها أكبر من الكهف ، وأبعد من المعبد :
حضارات تنشأ واخرى تموت .
امم تتمزق ، وشعوب تطحن بعضها :
يـذهبون الى الحروب وأذهب ،
متنقلا مـن خندق الى خندق ،
ومـن كهف الى كهف ،
الى أن وصـلـتْ هذه الاغـنـية الـى نهـايتها ،
عندمـا
ألجأني البردُ والخوفُ ، صدفة ،
الى كهفنا الأول الـقديم ، في عصر الجليد ،
ورأيتُ الصخرة مكانها ،
فركعتُ أمامها بخشوع ، لم يألفه أي معبد ،
حتى سال التاريخ من الجروح التي زرعتُها عـلى بَشرة الأرض ،
وبكيتُ بمرارة ،
محاولا
أن أسترد آدميتي ،
التي أضعـتـُها بين الأوسـمة والمجازر،
ملقيا عـني سهامـي وأقـواسي ،
فـقد كان الـنـتـوء عـلى تلك الصخرة :
الـنـتـوء الـذي كـان شاهـد هـيامي وخصامي ،
يشبه الفـراشة ،
التي تشبهكِ ،
تماما.
***
أغنية المدينة
الى فتحي أبو النصر
في مدينة الإشارة،
التي لم يذكرها أحدٌ في أسفاره لأنها تهبكَ،
ما أن تغادر،
لعنةَ نسيانها،
سيدهشكَ تمثالٌ يقف وحيدا على الشاطيء.
اسأله- إن أردتَ السُكر – أن يدلّكَ على حانة،
دون أن تتوقع منـه اجابة ما ،
لأن هناك امرأة ستتجلى لكَ ، مع النسيم الساحر،
الذي يدفع المساء الى المدينة كما لو أنـه كرة:
امرأة ساحرة ونبيلة ،
ستحرّك يديها في الهواء ، لترسم لكَ شكل فراشة:
اتبع الفراشـة ، اتبعها،
أيها الجدول ،الذي يسمح أن يتمـرّد عليه مـجراه،
كلما مرّ في حياته بستان،
واجلسْ حيث تجلس.
إن تقيـّدتَ بذلك ، ودخلتَ الحانةَ ، ستسبقكَ الفراشةُ ،
لتحطَّ على كتف رجل منهمك بالنظر الى صورة :
كن جاهزا للفرح والسُكر، من دون خمر، في مدينة الإشارة،
فعندما يرفع الرجل رأسه ، وينظراليكَ ، سترى فيه التمثال:
ابتسمْ له ، فسيبتسم حتى ترى أعمق مجرّات النجوم في أعماقه:
ابتسمْ ، ابتسمْ ، فسينهض ، ويريـكَ الصورة:
امرأة الفراشة..
***
اغنية مـَن أنتِ؟
شُوهدتِ في أماكن عدة ، في آن واحد ،
كما لو أردتِ أن يكون عطرَكِ مشاعا ،
غـيرأن الإمـساك به لن يتم بـيـد وردة ، حـتى لو صـار المرء حديقة .
يقـول الـذين سافـروا إثـرك في الصحـاري :
ليـس ثمة حد لتعريف بهائكِ الذي يكسر الدهشة ،
لأن مراياهـم تلعثمتْ ، ولم تنبسْ ببنتْ شفة ،
فما عكستْ ، إذ عكـستْ ، الا راحـة يـد تنكفيء ،
فتسيل من بين خطوطها الينابيع ،
وتتشكل ذاكرة البحيرات .
كـم كان ذلك أصعب بالنسبة لآخرين شاهدوكِ في البحر،
وكلٌ بطريقته صار يرسمكِ ، في آن واحد ،
موجة تنافس في زرقتها الموجة ،
حتى صار العالم ماءا ،
وأنتِ التي على سطحه تبتكرين اليابسة .
لم يفسّر أحدٌ ما كيف تتشعبين في مخيلة الكون ،
وتتـركـين ورائكِ صورا ،
تجد طريقـها الى سطـور الورق ، أقمشة اللوحات ، خشبات المسارح ،
وأحيانا الى مقاطع منسية ، في العراء ،
حيث يتعذّرعلى المتوحّدين لمسَ وحدتهم من دون صحبتكِ .
أسألكِ : مَـن أنتِ ؟
لأن الاغنية توميء بما لا يمكن تدوينه إلا بالإشارة ،
لذلك أكـتـبكِ كـل مـرة بشكـل ،
كأنني جـمـيعهـم اولئك الذين شاهدوكِ في الأضرحة ،
على زجاج النوافذ ،
وفي شـفـرة البـرق .
كـأنكِ الـمـنحوتة في أعماق كل نفس ،
والغوص ، من أجل صيدكِ ، يحتاج الى الجنون كسنـّارة ،
فالموهبة التي تحـدّكِ لم تـُخـلق ،
كمـا لـم تنبجسْ بعد، مـن أي حـنجرة ،
نافورة الصوت التي تغسل هـواجسَ عشاقـكِ ببحـّة العبقرية.
لـم اُشاهدكِ قط ، من دون العالم ، لأنني أعمى ،
لـكـنـني أعزفُ خواطرعصاي ،
التي نـقـرتْ حـافــة رصيف جمالكِ مرة ،
فصارتْ خضراء ،
كما غصن.
***
أغنية الطير والمرأة الهاربة
أعرفُ أين تنتهي اسطورة الـمرأة الهاربة ،
الـتي يسيـر في نـبـضها العـاشق ، ولايصل الى محطة القـلب ،
إلا بعد أن يتفكك ، ريشة بعد ريشة ،
كـما طير يـبـيع حـنجرته ، من أجل أن يفوز باغنية ،
لكـن مـا أعـرفه لا يعـني أن القرعة قد وقعتْ عليّ ،
أو أنَّ الرحلة قد توقفتْ عند هذا الحد .
لا اريـد أتعفـّن داخـل غـرفة المعـرفة ،
نائما على وسادة مـن ريـش الكتب:
لابـدّ مـن تحطـيم زجـاج نوافذ الطمأنينة برعد الخيال ،
والطيران على متن أقرب عاصفة ،
من أجل نصيبي من الجمال الذي لا يطاق ،
ولأن هناك مقاطع ناقصة مـن الاسطورة،
كان قـد اقتطعها آخرون ،
يجب أن أستعيدها.
لن يـُثنيني أحـدٌ عـن العـودة الى البداية ،
حـتى لوكلفني ذلك أن أخسرالاغنية ، التي في سبيلها بعتُ حنجرتي :
أنا الطيرالـذي فكـكه الاخرون ، ريشة بـعد ريشة ،
وهم ينهبون تلك المقاطع ،
من محطة قلبها ،
قبل وصولي.