شعر ونثر

شتاء ثقيل وامرأة خفيفة

زياد خداش - انزياحات
زياد خداش - انزياحات

لماذا أتكسر بداية كل شتاء؟ اتكسر حد الانزواء والخرس والتعب، و لكن ما ان أتخطى بوابة الشتاء، وأمشي هناك ذائبا في المطر والوحل والضباب والريح و ندف الثلج الناعم حتى اتجاوز خرسي وتعبي واسترجع كل طفولتي المجروحة معيدا ترميمها و بعثها من جديد من تحت انقاض جزيرة فارغة اسمها الصيف، أنفض عن كتفي رائحة الصيف وذبابه وغبرته وضجيجه وأمضي مفتوح العينين و مبلللا باتجاه عين العاصفة، أسوأ الاحاسيس وأشدها ايلاما تلك التي تأتيني فجاة، حين اشم رائحة الصيف في فصل الشتاء، احس حينذاك أن ثمة خيانة ما او اثم او خطيئة او مؤامرة، او تشوه خلقي، فقط امرأة خفيفة وشتاء ثقيل وروايات يابانية جديدة، من يستطيع أن ينسيني تخرصات واهانات الصيف الفائت ؟ امرأة شتوية تسافر في الصيف وتعود في الشتاء محملة بكتب وشموع ونار جديدة وطاقة متجددة على الضحك والرقص الليليين، هل الصيف يكره الكتب والموسيقى والرقص؟ ، هل الشتاء شاعر والصيف رجل أعمال ،؟ المطر دفء والصيف برد؟ هل العواصف صلاة ملائكة ،؟ أم هي شكل من اشكال السلام او الحرب الغريبين بينها وبين الجبال؟ في الشتاء احب اصدقائي أكثر، أستوعب ما أقرأ بشكل أعمق ، وأكف عن الغيرة من أصدقاء صديقتي، أكتب نصوصي بصدق أشد، في الشتاء اقترب من الله ومن نفسي ومن اسئلة الوطن والموت والحب.

في الشتاء يبدو الجندي الاسرائيلي المحتل في بلادنا رجلا بائسا وحيدا وحائرا، يتخبط في الوحل والخوف والريح، فأشفق عليه وأكاد ابتسم له او أعيره مظلتي، في الصيف امضي الوقت كله في التفكير بطريقة لقتل ناموسة لا تفارق فضاء اذني . ليس الشتاء فصلا بنظري او وقتا عابرا ، او او مطرا ، انه داخلنا حين يفيض الى خارجه ، طاقتنا حين تقفز قفزة كنغر في زيارة مفاجئة وليست أخيرة أبدا للضوء والهواء والبشر ، لنتأملها أونوقظها فينا وتوقظنا فيها ، انه معبر متسامح وطيب يمد لنا جسده لنمشي بأمان الى طزاجة أشيائنا وحقائقنا وأحساسينا وعذرية طفولتنا . ليس الشتاء زمنا فحسب انه مكان ايضا ، ووجهة نظر وقصيدة ووطن وانتماء وحنين ومخاوف جميلة . امرأة خفيفة بحقائب ثقيلة تخبيء في احداها شتاء ثقيلا بعاصفتين وثلجة واحدة عنيفة ، امرأة من مطر اقتحامي تدخل المنزل خفية لتفاجئي بينما أنا في الخارج تبعثر كتبي في الانحاء ، وتعيد انتاج فوضاي بفوضاها الانثوية المبهرة ، وتشتت وعي ستارتي العجوز الكالحة القديمة لتجدد فيها الذاكرة وتنعش حس التلصص والوقاحة الحلوة في طياتها . هذا ما احتاجه الان لأكتب أتمدد في كل الامكنة ، وأعبر الى البرزخ الاخير ، في فلسطين يبدو الشتاء دائما لي وطنا داخل وطن اقامة فاتنة في خاصرة الموسيقى الخفية ، تبدو فلسطين ، رام الله تحديدا بلا احتلال فجأة ، كأنه اعتذر عن مجازره ورحل ، مخلفا وراءه بقايا ندم وبقايا معلبات و دبابات ،و ابتسامات واسئلة وحكايات ضباط عانوا من عجز في فهم سر صمود القديمة حول بيوت الفلسطينين ، تلك التي بناها أجدادنا بصبر نمل ودقة معلم رياضيات ، أين هم الاسرائيليون ؟ كأن الاحتلال لم يكن أصلا ، كأنه حلم كابوسي متواصل في ذهن مدرس تاريخ فلسطيني قديم عاش أيام الانتداب البريطاني وحذر من هجرات اليهود مرتعبا من قدومهم ودارسا خططهم ونواياهم ، هذا ما يفعله الشتاء في فلسطين بي يأتيني بأجمل النساء وأغربهن ويرحل المحتلين . يا شتاء بلادي : أبق هنا ارجوك . لتبقى صديقتي ويظل المحتلون يرتحلون.