منذُ أن عُدت قبلَ عامين ونيِّف، إلى ما تبقّى من بلادٍ وذكريات، نسجتُ علاقةً جيِّدةً مع عصافير الدوريّ وقطط الشوارع، صار لنا مكانًا ومواقيت، تحت أربع نخلاتٍ وجوّافة، بمحاذاة سور الهلال الأحمر الفلسطينيّ، على طريقِ الأمل، مبتدأ حيّ الأمل، الذي عشتُ فيه طفولتي ومراهقتي، قبلَ أن أنتقل للعيش في غزة المدينة، أيام الجامعة، بسبب فصل الاحتلال الاسرائيلي جنوب القطاع عن شماله بحواجز لعينة سرقت أعمار الناس، وذلك قبل الانسحاب الأحادي الذي نفذه أرئيل شارون في العام ٢٠٠٥م.
تحت أربع نخلاتٍ وجوافة وسور، على الرصيف قضيت معظم وقتي في نهارات وأماسي العامين الفائتين، قلّما غادرت هذا الحيّز، كنتُ ألملم حالي من الدنيا، وأستعيد ذاتي من عشر سنوات غياب خارج البلاد، خلقن شرخًا في الذاكرة، كنت أحتاج إلى العصافير والقطط حولي، لا الناس، الناس قصّة أخرى تحتاج إلى شرح مفصّل.
باكرًا تستيقظ العصافير، تصدح بجوقتها الصباحيّة، فوق النخيل، على أغصان الجوّافة، هبوطًا إليّ، حيثُ طعامهنّ.. كذلك يجئن القطط الصغيرة اللواتي فقدن أمهاتهن في حوادث سير غالبا، يتجمعنّ حول وجبتهن الصباحية، فيما الشمس تغسل الرصيف بدفئها، ثم يبدأ اللعب، ولعبهن يبعثُ في النفس راحة وسكينة مغمسة بالرضا، كأنني أدّيت ما عليّ من واجبات اتجاه الكون!
على السور، أجلس، أترك للشمس مهمة تفكيك ما تبقى من نوم على وجهي، وللقهوة مهمة تسيّد مشاعر امتلاكي للقوة اللازمة للاستمرار في يوم جديد، في مدينتي التي تربطني فيها علاقة مُشاهد دخل مسرحًا، فوجد مسرحية غير مفهومة على الاطلاق بالنسبة له، وفيه نداء عميق أن يكمل حتّى يتبيّن له معنى ممّا يحدث، وكلّما قرّر المغادة، زاد النداء قوة على البقاء.
جمعة.. وزير شارع الأمل شهيدًا
عيّنتُه وزيرًا للشارع، بدءً من مستشفى الأمل مرورًا بمبنى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حيث السور والحيّز الذي قضيت فيه عاميّ الفائتين تحت أربع
نخلاتٍ وجوّافة، ثم متنزه الهلال ونادي الأمل الرياضي وحتّى نهاية الشارع مع نهاية حي الأمل غربًا، “جمعة، أنت وزير هذا الشارع، خذ” وأعطيته ورقة مكتوب عليها “جمعة.. وزير شارع الأمل، أعطه سيجارة”، قلت له، إذا طلبت سيجارة من شخص ورفض، أخرج له هذه الورقة.
جمعة شخص ستيني، يعاني من مرض نفسي منذ كان شابًا، غالبا ناتج عن صدمة لم تُعالج حينها، قال لي أحد الجيران من مجايليه، إنه كان أجمل شباب الحيّ، وكان عاقلًا، واجتماعيا، لا نعرف ما حدث له بالضبط، ولكنه منذ ذلك الوقت وهو خارج عقله، لا يهدأ إلا بالحبوب المهدئة. يحرث شوارع المدينة بقدميه، يتحدث بلغة غير مفهومة، ثم ينهي جملته بسؤال “صح؟” وعليك أنت الذي صادف تواجدك مروره أن تؤكد له بكلمة “صح!”!
بعد قصف البيت ديسمبر الماضي ومغادرة حي الأمل غربًا لكيلو متر، صرت إذا ما استطعت أذهب باتجاه الحيّ، حيّنا، في أحد تلك الزيارات أخبرني أحدهم أنهم وجدوا جثّة جمعة مقتولًا برصاص الكواد كابتر في طريقه إلى وسط المدينة.
حزنت جدّا، جمعة كان جزء من صباحاتي خلال العامين
الفائتين، لدي معه فيديوهات كثيرة مصورة على موبايلي، كنت أقول له، أنت شخصية سينمائية يا جمعة، بدّي أعمل عنك فيلم، فيبتسم، ويعدد لي أسماء إخوته وأخواته ثم يشتم الجن ويأجوج ومأجوج ولا أفهم غضبه من هابيل وقابيل، يظل يبرطم بكلام غير واضح ولا يُفهم منه شيء ثم يقول لي بشكل واضح جدا، هات سيجارة.
هروب آخر
فجر يوم الاثنين الموافق الثاني والعشرين من يناير، انتبهنا على صوت الدبابات قد وصلت غرب خان يونس، في الحي الياباني، قرب مركز التدريب المهني التابع للأنوروا (الصناعة) حيث انتقلنا قبل أسابيع، بعد قصف ببتنا في حي الأمل. كانت ليلة مرعبة من الأحزمة النارية والغارات المتواصلة وقذائف المدفعية والرصاص، ليلة بدون لحظة صمت واحدة، منذ السابعة مساء الأحد حتى صباح اليوم التالي، إلى أن صرنا وجهًا لوجه مع الدبابات.
عشرات الآلاف من النازحين ومن الهاربين من بيوتهم بما تيسر من حاجات ضرورية، صاروا وجها لوجه مع كل أشكال الموت، احتمت الناس بمبنى الصناعة، فرّ آخرين باتجاه البحر.
ثم جاء خبر الاخلاء لمناطق حي الأمل وأحياء غرب خان يونس، بدأت تغريبة فلسطينية جديدة، خروج جماعي عبر شارع التفافي يؤدي في نهايته إلى شارع رشيد البحر، حيث ازدحام جنوني، لبشر سُكارى وما هم بسكارى، تحت أزيز الطائرات المسيرة وقذائف الدبابات كان الخروج.
أخي بسيارته، ذهب ليُخرج من تبقى في مبنى الهلال بحي الأمل، ونحن ظللنا ننتظر في الحي الياباني على بعد مئتي متر عن تمركز الدبابات، التي تطلق الرصاص على كل من يتحرك. ساعتين من الانتظار والرعب والرصاص، ولا يمكننا المجازفة بالخروج على أقدامنا، فالرصاص يقدح شرره أمام أعيننا، على سور مبنى الصناعة، وعلى الاسفلت، واحترقت بعض السيارات المصفوفة على الطريق، وأصيب رجل مسن في قدمه وهو يحاول قطع الطريق من رصيف إلى رصيف محاولا الالتحاق بعائلته التي تحاول الوصول إلى بوابة مبنى الصناعة التي تقع جهة الغرب.
في انتظار الخلاص
الوقت يتمدد، يصير مقاسه بالرصاص والقذائف وصوت حركة الدبابات، تلك التي تحركت وأغلقت امتداد شارع خمسة والذي يقع محاذيا لمبنى الصناعة من الشمال، وهكذا أغلقوا الطريق أمام حركة الناس الفارة من الجحيم المباغت.
من المفجع انتظار مثل هذا، كان أمر طريق آخر غامض، وإمكانية قدرة عودة أخي بسيارته صار صفر، الحل هو الخروج على الأقدام مع كل احتمالات المجازفة، أو المزيد من الانتظار، ولا شك أن في ذلك مخاطرة أكبر.
بغتة، خرج أخي بسيارته من العدم، وجهه مخطوف، كأنه جاء من فم الموت، يرجف كله، خلفه قدحت شرارات الرصاص على الاسفلت، بسرعة خارقة، أخذنا إلى السيارة ما استطعنا من فرشات وأغطية وبعض الأمور الضرورية. السؤال الذي ظل يدور في رأسي كيف ستتسع السيارة لأربعة عشر شخصا كحمولة واحدة، فلا يمكن المجازفة بعودة لحمولة ثانية!
ازدادت شدة انفجارات القذائف والقصف حولنا، نحن شبه محاصرين من كل الاتجاهات وعلينا تجاوز الطريق بأي شكل، لنذهب باتجاه الطريق الوحيد المفتوح وصولا لطريق البحر، وأي تأخير فيه مجازفة. لا أعرف كيف
اتسعت السيارة لنا نحن الأربعة عشر أطفالا وكبارا، لا أعرف كيف تجاوزنا الطريق تحت اطلاق الرصاص المباشر، لا أعرف كيف تجاوزنا الدبابات القريبة، لا أعرف كيف خرجنا من الجحيم، ولكني استشعرت رحمة الله في كل هذا، ألطاف الله الخفية كانت تعمل في كل خطوة، إلى أن وصلنا طريق رشيد بمحاذاة البحر.
سلام علينا، على الهاربين، المخلفين الجحيم خلفهم وها هو ذا البحر من أمامهم. سلام علينا، وعلى الذين ظلوا محاصرين خلفنا في مراكز الايواء.
24.1.2024
مواصي خان يونس
تنويه:
يصدر نهاية أغسطس ديوانا مشتركا مع الشاعر اليمني فتحي أبو النصر.. الديوان بعنوان ” كل مافي الامر أننا غرباء والجنوب شمال الروح” كتب في عام ٢٠٠٤ لمدة شهر مابين مدينتي صنعاء وعدن، حيث شارك يوسف القدرة في فعاليات ملتقى الشعراء الشباب العرب حين كانت صنعاء عاصمة للثقافة. لكنه ظل عالقا لأن منفذ رفح اغلق حينها فكانت الرحلة الشعرية إلى عدن نتيجتها هذا الديوان المفارق. هذا الديوان المعتق يصدر عن مؤسسة أروقة للدراسات والبحوث والنشر مصر برعاية كريمة- ( طبع مجاني تضامنا مع الشعب الفلسطيني العظيم ) الذي يعد يوسف القدرة من اجمل شعراءه- من الناشر رئيس المؤسسة الدكتور هاني الصلوي.