عزمي عبدالوهاب: مناضل شعري في دروب الحياة
انزياحات
الشاعر المصري الكبير عزمي عبدالوهاب، ليس مجرد اسم في عالم الأدب، بل هو رمز للنضال الشعري الذي يتحدى كل القيود والأطر الرسمية. بيننا، أنا فتحي أبو النصر الشاعر اليمني، وعزمي عبد الوهاب، علاقة حميمية تتجاوز حدود الزمان والمكان، علاقة وجدان مشترك تبلورت من خلال التجارب والمواقف التي عشناها سوياً.
عرفت عزمي عبدالوهاب لأول مرة من خلال صحيفة “أخبار الأدب” المصرية، ثم ازدادت معرفتي بتجربته الشعرية عبر مجلة “أدب ونقد” الصادرة عن حزب التجمع. كانت مجموعة قصائده التي وصلت إلى بريدي إحدى المرات بمثابة مفاجأة كبيرة لي، فتلك الكلمات الشعرية البديعة كانت تحمل في طياتها مشاعر ثورية ونضالية، تجسدت بوضوح في قصيدته الفذة “شيوعيون.. كنا”.
في عام 2004، عندما كانت صنعاء عاصمة للثقافة العربية، شارك عزمي في ملتقى الشعراء الشباب العرب. كانت تلك فرصة لتبادل الأفكار والتجارب الشعرية، ولتعميق العلاقة الوجدانية التي تربط بيننا. على الرغم من أن عزمي تدرج في مجلة الأهرام العربي من محرر ثقافي إلى رئيس قسم الثقافة ثم إلى مدير التحرير، إلا أن روحه الثورية ونضاله الشعري لم يفارقه قط.
ذات يوم، لبينا دعوته إلى صحيفة الأهرام العريقة، حيث كان مكتب مجلة الأهرام العربي في أحد أدوارها. لقد كان معي في تلبية الدعوة صديقنا الشاعر والروائي اليمني الكبير علي المقري. استضافنا عزمي عبد الوهاب في مطعم الصحيفة، وهو مطعم بدرجة خمسة نجوم، حيث استمتعنا بحديث عميق عن الشعر والأدب والنضال.
***
“قصيدة “شيوعيون.. كنا”
تجسد قصيدة “شيوعيون.. كنا” لعزمي عبد الوهاب روح الثورة والنضال التي كانت تسيطر على جيله. تأخذنا القصيدة في رحلة زمنية، حيث كنا نحلم بالثورة والحرية، ونرى في آبائنا تجسيداً للكفاح والصمود رغم الصعوبات. الأعلام الحمراء، قصر الرئاسة، المظاهرات، كل هذه الصور تعبر عن أحلامنا التي كنا نحملها في قلوبنا ونعيشها في خيالنا.
والحال أنه الوجدان الإشتراكي فعلاقتي بعزمي عبد الوهاب ليست مجرد علاقة صداقة، بل هي علاقة وجدان اشتراكي. كانت رؤانا ومشاعرنا تتقاطع عند الكثير من النقاط، خاصة في ما يتعلق بالثورة والحرية والعدالة الاجتماعية. كنا نرى في الأدب والشعر وسيلة للتعبير عن أحلامنا وللنضال من أجل تغيير واقعنا.
رغم عمل عزمي في مجلة الأهرام العربي، المجلة الرسمية، إلا أن نضاله الشعري لم يتأثر. كان يدرك أن الشعر يمكن أن يكون أداة للتغيير والتأثير، حتى وهو يعمل في إطار مؤسسة رسمية. لقد استطاع من خلال عمله في المجلة أن يوصل صوت الشعر الثوري بجمالية مدهشة إلى شرائح واسعة من الجمهور، وأن يظل وفياً لمبادئه وقيمه.
في مصر، حين قررت العيش فيها إلا تزاح غمة الميليشيات،كنا نلتقي في مناسبات عديدة، سواء في عزاءات لأصدقاء أدباء وشعراء ومثقفين رحلوا، أو في فعاليات ثقافية مختلفة، وخاصة في دار ميريت. كان عزمي دائماً يطلب مني أن أكتب لمجلة الأهرام العربي، ولكنني كنت منشغلاً بالعديد من الهموم. اليوم، أجدها فرصة لشكره والاعتراف بفضل تلك العلاقة التي أثرت في تجربتي الشعرية بشكل كبير.
الشعر والنضال:
عزمي عبد الوهاب هو مثال حي على أن الشعر يمكن أن يكون أداة للنضال والتغيير. قصيدته “شيوعيون.. كنا” ليست مجرد كلمات، بل هي تجربة حياتية مليئة بالألم والأمل، بالكفاح واليأس، وبالرغبة الدائمة في التغيير والتحرر. من خلال هذه القصيدة، يظهر عزمي كشاعر مناضل، يستطيع أن يعبّر عن مشاعر جيله وأحلامهم وتطلعاتهم.
خاتمة:
في النهاية، يمكن القول إن عزمي عبد الوهاب هو أحد أعمدة الشعر العربي الحديث، الذي استطاع أن يجسد من خلال قصائده روح النضال والتحدي. إنه شاعر مناضل، حتى وهو يعمل في مجلة رسمية، لأنه استطاع أن يحافظ على روحه الثورية وأن يوصل صوت الشعر الحر إلى جمهور واسع. ستظل قصائده، وخاصة “شيوعيون.. كنا”، مصدر إلهام للأجيال القادمة، وشهادة حية على قدرة الشعر على التأثير والتغيير.
***
مختارات عزمي عبدالوهاب من مجموعة
” حارس الفنار العجوز”
حارس الفنار العجوز
حارس الفنار العجوزلك الخشوع يارب الضياء
أنت يا من تسكن فى قلب البيت الكبير
يا أمير الليل والظلام
جئت لك روحاً طاهرا
فهب لى فماً أتكلم به عندك
وأسرع لى بقلبى يوم أن تتثاقل السحب
ويتكاثف الظلام
أَعْطِنى اسمى فى البيت الكبير
وأعد إلى الذاكرة اسمى
يوم أن تحصى السنين
***
من كتاب الموتى
ثرثرة عن حفل زفاف لا تعني أحدا سواها
انتهينا
اذهبي الآن إلى الحفل
بجسد مُهَيّأ للطعن
أنت سعيدة طبعا:
لكِ وجهٌ جديدٌ
ويدان ما استراحتا في كفًّ غريبة
عن العائلة،
كما أن الريجيم القاسي الذي اتبعتِه منذ شهور
يجعلكِ أجمل..،
يكفي أنه خلصكِ من النكات البذيئة في الهاتف،
والبيتزا، وشجار أمكِ المتواصل،
والمشاوير الأسبوعية من “الدقي” إلى “الهيلتون”
انتهينا
ولكن
إذا تعمد أن يحيط خصرك بذراعيه
وأنت ترقصين معه كفراشةٍ سكرانةٍ
أديري وجهَكِ بعيداً
في عيون جاءت لتشهد الذبيحة..،
وارتبكي أكثر
بحيث تبدو شفتك العليا بالتحديد
وكأنها أُميةٌ..،
امنحي وجهكِ قليلا من الحمرة الخجول
وأنتِ تنظرين إلى أسفل
(هذا الوضعُ يتناسب مع غازٍ
فتح مدينة تستعصي على الحرب)
دعيه يتباهى بذكورته أمام الأصدقاء
في المقاهي والبارات المعتمة
لا تقولي: فشلتُ في محاولة انتحارٍ أخيرةٍ
لأنني أحبكَ.. لا أحبكَ
قولي: “لم يمسسني بشرٌ”
(هنا بالضبط تكتمل اللعبة)
وقولي له: يا شبيه أبي
هنا أيضا سيصدق أنكِ تحبينه..،
انتهينا الآن
تعثَّري في فستانكِ الأبيض الطويل
كامرأة تدخل المكان الغلط
ولا تبكي.. كأن البكاءَ علامة فرح..،
وإذا تذكرتِ شقةً دخلناها معا
حاولي إقناعه بأنك خائفة جدا
إلى أن تخرج من رأسك أفكارٌ تعرفينها،
وملابس سقطتْ قطعةً قطعةً على الأرض،
ووسائد أغمضتِ عينيْكِ عليها من تعب اللذة..،
عند هذه اللحظة بالذات
اصرخي: أُحبكَ
(من فضلكِ.. بصوت عالٍ)
ريثما تستعيدي يدين قبضتِ بهما
على شباك سرير عابرٍ للحزن..،
وبسادية مدربةٍ على الحب
اصرخي –أرجوكِ– بشكل مختلفٍ..،
هل فشلتْ تلك المحاولاتُ
في إزالة العناكب التي بصقتْ ماءها فوق ظهرك؟!
لا تخطئي في اسمه إذنْ
وأنت تعدين أسنانه المغروزة في كتفيك..،
يمكنك أن تحكي له عن البحر الذي يلازم أحلامكِ
وعمال “مصنع البيرة” الذين يتلصصون على سريرك ليلا..،
اجعليه يتهمكِ بالبرود من وقت لآخر
وفي اللحظة المناسبة
تأكدي أنه سيفهم:
هو الوحيد الذي اصطاد الكنزَ،
وشرودك المفاجئ
لم يكن إلا خوفا من تجربةٍ
تتعطل فيها القطةُ عن المواء
بعد ليلة من الشبق..،
هل تذكرين؟
منذ عامين
بعثتْ قطة بموائها إلى هاتف رجلٍ عجوزٍ
كان يتدثر بشتائه متكئاً على عزلته..،
أشارت إلى شعرها القصير
وقالت: سأظل بجانبك
إلى أن يصل الشعر إلى رِدْفَيّ
فاهنأ بفاكهتي
وسريعا أعادته إلى شتائه الموحل
لأنها لا تريدُ أن تكون خائنة!
ما جدوى هذا؟
نحن انتهينا
والذاكرةُ التي رَبيْتِها على النسيان
لا تجيد الالتفات إلى الوراء
ستكونين زوجة صالحة بالتأكيد
لأنك قادرة على كَشْط عامين من الحب والجنس
تحت أول “دش” باردٍ في الطريق
فاذهبي الآن إلى العرس
بجسدٍ نظيفٍ من اللهاث..،
ولا تبالي بمن سالت رغبته تحت قدميك
أنتِ الآن أجمل.. وأجمل
والرجلُ العجوزُ يجلس جنب الهاتف مكتئبا
في انتظار قطة تموء له
والفارس الذي لا يشبه أباكِ
صدَّق أنه صورة طبق الأصل من أبيك،
وأنكِ خائفةٌ من سكين الذبح
وزغاريد الأهل في الصباح
هنا تُطوى صفحة
وتبدأ أخرى
هنا تبدأ إيقاعات الكَذَبة
صدقيني كلهم يكذبون
وأنتِ وحدكِ الحقيقة
فابتسمي للكاميرا!
***
ربما
أبانا الذي في الشوارع
منحت امرأةً واحدة كل هذا الجمال
ومنحتنا وحدَنا كل هذا القبح
فانكشفنا كصرخةِ يُتْمٍ
فوق قبرٍ فقير
قلت لنا: إنها امرأةٌ
تدخل الحياة بقليل من البهجةِ
فلا تقربوا
واقتربنا
كنا خارجين من الهواء النظيف
صوبَ الأحياء العطنة،
ظهرنا مكشوف كالريح
وقطارنا هارب بجريمةٍ كاملةٍ
قلت لنا: ادخلوا
ودخلنا
كانت أحذية العسكر تدوس أحلامَنا
وتحشو رءوسنا بقنابل الدخان
قالوا: ارجعوا
فرجعنا!
هل تُراك قايضتنا بحفنةٍ من لصوص؟!
أبانا
الفئرانُ في الساحات، تحت الكباري،
في المقاهي والأزقة
في مبنى الرئاسة ووزارة الدفاع..
والجثثُ تملأ العرباتِ الفارهة
هل ترى؟!
الطاعون في عيوننا
تحت جلودنا
قلت: إنه الحصار
قلنا: أعدنا إلى أمهاتنا
فلم تدلنا يداك على الطريق
رائحة الحرب
كانت تزكم ميدان التحرير،
والمظاهراتُ تمنع عاشقين
من الوصول إلى الحب،
والجغرافيا
تبدأ الآن من نشيج امرأة
محبوسةٍ في “عصفور الجنة”
فلماذا أرشدت أقدامنا إلى تلك المسافة
بين سرير للجنس
وهتافات تُسْقِطُ الحكامَ
الذين ترهلوا في مقاعدهم؟!
أكان لابد أن نؤرق امرأةً
تخطو نحو الماضي
طائعةً كالماء،
وناعمةً كالسكين؟!
أهديناها:
تصبحين على حب،
وأهدتنا: قلبي مغلقٌ على جثةٍ باردةٍ
ورجل دافئٍ كالجراح
كل شيء لم يعد على ما يرام
انخدعنا
أليس كذلك؟
هذا صحيح:
المدينة تبدو كسيدةٍ مسنةٍ
خرجتْ من حربٍ خاسرةٍ
وفوق تل الجماجمِ المهزومة
كانت أحذيةُ العسكرِ تبتسمُ
في فراغٍٍ ساخرٍ
بينما الدماء تنْسرب من جلودنا
لتزين أجساد النسوة
اللاتي فتحنَ أعضاءهن للحب
فصرن أقبحَ من نكتة لم تضحِكْ أحداً
أبانا
هل أنت –فعلا– “أبانا”؟!
***
شيوعيون.. كنا
كنا شيوعيين
ننام على حلم الثورة في الشوارع
والأعلام الحمراء
فوق قصر الرئاسة..،
كنا نرى آباءنا
في الليالي الباردة
يجلسون جنب الجدار
وفي عيونهم شيء غامض
كالكراهية
فننظر بعيدا:
في الأفق حفاةٌ
يقطعون الطريق إلى شارع البورصة
يحتلون مبنى البرلمان
ويعلنون الثورة من التلفزيون
فيهرب رجال المال والأمن والسياسة
والفئران
من نوافذ القطار
وتهتف المظاهرات بأسمائنا..،
كنا نكره النساء
اللواتي يضعن “البارفان”
خلف آذانهن،
ويستحممن بالشامبو،
لأن واحدة منهن
نظرت إلى رفاقنا
المعتصمين حول الكعكة الحجرية
في ميدان التحرير 1972
وهتفت:
“سوف ينصرفون إذا البرد حلّ”
نحن كذابون
الحقيقة أننا لم نعرف طعم القبلة
من شفتين ملطختين بـ”الروج”
معنى يدين تمسحان عن رأسنا
قلق الوحشة،
كانت لنا غرفنا السرية عموما
ولم نكن نكرههن
كما ادعينا..
كنا طلابا في المدارس والجامعات
وشيوعيين أيضا
نهزأ بأصدقائنا
الذين ينتظرون نبيا
يأتي من زمن الستينات..،
وكان آباؤنا يروننا جميعا
عيالا خائبين،
أفسدتهم الكتب
غدا.. يصير بإمكان الواحد منا
أن يشتري قميصا
يشتري حريةً..،
غادرنا ديارنا،
تعرفنا إلى بيوت كثيرة
فارتحلنا من بيت إلى بيت
في انتظار الثورة..،
جلسنا على المقاهي
رقصنا” التانجو”:
خطوة للأمام
خطوتان للوراء،
دخَّنا السجائر الرخيصة،
كتبنا على أبواب المراحيض العمومية:
تحيا الثورة
التي تزحف نحو شارع البورصة
وتزرع الخراب في الفنادق الكبيرة..،
كان الطريق إلى قرانا طويلا
ونحن مصرون
أن نعود إليها جنرالات
تزين قمصاننا النياشين
فيعرف الآباء الجالسون
في الليالي الباردة
جنب الجدار
أننا لم نكن عيالا خائبين..،
انتظرنا..
ياما انتظرنا
لا الثورة جاءت
ولا اشترينا قميصا،
لكن شيئا غامضا
يطل من عيوننا
كأنه العدم
كأنه الموت !
***
على نحو لا يليق بقاطع طريق
(لا شيء في الأفق)
قال
ثم مشى
في اتجاه خرابه الروحي،
وكأن أبا ينهض من حكمته
يملأ قميصه بالفراشات
ويعيده إلى الغيمة الأولى..
كان يمشى على نحو لا يليق
بقاطع طريق
مطفأ العينين
(أنت أبي)
قال
واستدار
يدوس أربعين عاما من البطالة
من أوهمه بأن محطته الأخيرة بئر
على حافته تنمو أشجار
ويرعى ماعزٌ؟
فمشى في اتجاه الحقول
يدخن في صمت
لا يريد العودة إلى محطات
تتكرر
(أنا وحدي)
صرخ
ومضى غريبا
قاطع الطريق العجوز
يصدق نفسه كثيرا
قطع المسافة
من سرير طفولته الريفي
إلى مقعد الوظيفة في المؤسسة الباردة
بغير ساقين
ولم يكن هذا كافيا
حتى يفهم
أن أربعين عاما تسربت من يديه
وهو يراوح مكانه بين القتلة الصغار
إنه الآن أمام مقبرة
أعدوها لرأسه بالضبط.
(أنت أمي)
قال
ودفعه ملاك رحيم من ظهره
لينشغل مؤقتا عن الجحيم
الذي يشوي دمه
يرفع يديه أمام وجهه.
(كانت له عينان هنا)
بكى
لم يعد يرى غير خطاياه
تتمدد في عروق كفيه..
يتذكر:
(لم أكن عادلا في محبة أصدقائي
كل شيء كان يفسد سريعا
كانوا سيئين حقا)
إنه يكذب
لم تكن الصورة على هذا النحو أبدا
فقد ظل هاربا بقسوة مبررة
يصحو من النوم إلى الوظيفة مكرها
ويعود إلى البيت بلا أصدقاء
أو حتى أعداء
فقط
كان مثقلا بكراهية رؤسائه في العمل
وكان لابد أن يدخل النار
لأنه ظل يكرههم بلا سبب
رغم أنهم كانوا أقرب إلى ملائكة العذاب
كانوا ملائكة على أية حال.
(لا فرق بيننا)
قال
ولم يتعلم من أخطائه
فهو يصر مثلا
على أن يتحدث عن أولئك الرؤساء الطيبين
بشكل رديء
وينسى دائما أَنه قاطع طريق
وأنهم ليسوا فاسدين تماما
أمامه بضع ساعات
قبل أن يذوب جلده
ليكتب:
(وفري دموعك يا حبيبتي الصغيرة
غدا تحتاجينها
عندما يغضبك الزوج)
إنه يصرخ الآن
على نحو يليق بقاطع طريق متقاعد:
يا إله المنسيين
افتح نافذة واحدة
في قلب الليل
حتى أراك
يغفو
ويصحو
يكتب
عن الأصدقاء القتلة
ورؤساء العمل الفاسدين فعلا
ثم يسقط
نوارةً ذابلة
ضمها الطين
كاقتراح أخير!
***
كان الفيلم رديئا فعلا!
في الشارع
كانا وحيدين كإشارة المرور
كالحزن..
وكأن غريبين التقيا صدفة
أمام بار قديم
في وسط المدينة
بينما مذياع شرطي فقير
كان يغني:
(لما الشتا يدق البيبان) (*)
كنت تبحثين عن حذاء الأميرة
في الأسطورة القديمة
وهو يضِّيع وجهه في “نيون” الإعلانات
في المطاعم
وهي تكنس خطوته الأخيرة
كان يغني:
(لما المطر يغسل شوارعنا القديمة
والحارات)
الحياة هناك إذن
جنب كورنيش المقطم
والنافورة العاطلة عن الكلام
والسنترال وهو يغلق بابه
على آخر برقيات العزاء والبهجة،
والفيلم رديئا كان:
يدك دافئة.. باردة.. دافئة
تبتسمين
فيمضي وحيدا كالفجيعة
وتغيبين في البرد والظلام..
يجلس قرب الهاتف
صوتكِ لا يأتي
فيذهب في اتجاه الموسيقي:
(خريف نادانا والشجر دبلان
بردانة كنت.. وكنت أنا بردان)
ويعود
– النمرة غلط
الحياة هناك إذن
في الأوبرا
وحفلات الجاز كاملة العدد
في الهناجر
وفنجان القهوة المقلوب على قراءة لم تحدث
في منتصف كوبري قصر النيل
أو أعلى برج الجزيرة
في “الكوفي شوب”
أو في مبنى الأهرام القديم
في سماعة الهاتف:
(كنا طفولة حب لسه في أوله)
والفيلم..
كان رديئا حقا
ولا أحد هنا.. أو هناك
وحده الليل
فلاح عجوز
يخرج من أغاني الحطابين في الغابات
ومن مزارع الدلتا البعيدة
يهذي في زاوية مضيئة
فيقذفه الصبية بالحجارة والنعاس
وحده كان الليل
ساعي البريد النظيف
يتثاءب في أشعار “نيرودا”
وحنجرة “جوليا بطرس”..
وفي الصباح
يقطع التذاكر للنساء
في عربات القطار الكئيبة
ويقود مظاهرة في الحمام..
وفي المساء يجمع السكارى
حول زجاجة خمر رديئة
يحصى هزائمه
ويبعث الرسائل لحبيبة
من ثلج ونار:
(لكني باحتاج لك ساعات)
كان الفيلم رديئا جدا
صوتِك متعب
لا تختبئي في الحكاية
لا تهربي في البكاء
فالملائكة تصلى لأجلنا
وتلبس السواد
ونحن نعرف
أن النهايات كاذبة
أن البدايات خادعة
(تتصوري
رغم إننا شايفين طريقنا بينتهي
تتصوري
لا عمري هاقدر ع الفراق
ولا انت عمرك تقدري)
اثنان التقيا صدفة
أمام بار قديم
هل تصدقين..
كان الفيلم رديئا فعلا؟!
هل.. ..؟
***
مر اللصوص من هنا
جئت..
لأمر من هنا
سحابة عجوزا.. مطرا شحيحا
ينز فوق حقولك الخضراء..
وليس اختيارا..
أن أكون ومضة معتمة
كزهو الكتابة بالسواد
فهكذا جئت..
وهكذا سأقول: أحبك
كانت الريح تزيح “الإيشارب” عن رأسك
ثم تموت كمدا
ساعتها تراجعتُ
حين تحدثتِ عن سماجة موظفي الاستعلامات
بينما تذيبين قطعتي سكر في فنجاني
بهمة عاشقة
وعينين واسعتين كموسيقي الجاز
كان “جروبي” هادئا
قلت: أعترف.
وما اعترفت
قلت:
مر اللصوص من هنا
والخونة
والمرتشون
في الطريق إلى البورصة
فماذا فعلت بيديَّ المفرودتين
كشراع بليد يخاصمه الهواء
ولا يحب الأرض
كنتِ مشغولة بجرحك القديم،
وضميرك الذي يعمل كبندول ممل
وأنا أعالج قلبي من جرح جديد..
ينبغي إذن أن تبكى على صدري
حتى تشعري بحنان أصابعي
وربما اعترفتُ
ليديك الساديتين:
رؤسائي في العمل لا يحبونني،
وتجربة خائبة في العشق
تركتك كخرابة
تبحث فيها القطط عن ماض يعذبها
وأنا أدير ظهري
لساعة الميدان منذ خمس ساعات..،
ووجهك المدور في النهار
قريب من وجوه القتلة الطيبين
وفي الليل رائق كبئر
يطل منها القمر
وجهك هذا
خانني مرتين
مرة بالصمت
ومرة..
حين انزويتِ في غرفة تدخنين سجائرك،
يا الوردة التي تفتحتْ جريئة
على مرمى يدي
إلى متى يدوخني وجهك
حين أبص على حزنك
وأنت تروين النكات البذيئة
وتقضين ليلتكِ
قرب الهاتف
وشباكك مفتوح على سماء
لا تجدي معها المهدئات
والله لن يظهر أبدا في أحلامك:
(سيرمي الله في النار، أولئك العيال
الذين لم تربهم أمهاتهم،
حين تحدثوا معنا بطريقة فظة،
تناسب سوقية أموال آبائهم،
الذين ستحقق الرقابة الإدارية معهم.. قريبا).
عودي إلى هاتفك
الذي لا يكف عن الثرثرة..
وأعيديني إلى قدمي
حتى ينبثق الماء من روحي
حين تشيرين إلى موتي.. فأصحو..)
ولست نبيا كما تزعمين
ولا أنت قديسة كما أزعم
يا خطيئة أخبئها في أوراقي
ولا أستطيع الكتابة إلا رمزا
(هل قال البحر للرمال يوما: أحبك،
وهو يعرف ما من موجة
انفكت من أسره
إلا وماتت على قدميها).
أنا الغيمة العجوز
انصرفتُ ثقيلا كالفضيحة
واختبأت وراء:
مر اللصوص من هنا
والخونة
والمرتشون
في الطريق إلى البورصة
وما اعترفت!
***
تشبهين وردة بيضاء صغيرة
تشبهين وردة بيضاء صغيرة
في شارع الجلاء
أيتها الغائبة
لا..
تشبهين الوحيدةَ في شقة
ترى النيل من زاوية
وتقول للهواء:
الغريبةُ للغريب ظلٌّ وأهلٌ..،
شَعركِ الطويل في الصور الفوتوغرافية
كأنه ملاءة
تبحث عن غريق
أفْلت من الموت
أنتِ لا تعرفين:
المنتحرون وحدهم
يدخنون ثلاث علب سجائر في اليوم
ويذهبون إلى الصحارى
بخطى مجروحة بالصمت
ولا يعودون
تشبهين وردة بيضاء صغيرة
في شارع الجلاء
أيتها الغائبة
بل تشبهين مواعيد لا تأتي
حسنا.. أنت نائمة
وكأنك لم تجربي النوم من قبل؟
هل عدتِ؟!
يدي تقول: لا
وشعرك المفرود على الوسادة حزينا
يقول: لا
والسيارة الدبلوماسية
التي انتظرتك
وأنت تخرجين
كقصيدة عمودية
من صالة كبار الزوار
ليست دليلا..،
هل تسمعين لهاث الحوائط
وهى تصغي إلى جسدك الجميل
حين تتحركين في ملل
من حجرة النوم إلى المكتبة؟!
المكتبة التي تركتِ بين رفوفها
سنوات عمركِ
في حراسة الموتى..،
جميلة تلك الحوائط
وهى تشبه قصيدة نثر جائعة
إلى موسيقي جسمك النائم
أيتها الجميلة
هل سمعتِ شيئا؟!
هل رأيتِ؟!
أنت إذن لم تعودي
فلا هواتف الأصدقاء التي لا ترد
ولا ملابسكِ التي ينتظرها حبل الغسيل
بشوق المحبين،
تؤكد أنكِ هنا..،
انظري في المرآة
هل تشبهين وردة بيضاء صغيرة
في شارع الجلاء؟!
أيتها الغريبة
أنت لا تشبهين سوى غيمة
أمطرتْ فوق الرمال
وعادت في آخر الليل
إلى سرير هَدَّه التعبُ
فنام
أنتِ يا من كنتِ للمسافر جملةَ:
“من تنتظر.. الآن وصلتْ”
وردة بيضاء صغيرة
لا تشبهين
وليس يكفي
أن تمنحي الغريب
قطعة شيكولاتة في الزحام
ثم تقولي له:
“يدكَ أكثر لطفا منكَ”
فقط
عودي إلى البيت
ولا تدعي هاتفكِ يكف عن الكلام
وامنحي الحوائط بعضا
من ذكريات التلصص
على أنفاسكِ النائمة
عندئذ
قد تشبهين
– أيتها الغائبة –
وردة بيضاء صغيرة
في شارع الجلاء!
***
حارس الفنار العجوز
هو لا يشبهُني
إنه مجردُ حارس فنار عجوز
وأنا لستُ صانعَ أقنعة
ولا أذكرُ أنني حلمت منذ عشرينَ عاماً،
ولم تظهرْ لي امرأةٌ
تصطاد السحبَ من السماء
أو ترعى حيواناتٍ في مزرعةٍ نائية
كان الرجلُ الذي لا يشبهني
يعالج ضعفَ البصر
بالنظرِ إلى أسفل
ويحملُ فوق ظهرِه
مستنقعاتٍ قطعها وحيداً..،
بالأمسِ كان مع امرأةٍ
تنام في غرفةٍ قاتمةٍ
أشارت إلى فنار يحرس الظلام
وتساءلت: لماذا لا تظهر السفن؟!
قال لها الرجل الذي يعالج ضعف البصر
بالنظرِ إلى أسفل:
لأنَّ الشواطئَ هجرها الحنين
والأرواح التي تبحث عن أجسامٍ ترتديها
تركتْ جسمَك الجميل هكذا:
قصراً تحيطُه القضبان
فيقف العابرون على أعتابه
برعشةٍ تشبه اللذة..،
قالتْ: تزوجت منذ عامين
وسريري باردٌ،
وجسمي
يوشكُ أن يفتكَ بي
كلما اقتربتُ منه
في زوايا الغرفة المعتمة
حكى لها الرجلُ الذي يعالجُ ضعفَ البصر
بالنظرِ إلى أسفل
عن واحدة تبتني سوراً
حول مزرعة ترعى فيها الحيوانات،
عن واحدةٍ
تخاصمُ القمرَ الذي اختلس من شفتيها
قبلةً تحت المطر،
حكى لها:
لا السورُ اكتمل
ولا الحيواناتُ امتنعتْ عن التفكير
في مراعٍ
تراودُها كخيالاتٍ غائمة،
خمسة وأربعون عاما
من ترويضِ الجوع،
والعربةُ الذهبية
صارت بيتاً للبكاء
عبرتْ سحابةٌ بركانيةٌ
التقطتْ لها صورةً
لم تأتِ كما تريد!
قال لها الرجلُ الذي يعالج ضعفَ البصر
بالنظرِ إلى أسفل:
لأنكِ تأخرتِ في اصطيادِ اللحظة،
تعلقتِ بسحابةٍ
أمطرتْ منذ قليل
فوقَ عاشقين صغيرين
في مكانٍ قريبٍ من عينيك
قالتْ: جسمي يكاد يفتك بي
واختياراتي غلطْ
لا تقتربْ!
ولا تتركني وحيدةً
كمزرعةٍ ترعى فيها الحيوانات
ادخلْ حديقتي
لا تكنْ عنيفاً هكذا،
هل يرانا الله؟
في تلك اللحظةِ
كان الرجلُ الذي يعالجُ ضعفَ البصر
بالنظرِ إلى أسفل
وحيداً في الظلام
أمام فنارٍ هجرته السفن،
فقط
كان يمسحُ قطرات المطر
التي تسربتْ إلى نظارته الطبية
قال: غدا سأذهبُ للطبيب،
وراحَ في نومٍ ثقيل
أنا على يقين
من أنَّني لا أُشبهُه
فهو مجرد حارسِ فنارٍ عجوز
يؤنسُ وحشتَه
باختراعِ نساءٍ لهن أجسادٌ جميلة!
***
حبيبتي المستحيلة
.. وأعرف أنك تخونينني
تمنحين هاتفك الجوال
لمن يبتسمون لك
في محال الوجبات السريعة،
وفي غرف “الدردشة”
نعم
في”المولات” كل شيء متاح:
الملابس الداخلية والإكسسوارات
والرجال والأحذية
كنت تنامين معي
وتخطئين في اسمي
كما يليق بامرأة
تغير لون عينيها: أزرق- أخضر
فنامي جيدا
أيتها القطة الرمادية
أو لا تنامي
هناك ليل ينتظرك
وعلى إيقاع الضحكات الماجنة
تتزاحم على سلالم الجيران
القطط التي يقتلها المواء والشبق،
لا تفكري في الموت بجدية
فأقراص المهدئات والشِّفرات الصدئة
اقرب إليك من مقبرة في الخلاء
أو موعد غرامي
كنتِ جميلة
بشكل لم أحتمله
وكنت أحبك
يا حبيبتي المستحيلة
وكان لابد أن تخوني
من قضيتِ الليل ساهرة
لأجله
ولأجله أيضا
كدت تموتين
بالغاز ثلاث مرات!
***
الحنين.. يا “زاهية” الحنين !
كبرتُ بما يكفي
لأعرف الحنين.. يا زاهية..،
وصرتِ امرأة عجوزا
لا يطرق بابكِ أحد،
ليتني احتفظت بصورتك
وأنت تجلسين على “الكنبة”
وشعرك الأسود القصير
يطل على استحياء،
وتحت جلبابك البيتي
تنام مشمشتان،
كانتا مستديرتين
كأن بشرا لم يمسسهما
تغيرتِ كثيرا
تغيرتُ كثيرا
مِتُّ لدرجة أنك لن تعرفيني،
فهنا يضيئون الشموع ليلا
لأن رجالا أغبياء
مزقوا ملابس امرأة..،
كم عدد الرجال
الذين مزقوا ملابسك.. يا مسكينة
ثم تركوا غرفتك القبيحة
بعد أن منحتهم
البهجة والرجولة
ياه
خمسة عشر
عاما من الغياب
هزمتْ وجهك بالتأكيد
ولم يعد يزورك أحد،
حتى بناتك اللواتي علمتِ أجسادهن
كيف يهبن السعادة للعابرين،
يزرنك في المواسم فقط،
وأنتِ لستِ غاضبة منهن،
ولا مني !
لأنك تعرفين
أني كبرت بما يكفي
لأعرف الحنين.. يا زاهي
في منزل صغير
في هذا المنزل الصغير
فتحنا الأبواب للغناء،
تركنا شجرة تطل من النوافذ،
مسحنا البلاط جيدا،
وأعدنا ترتيب الملابس في الدولاب،
غسلنا نبات الظل بالماء،
وأزلنا بيوت العنكبوت
في الأركان المعتمة
أجلسنا الشمس على المائدة،
كانت سعيدة
حكينا لها عن الموت
في منزل صغير
في بلاد بعيدة
فبكت
كان الهواء جديدا
والملاءات نظيفة
وقمر شحيح يضيء الوجوه،
نمنا بعمق
وكأننا لم نجرب النوم لمرة واحدة..،
وفي الصباح صحونا
الدماء في أكفنا
ورائحة العفن في أجسادنا
من أين جاءت كل هذه الجثث
لتحتل الغرف المكتظة بالحياة
وتتركنا في الخلاء
لا بيت لنا!
***
* ( لما الشتا يدق البيبان) أغنية لعلي الحجار