تعيد انزياحات نشر هذا البيان الشعري الجريء الذي نشر من قبل جماعة الريح جماعة الغبار مطلع تسعينات القرن الماضي والذي أسس لخروج شعري مغاير يحتج ويتمرد على الأنماط والمفاهيم الشعرية السائدة.
هذا البيان يمثل وثيقة هامة ترصد أهم تحولات الشعرية اليمنية الحديثة.
يستحق البيان التذكير به لأنه مثل صرخة عارمة لأسماء شعرية يمنية حرة قذفت بكل الادانات والأسئلة
وانتمت للريح والغبار في ظاهرة احتجاجية أمام الجميع من شعراء ونقاد وجمهور.
***
بيان الكآبة، بيان الرعب
“المستقبل للفئران، لقد انتهت الحضارة،
وزحفت الفئران إلى الشوارع”
من فيلم (وداعا أيها القرد)
للمخرج الإيطالي “ماركوفيريري”
لا ننحدر من أرومة عريقة أو سلالة زرقاء، ولا نتكئ على سلطة أو قبيلة. فقط ، نتكئ على عصا الشعر وعكاز النثر، ونرفع راية الحلم – الكابوس والأحلام النبيلة.
نحن جماعة الريح. جماعة الكتاب المتروكين في العراء القارس للكتابة، المكشوفين لرياح الجهات الأربع وصقيع الحرية. نعلن أن الكتابة سلطتنا ولا سلطة لنا أو علينا. إن الهذيان معجزتنا. وليس لدينا ما نقدمه سوى بيان الكآبة. باسم هذا الوطن الآيل للخراب . نعتنق فلسفة الخراب العظيم. ونقترف الشك في جميع المبادئ العظيمة. لسنا حزبا، ولسنا ضد الأحزاب. فقط، نحن ضد أن يتحول الكاتب ، الشاعر، الفنان، المبدع إلى ذبابة في أذن الحزب و أنف السلطة. ضد هذا الوباء الذي يشوه الكتاب المبدعين و الشعراء الموهوبين، ويمسخهم بهيئة حزبيين متحمسين للآفات و الزعماء. أو بهيئة مسئولين يتثاءبون في المكاتب الفخمة على الكراسي. ويتجشئون القصائد و الخطابات في المناسبات الوطنية ومهرجانات الكلام.
نحن جماعة الريح. أو جماعة الغبار، لا فرق. لسنا من هؤلاء الذين يقيسون الفضاء بالقفص أو الجدار، الزمن بالحبل أو بالسوط. ولا من أولئك الذين ينسحرون بدفء الانضمام إلى القطيع و استنشاق هواء الحضائر الساخن وبخار السراديب. أبدا، لسنا كفئران الأنابيب. ولا نمتلك جرأة الخوارج، لكننا عاجزون عن التكيف مع هذا الركام الهائل من الزيف و العقم و الادعاء. عن التأقلم مع “ما هو مقولب ومعلب ومهين للذكاء”. وجدنا في هذا العراء القارس للكتابة. نرتجف من الوحدة و الرعب و اللا أمان. ونشعر ألا مكان لنا في سباق الفئران، ألا مستقبل للمثقف الفنان المبدع، للثقافة و الأدب و الفن و الإبداع في هذا المكان الموبوء بالكراسي و الدكاكين و المكاتب و السيارات، بالشرطة و الزعماء و البراميل، بالوزراء العاملين و المتقاعدين، بالخردة و النفايات و الأحزاب المعلبة، بالمنظرين و ناطحات الغبار، بشجر القات العاهات وشجر الأيدي المقطوعة في الساعات و الميادين. إن وطنا بلا كتاب ولا مبدعين وطن بلا مستقبل ولا ضمير ولا أخلاق. نحن جماعة الريح و الغبار، جماعة الكتاب المكتئبين و المذعورين منم المستقبل. نعلن بيان الكآبة .. بيان الرعب. وندين باسم هذا الوطن الآيل للخراب كل الذين يتآمرون على مستقبل الثقافة و الإبداع. ندين هذا العدوان السافر على المواهب الشابة ونرفع أصابع احتجاجنا على كل هذه الأحزاب التي تمارس إغواء الموهوبين من الشباب وتستدرجهم إلى أقفاصها الحزبية.
لا ندعي أننا الأكثر وعيا و الأقل تفاهة. فقط، نحن الأكثر رعبا و الأشد كآبة. في نظرنا أن الكتابة تحت أية مظلة خيانة. و الكاتب خائن حين يتملق سلطة أخرى غير سلطة الكتابة – سلطة ضميره كانسان وسلطة خياله كمبدع – الكاتب إما أن يخلص للحزب أو للحلم، للقفص أو للأفق.
وقديما قال الأسلاف : أن من يركب فرسين يشق دبره. وان كل عبد هالك لا محالة حين بتصور أن بمقدوره أن يخلص لسيدين في وقت واحد. نحن جماعة الريح جماعة الغبار، نرفع راية استقلال المبدع عاليا. ونستنكر هذا السقوط المدوي و المروع للكتاب و المثقفين. لسنا نسورا ، ولكننا نرفض أن نقوم بدور الغربان أو دور الحمام الزاجل. وضد هذا الاستقطاب و الاصطياد المتبادل بين السلطة و الأحزاب وبين الكتاب و المثقفين:
حزب يصطاد شاعر في المساء بزجاجة.
شاعر يصطاد حزبا في الصباح بقصيدة.
سلطة تصطاد مثقفا بنصف كرسي.
كاتب يصطاد مقعدا بمقالة.
ويبدأ الطرفين نفاق متبادل، بين شاعر الحزب و حزب الشاعر، بين المثقف و نصف الكرسي، وبين المقعد و الكاتب. نفاق يتراكم بعضه فوق بعض. ويتحول مع الزمن إلى حائط صلب من الدجل و الوقاحة باسم المبادئ العظيمة و الانتماء العظيم. باسم الوطن و الثورة ومبادئ أخرى. وأحيانا باسم الإبداع و الحرية و التقدم.
لسنا ضد أحد. نحن ضد أنفسنا وتفاهتنا، وضد ما يحيط بنا من تفاهة وزيف و خواء. “لا نزعم أننا قادرون أو مؤهلون لأن نغير الواقع ونقلب الكون، وليست هذه مهمتنا، مهمتنا أن نصرخ أن نحتج، أن نشير إلى الخلل، أن نفضح، أن ندلي بشهادتنا و نمضي صامتين.. ربما أكثر حزنا من قبل” ربما أكثر رعبا و كآبة.
الكتابة شهادة ضد تفاهة العصر، وهي شهادة زور حين تصدر عن كاتب ملوث بالسل، الحزب، القبيلة، الطائفة، الأيديولوجيا لا تقبل شهادته ولا يمكن أن يكون شاهدا على عصره، الكاتب غير المصلب بهذه العاهات هو وحده الكاتب الحر وشهادته وحدها المقبولة.
نسأل : من سيشهد على كل هذه المهازل؟
و من هو المتسبب في هذا العجز الشعري الذي هو أكثر مدعاة للخزي من العجز الجنسي؟
من سيحتج ويفضح ويدين هذه المؤامرة المشتركة على الثقافة و الإبداع؟
نحن جماعة الريح و الغبار، جماعة الكتاب المصابين باليأس و القلق وحمى الشك وهستيريا الأسئلة. نفهم الحرية بأنها الانتماء للكل. الانتماء إلى روح الأمة ومبدعيها وليس إلى حزب عاجز وسلطة عابرة، مهما كانت المبررات وعظمة الغايات. الكاتب المبدع ما إن يضع نفسه وموهبته في خدمة أيديولوجيا، سلطة، حزب، قبيلة، طائفة، الخ ، حتى يتحول إلى جلاد مبدع. الجلاد المبدع يبدأ بجلد ذات، يخصي مخيلته كمبدع وضميره كانسان قبل أن يبدأ أو يفكر بمحاولة جلد وخصي غيره من المبدعين.
لا ندين أحدا، ولسنا بريئين. فقط، يغمرنا إحساس عارم بالألم ونحن نرى زملاءنا الكتاب و المثقفين يتزاحمون على الفتات أمام الدكاكين الحزبية. ويتنافسون في مباراة السقوط بحماس شديد.
يقولون لك : لست حزبيا، ذلك يعني أنك لست شيئا على الطلاق. ثم ينظرون إليك بازدراء شديد وربما بعداء أشد. لقد تحولوا إلى صيادين ، وتحولنا إلى أيائل مذعورة. ومأساتنا كأيائل أننا نصاد بالصفير و الغناء. أحدهم يطمئنك، يصفر لك ويغني، و الآخر يرشقك بالسهام.
نحن الكائنات المذعورة و المخلوقات المكتئبة. لا نؤمن بالإلهام، ولا نعترف بالعبقرية. الإلهام هو أن نكتب بصدق، و العبقرية هي أن نكتب ما لم يجرؤ الآخرون على كتابته.
جماعة الريح – جماعة الغبار
عبدالكريم الرازحي- محمد اللوزي- محمد حسين هيثم – أحمد ضيف الله العواضي- أحمد ناجي أحمد – عبدالوهاب المقالح