قعدتْ، تمسح التراب عن وجهها وأثر السواد، وأمسكت عصاً تتابع خطاً على الأرض يمشي بصعوبة بين كومة أحجار ثقيلة شكّلها فتات المنزل، فتدفعها في سهو وإصرار بكل ما للعصا من قوة. بيدها الأخرى غصن نعناع أخضر طري أكثر حياة من كل ما حولها. أقدامها مشققة، شفتاها جافتان، ولو سقيتها ما بلَّ عطشها شيء. لا تنظر في وجهك، وتبقى في متابعة الخط الذي لا يسير إلى أي شيء. حتى صوت المدفعية والقنابل المتسارعة من بعيد لا يحرك صمتها ولا يزيد تجاعيد وجهها انكماشاً، وإن كانت تعلم جيداً أنه لن يفوتها.
تريدُ أن تسألها وأنتَ على حذر من أن تجرحها، لأن سؤالاً منك قد يعطل قدرتها على الوقوف بصلابة وعصا وخط يسير على الأرض أمام بشاعة الموقف وحقيقته. وقبل أن تسألها تجيبك بهدوء تعرف من خلاله أنها قد قالت الحكاية كثيراً في وقت وجيز:” كان ابني في الدار بيسوي لي شاي بالنعناع. كتلوه قبل ما يكمل. كصفوا البيت. مات ما بيعرف ليش.”
نعم تتذكر، قد قالت هذا للمذيع المتعجل في إلقاء الخبر على مسامع مشاهدين لن يغير الخبر أو عدمه في واقعهم. قالته للإسعاف وهو يشرح لها وقد ضاق ذرعاً فشله في انتزاع إبنها من الموت. قالته لكل واحدة من النساء الباكيات حولها المتحدات بفواجع أخرى أصابتهن. قالته لأصدقاء ابنها عندما مروا من أمامها جرحى وقتلى. قالته لبنت إبنها التي تمنت لو أنها ماتت بدلاً عن والدها. قالته للمارين خلف رائحة الموت المنبعثة من الأجساد التي ما عادت تنفعها النجدة. قالته لبقايا منزلها الذي تحول أمام بصرها إلى حفنة أحجار تمرر عصاً نحيلة من بينها. قالته للقنابل الماطرة فوقها والقادمة نحوها دون أن تصيبها.
وتشعر بها غاضبة إذ يفوتها الأجل إلى هذا الحد.
تطالع النعناع: ” مات ما بيعرف ليش..”