شعر ونثر

سيف الرحبي ..يندفع بغريزة وَعلٍ على حواف جبال شاهقة

سيف الرحبي - انزياحات

رئيس التحرير

 

سيف الرحبي شاعر وكاتب عماني ورئيس تحرير مجلة نزوى الثقافية الفصلية المرموقة التي تصدر في مسقط. ولد في قرية سرور بولاية سمائل بالمنطقة الداخلية سنة 1956. درس في القاهرة وعاش في أكثر من بلد عربي وأوروبي، عمل في المجالات الصحافية العربية. ترجمت مختارات من أعماله الأدبية إلى العديد من اللغات العالمية كالإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الهولندية، البولندية، وغيرها.

 

اجزم أن سيف الرحبي من أهم الشعراء العرب المعاصرين والمغايرين .. أعطته سلطنة عمان كل ما يمكنه من صنع ثقافة جديدة.. أعطت الخبز لخبازه.. يحمل سيف الرحبي هما ثقافيا وفكريا وشعريا حقيقيا.. في زمن ما كنت أحتفظ بكل أعداد نزوى منذ عددها الاول.. كانت نزوى تضيء ليل الشعر والفكر العربي الحالك.. أشعر بالاسى حين استرقت مكتبتي.. كانت وستظل نزوى نوارة الأدب العربي الحديث.

كنت أبلغه تحياتي عبر الشاعر العماني طالب المعمري حين كان مديرا للتحرير .. ذات مرة أرسل نسخاً من مجموعة جديدة لصنعاء بعناية الدكتور الذي نفتقد حاتم الصكر ذلك العراقي الكبير الأكثر من يمني.

كلنا تحلقنا حول حاتم وكل منا أخذ نسخته ( هديته) من سيف الرحبي.

تستحق السلطنة الشقيقة أن تزهو بسيف الرحبي المتفرد المفرد المنفرد.

يحمل سيف الرحبي وعيا عميقا لليمن – سيذكره التاريخ – وإيمانا راسخا بروعة الشعراء الشباب بالذات من يكتبون قصيدة النثر.

في أحد الاعداد تفاجئت بأربع صفحات عن تجربتي الشعرية في نزوى.. كان الراحل الكبير صديقي التاريخي الشاعر المصري ايهاب خليفة هو من استعرض بنقد فذ مجموعتي الثانية موسيقى طعنتني من الخلف.

يكابد سيف الرحبي من أجل ارتقاء الشعر العربي الحديث.

انه يتوغل على نحو مؤرق وشفاف في إبداعه الأصيل. إن سيف الرحبي تاريخ من الشجن المستحيل. إنه يجترح غمار اليقين من مركزية الذات الشاعرة وملحميتها بقوة السبك وغلبة الترحال في الأشياء والأمكنة. افتتاحيات مجلة نزوى تتسم بذلك. إنه يندفع بغريزة وعلٍ على حواف جبال شاهقة.

في هذا السياق اثر سيف الرحبي في تجربتي الشعرية كثيرا

كنا للعدد القليل الذي صنعاء من مجلة نزوى نصور افتتاحياته ونتقراها في المقيل.

إنه حفيد الربع الخالي..مثل بدوي في المدن الكبيرة يتملكه إحساس الغربة .

قلت ذلك للعزيزة الصديقة المبدعة هدى الجهوري ” هدى حمد” التي انضمت الى أسرة تحرير نزوى عن جدارة. ردت هدى:

” إن سيف الرحبي يتأرجح في مراياه “.. اعجبني التوصيف.

مؤخرا أصدر سيف الرحبي ” عاصفة على جناح متعب – نصوص” وكذا ” ليل المحطات والنجوم “.

منذ مجموعة” أرق الصحراء ” حتى ” يد في آخر العالم ” وأنا أقرأ بشغف كبير لسيف الرحبي .

في حوار جريء معه أجرته هدى حمد قال سيف الرحبي:

‘معروف أنّ عُمان قبل السبعين كانت مُنغلقة بشكل ظلامي، وأعتقد أنّ هذا بقدر ما له من تأثير موضوعي على المجتمع والوعي والثقافة، بقدر ما هو أيضا عمل بقوة على عزل المنطقة من محيطها العربي والكوني. فالاستعمار الإنجليزي الذي شكّل القوة المهيمنة، عمل على عزل المنطقة عن محيطها” . “تمّ عزل المنطقة لكي تغرق في ظلام الأسلاف العقائدي، وهذا يخدم نمط الاستعماري القديم. ربما تغير الوضع الآن مع الاستعمارات الجديدة، إلا أنّ جوهر الهيمنة واستغلال ثروات الشعوب يبقى موجودا، عبر تجليات وأنماط من الهيمنة التي تختلف من مرحلة لأخرى

وفي حوار آخر معه قال سيف الرحبي “ورطتُ في أسئلة التاريخ والوجود”

وهو يرى أن “كل تجربة شعرية تحاول أن تغادر بعض عناصر موقعها الأول، وتمضي إلى المجهول”

وعليه تعتز انزياحات بنشر مختارات من شعر سيف الرحبي

 

 

***

 

 

بعصا الأعمى في ظلام الظهيرة

لا فريسة في الأفق

العقبان تسطعُ في الظهيرة

كأنما تسبح في ظلام خاص

بعيون مغمضة قليلا وناعسة.

روحُها القلقة تحلّق فوق المدن

التي بُنيت على عجلٍ.

من رفات حطّابين وجماجم قتلى.

***

أحيانا تخبط الهواءَ الراكد

كأنما تنقضُ على فريسة

لكن لا فريسة في الأفق

ربما الخواء اللامع بمعادنه الثقيلة

التي تغطس في القلب

ربما الظهيرة

تقرع بعصا الأعمى

أبواب الحنين

ربما الحياة التي تتوارى في فم ذئب.

***

منذ ستة وعشرين عاماً

كلّ صباح

حين تستيقظُ من نومك المليء بالمذابح والأحلام

تسألُ نفسك

عاما بعد عام

أمام أرضٍ صمّاء وأرخبيل مغلق،

منذ ستة وعشرين عاماً

ماذا تفعلُ في هذه البلاد؟

ستةُ وعشرون مرّت

وأنت تذرعُ الأفق بقدمٍ مكسورةٍ

ورأس غارق في الجحيم.

 

بداية الرحلة

ستحلمُ أن هناك مستقراً وكتباً

وربما ثوراتٍ تقلبُ وجه العالم.

 

فمضيت، تاركاً كل شيء وراءك

عويل أمك على سلم البئر،

الذي ظلّ يلاحقُك في المدن والقارّات،

نظرات أبيك الغاضبة.

 

مرابع طفولتك بين الجبال والشُهُب.

ميلاد النفط بين عظام الأجداد.

 

ماضياً وراء ندائك، في ليلةٍ

كانت فيها الرياحُ ثكلى،

فجرَ ليلةٍ مُبهماً.

 

سيكونُ هناك مستقرٌ

ونساءٌ وثوراتٌ

وفي طريقك عبر الصحراء

رأيت بدواُ أوقدوا نيراناً وكلاباً

دافنين أمتعتهم في الرمل

رأيت المستكشفين يعلّقون خرائط الجزيرة

على رؤوس الأشجار

وآلاتٍ عملاقة، يحسبُها السكاّن

نذيراً بالقيامة.

 

رأيت الأرض تهتزُ،

كما لو أنها على كفّ عفريت

وجملاً يبتلعُ صاحبه

كما تبتلعُ الصحراءُ العواصف.

بعد قليلٍ ستجتازُ البوادي نحو الأحلام

ستجتازُ حاجز السحرة

ورافعات الحبال الأسطورية.

 

لكنّ الحافة لا تنتهي

إلا إلى أعماق الهاوية

والصحراء تمتدُ والغبار يعمي الدليل

والقافلة تتلاشى

خريفٌ يمرُ ومدنٌ تتشظّى

كنيرانٍ أخمدتها شهب بين المجرات

وبحارٌ تموتُ بالسكتة.

 

وأنت تعدُ الأعوام

حالماً باجتياز المضيق

شعرُك يغزوه الشيبُ

وجسدُك يتلوّى من ألم غامض

كأنما رياحٌ هوجٌ قذفت أحشاءها

في أعماقك.

 

ترنو إلى نجمٍ شاحب وسط سماء قفرٍ

تتقاطرُ في مراياها

النساءُ والوجوهُ والأصدقاء.

أي طفولةٍ كانت لك؟

وبأيّ زمن رميت سهامك

في عيون الفجر.

فسقطت عصافيرُ الأبديّة.

 

لا تتذكرُ شيئاً

لا تنسى شيئاً

مشدوداً إلى وتد الجبال

تمشي مغمض العينين

في طرقاتٍ مليئةٍ بالذئاب.

 

كم مرةً نمت في محطّات القطار

كم مرّةً تقاذفتك أيدي البوليس العنصريّ.

في غرف باردة،

مع غرباء مثلك؟

 

ربما حصل ذلك في زحمة الكوابيس

حيثُ الأفعى أفاقت بعد نومٍ طويل

لتلتهم الجَنّة

وتلتهم احتمالات العودة.

قلت لا بأس

المهمُ أننا موجودون على هذه الأرض.

هكذا

من غير أحلام ولا معجزات

موجودون في أرض الله والبشر

الأرض.. يكفي أنها تتسعُ لسريرٍ وقبرٍ،

وبينهما ضحكةٌ سوداء.

 

ولكن قبل ذلك

هناك طرقُ طويلةٌ تفضي إلى ظلمةٍ

تنفجرُ منها مياهٌ وبساتينُ

في قلب كلّ بستانٍ امرأةُ تعوي من الشبق

وأصدقاء لا تنقصُهم الخيانةُ

والبولُ على الجثث.

 

يمكنك أن تستريح من عناء الرحلة

وتقطن فندقاً في مركز المدينة

حيثُ في كلَ صباحٍ تجلسُ على الشرفة

تشربُ القهوة والنبيذ

وترقبُ الأحياء والأموات

حشوداً تسحبُ أمعاءها في الأزقّة

وحروباً يستعرُ لظاها في المخيّلة.

أو ربما لا تفكرُ في شيء

عدا فنجان القهوة المزدحم سطحُه بالكواكب

فهناك دائماً في المدينة أو القرية

أو الثكنة

من يقومُ كلّ صباحٍ

ماضياً في طريقه إلى الهدف،

الخمّاراتُ تفتحُ أبوابها

(ترمقُ النادل ينظفُ الطاولات

في الضوء الخافت للعاهرات)

والموظّفون يحتشدون في الساحات والمكاتب،

وكذلك العمّال

والكهنةُ والغرقى

لا يحتاجون إلى قافلةٍ

أو دليل.

***

يا غربة الروح في دنيا من الحجرِ – السيّاب

1

كانوا هناك يرتّبون أحلامهم

كلما مرت غيمةٌ

أو جناح قطاة

ركلوا الأودية بحوافر أفراسهم

ذابوا في هباء المغيب.

 

كانوا هناك

يرتبون الصباحات على عجل

ويرشقون سماء جارحةً

بنظرات ملؤها التوجسُ

والوحشة

مشدودين الى مدارات

لم يعدُ لها من حنين

وجبال أفرغ الطير أحشاءه في سفوحها.

ليكن بهاؤك أيتها الآفاق

طريدة أشباحهم

منابر أطياف عميقة لنسور عابرة

وهاويات:

كم أنت سعيدة

أيتها الهاوية

نحدق في ظلامك الغزير

لنستجدي هداياك الغامضة

أشلاءك المبعثرة في تخوم بعيدةٍ

كانت مأوى لشريد

وحكمةً لضلال محتشد بوعوله

حيث تقشعر أفئدة القساة

في ليل بربريّ المزاج.

 

نحدق في ظلامك البهيج

ظلامك الممطر نيازك

وأحياء يتذكرون موتهم

يتذكرون النعمة

جهاتك الكون

وعلى مقربة من هذياناتك

يلتئم جرحٌ قادمٌ من أزمنة سحيقة.

 

تطوف الليالي على طبقاتك

كمياه راكدة

مياه مزدانة بالضفاف والأساور

أيتها المفعمة بالغبطة

تقفين وسط دوار العالم

ضاحكة وشاسعة

على مفرقك أمة من الأسرى.

 

لأنك الوحيدة التي بلا عيب

بلا ماض ولا مستقبل

كالمصير نفسه

كالمحْو والمحاق

وكالأزمنة وقد فرغت من أعبائها البشرية

ولاذت بالسكينة.

 

كانوا هناك يرتبون العُزلات

والعواصف

لا يفصلهم عن الأبدية

إلا قوس جبال ضارب في البحر

وأساطير بحّارة غرقوا

واقفين أمام الله

يتامى

يخبط الموج أقدامهم

أمام شمس نازفة في العيون.

أيتها السكينة يا من تذرفين الموسيقى كثيرا

وتعاشرين الموتى

امنحي أرواحهم بعض الهدوء

حلّي رتاج العواصف عنها

ذكريهم بأطفال غائبين

ونساء يسكنّ المتاهة.

 

حلّي رتاج العواصف

يا من تغدقين على الصحراء مهابتها

وتؤثثين الهاوية

أعرف أنك الأكثر رأفة من السلالة

من هذه الحشود التي تسحب أمعاءها

في الساحات والعربات

والوديان

أنت القادمة من جهات مشطورة

بالشكيمة

حيث السلالات أضاعت خاتمها

في بطن حوت.

 

وكان الدخان يتصاعد من أفواه القتلى في ميدان المعركة، معركتهم التي ما فتئنا نردد أناشيدها جيلاً بعد آخر مأخوذين بالرنين الباهر للضحيّة في نزوعها الجماعي نحو الموت، نردد الأناشيد الباسلة لموت لم يعد له طعم الموت، لأيام تعيش خواءها ومدن تغرق في بحر تفتك به الأساطيل الذرية وزحف الأوبئة المحيق.

أعرفك

أعرف من أي فجاج تتسللين الى

فراشي

أيتها المستبدة في فمك غصن الانتقام

أنا الذي كنتُ عارياً

فألبستني جسدك

مشردا فكان رحمك منزلَ الغريب

مدبوغا بالأرق والمحنة

فكنت فتنة النبيذ حين يندلق

بحانة القطار

في ليلنا الأخير.

 

المستبدة عن شقاء وعن بهجة

عن جفاف وعن مطر

تعوين من فرط اللذة، أمام

القمر المعتم الذي يقتحم النافذة

في المدينة الكبيرة التي يعلوها

الدخان والعويل.

 

جنّتكِ المغلقة

أحوم حولها سكران من ترف

الصدمة، ألعق فيض اللعاب والعطر

واشتم رائحة الأسلاف في كهوفهم

البعيدة.

 

أعرفك الآن جيداً

عبر غياباتنا واشلائنا

عبر انمحاء خصرك في الغابة

– الغياب إقامة في الروح –

أصبحت أكثر سطوعا في عين جوارحي

أكثر اقتناصا لبروق اليتم

أغالب موجك اليومي كي أستطيع السير

واستجديه للسبب نفسه

أيتها القادمة من فجاج الرأس

مسوقةً بأحلامك

مسوقة بالدمع ينسكب من

أفواه الجبال

بشعوب أنهكها القيظ وحيوانات

الصحراء

نورك المتسلل الى عتمة كوابيسي

نورك القليل الراشح من مغيبه

لا يضاهيه الكمال في عرشه الكلّي.

أعرفكِ

أعرفكِ الغضب حين يضيء مفاتنك

أعرف الشر حين تنضحين رغبة

الفراش

يا ذهباً يبحث عنه العميان

في مناجم منهارة.

في فمك غصن الانتقام

أيتها الكراهية

يا من لا تنوء حملا بثقل طيورها

تتنزهين في صباحاتي

صباحات البشر الكئيبة

في هذه المدينة المقصوفة بالشهُب

والدكاكين

تأوين الى فراشي

مدللة، جميلة، باذخة،

موغلة في استعراضات حشودك

في حظائر مخلوقاتك

وأبقارك

في دولك الكبرى والصغرى

موغلةً في الصرخة مقذوفة من

فم الملاك

يا من امتدحك الشعر

وخضعت لك المحيطات

لستِ القيامة ولا نذيراً بها

أنت عجينة الكائن

علّة الجنس بين عشيقين

انبلاج فجر الذرة

رفسة الطفل لجدران الرحم

وأنت أيضا

التي تدربين الصّبْية في المخيمات

على السعي نحو العدالة

وحمل السلاح

المنفيين على حب الخيانة

والمقيمين على البلادة

أنت بجناحيك الكبيرين

تجوبين البسيطة

بحثاً عن لمسة الرجل نحو المرأة

التي يفترسها السرطان.

أنجزت المهمة بضراوة السباع

بفداحة الطوفان الذي جرف

السفينة والحمائم

وبقي وجهك على غمر الماء

خالقة ومخلوقة

سعيدة بكونك الجديد

سعيدة بزواج أبنائك من بنات آوى

ينتحبن فوق قمم الجبال

أيتها الكراهية

يا بصقة الكائن في نزْعه الأخير.