نبيل سبيع .. من رواد قصيدة النثر ذات الحساسية الجديدة
كتب رئيس التحرير
نبيل سبيع هو شاعر يمني معاصر يُعتبر من أبرز الأصوات الشعرية في اليمن والوطن العربي. يمتاز بقدرته الفائقة على التعبير عن الوجدان الإنساني والألم الوجودي بأسلوب يمزج بين البساطة والعُمق، مما يخلق نصوصًا شعريّة متفردة تعبر عن الحياة اليومية والتجارب الإنسانية بأسلوب شاعري مبدع.
وُلد نبيل سبيع عام 1978 م، ونشأ في بيئة ثقافية غنية أثرت على تكوينه الشعري والأدبي. تأثر منذ صغره بالأدب العربي الكلاسيكي والمعاصر، مما دفعه إلى خوض غمار الكتابة الشعرية وهو في سن مبكرة. خاض في التجريب الشعري وأبدع، وصدر له مجموعتان في كتاب واحد “هليكوبتر في غرفة” و”المشي ببال مغمض”. يعد حالياً لطباعة مجموعة شعرية جديدة.
والحال أن نبيل سبيع يعد صحفياً مرموقاً تعرض لمحاولة اغتيال بسبب آرائه المناهضة والمعارضة لنظام الاستبداد. حمى الله نبيل سبيع من موت محقق بعد 3 رصاصات في جسده. عولج في الأردن، ثم انتقل إلى مصر، ومن هناك ظل نبيل سبيع يكتب عن أحزان اليمنيين بسبب الانقلاب الحوثي الغاشم.
حاليًا هو نائب رئيس المركز الثقافي اليمني في القاهرة. أجزم أن قرار تعيينه في المنصب من القرارات القليلة التي عليها إجماع وطني. لا ينتمي نبيل سبيع إلى حزب، لكنه بمنزع ليبرالي يساري إذا جاز التوصيف.
يعد نبيل سبيع من رواد قصيدة النثر ذات الحساسية في اليمن، حيث استطاع أن يُضفي عليها نكهة يمنية خاصة، مستلهماً من التراث الشعبي والواقع الاجتماعي والثقافي لليمن. يتميز شعر نبيل بقدرته على المزج بين اللغة الشعرية البسيطة والعمق الفلسفي، حيث يستطيع بأسلوبه السلس والبديع أن يُلهم القارئ ويجعله يتأمل في معاني الحياة والموت، الفرح والحزن، الحب والفراق.
يتناول سبيع في قصائده موضوعات مختلفة، من الحب والغربة والحنين إلى الوطن، إلى الألم الإنساني والظروف الاجتماعية والسياسية الصعبة التي يعيشها اليمن. فيما يلي بعض المقتطفات الشعرية لنبل سبيع، والتي تعكس قدرته الفائقة على التعبير عن المشاعر الإنسانية بأسلوب شاعري مميز:
يعبر نبيل سبيع عن حالة من الحزن التي تلاحقه كأنها كائن حي، يرافقه في كل لحظة وكل مكان.. تلك التغريبة التي داخل تغريبة.
في قصائده ونصوصه أدناه، يستخدم سبيع صورة شاعرية مبتكرة ليعبر عن شعور الفقد والافتقاد، كما يصف كيف أن الإنسان عندما يحاول استجماع قوته يواجه كل نقاط ضعفه وضعف الأشياء المحيطة به، في تصوير بليغ لحالة الصراع الداخلي التي يعيشها الإنسان في محاولة لتحقيق القوة والصمود في مواجهة التحديات.
يستحق شعر نبيل سبيع أن يُعرف بشكل أكبر للجمهور اليمني والعربي، حيث يعكس هذا الشعر الحساسية الجديدة لقصيدة النثر اليمنية، ويعبر عن واقع الحياة اليومية في اليمن بأسلوب شاعري مميز. لقد استطاع سبيع أن يجعل من شعره مرآة تعكس حياة الإنسان بكل ما فيها من جمال وألم، حب وفراق، أمل ويأس.
نبيل سبيع شاعر يجسد بكلماته وروحه جمال الحياة وتعقيداتها، ويُعتبر من الشعراء الذين يساهمون في إثراء الأدب العربي الحديث بنصوصهم المبدعة والمليئة بالحياة.
تعتبر قصائد نبيل سبيع من الذخائر الشعرية التي تستحق التقدير والإعجاب، حيث إنها تعكس واقع الحياة اليمنية بصدق وشفافية، وتبرز الحساسية الجديدة لقصيدة النثر اليمنية. إن نبيل سبيع أحد أبرز الشعراء في هذا المجال، واستطاع من خلال شعره أن يترك بصمة مميزة في الأدب اليمني والعربي.
***
قصائد ونصوص للشاعر اليمني/ نبيل سبيع
(مختارات)
أحبُّكِ كل يوم
وإذا مرَّ يومٌ لا أحبُّكِ فيه
أُمسكُ به من قفاه
وأدورُ بهِ في المدينة:
يومُ مَنْ هذا؟!
أسألُ العابرين
والواقفين على ناصية الشارع في انتظار العبور
ورجال المرور
والجالسين على طاولات المقاهي:
يومُ من هذا؟!
أسألُ المقاعد الفارغة
وأعمدة النور
والأشجار
والعربات
التي تعبُرُ الشوارع محمَّلةً بالناس
واللاجدوى:
يومُ مَنْ هذا؟!
أسألُ المُشرَّدين الذين لم يتشرَّدوا
لأنَّ البيوت نسيتهم
بل القلوب
والمجانين الذين لم يُجَنُّوا
لأنهم أضاعوا وجوههم
بل وجوه من يحبُّون:
يومُ من هذا؟!
أسألُ الأيام
التي تمرُّ بلا توقُّف
ولا وِجهة
منذ ملايين السنين
وكأنها فقدتْ الذاكرة:
يومُ من هذا؟!
أسألُ الأبواب المغلقة
والنوافذ
والمرايا
والعشبَ القليل
الذي ينمو هنا وهناك على استحياء
وكأنهُ يقترفُ جريمة:
يومُ من هذا؟!
أسألُ حتى النسيان:
يومُ مَنْ هذا؟!
يومُ مَنْ هذا يا ذاكرةَ الجميع؟!
لكنْ، حتى النسيان
لا يتذكَّر وجه يومٍ
لم أحبكِ فيه
يومٌ لا أحبكِ فيه
ليس يومي
وليس يوماً حتى
يومٌ لا أحبُّكِ فيه
سأجرُّهُ من قفاه
الى خلف حياتي
وأُعدِمُهُ بصمت
وبكل راحةِ بال
وكأنهُ عدو
كل أيّامي
»»»
أيها الحزن!
لماذا لا تفارقني هذه الأيام؟!
أنتَ لستَ زوجتي
ولا حبيبتي
ولا صديقي حتى
لماذا تصرّ، إذن، على مرافقتي في كل لحظة
وكل مكان؟!
وكأنّك بلا عُمْرٍ ولا أماكن
سوى عُمرِي وأماكني!
»»»
البرد ليس طقساً
إنهُ شخصٌ غائب
تفتقدُهُ بشدِّة
وتشعر أنكَ بدونِه
مُجرَّد ملابس.
»»»
كلما حاول استجماع قواه،
تجمَّعتْ له كل نقاط ضعفه
وضَعْف كل الأشياء المحيطة به:
نقاط ضَعْف مداميك البيت
وضعف الجدران،
نقاط ضعف أعمدة الخرسانة
وضعف السقف،
نقاط ضعف الأبواب
وضعف النوافذ،
نقاط ضعف نهاراته
ولياليه،
نقاط ضعف ماضيه
وحاضره
ومستقبله،
نقاط ضعف أخوته
وأهله
وأصدقائه
وجيرانه،
نقاط ضعف عائلته
وسكان حيه
وكل من في المدينة
والشعب عن بكرة أبيه،
نقاط ضعف بيته
وشارعه
ومدينته
والبلد كله.
لقد رأيتُ كل هذا يحدث أمامي
رأيته بأمِّ عيني وهو يحاول استجماع قواه،
فتجمَّعت له نقاط ضَعْف كل الأشياء المحيطة به
حتى نقاط ضَعْف الضَعْف نفسه،
رأيتها تتدافع نحوه من كل حدبٍ وصوب
وتحيط به من كل جانب
حتى أخفته..
ولم ينتشله أحدٌ من تحتها حتى الآن.
لهذا، لا أريد تكرار خطئه:
لا أريد أن أستجمع قواي على الإطلاق
لماذا يتعيَّن عليَّ أن أستجمعَ قواي أصلاً؟
ليست لدي أية معركة في الخارج
ولا أحب خوض المعارك في الداخل
وقد قررت الإقلاع عن كل المعارك الجانبية
التي أخوضها من حينٍ لآخر
هنا وهناك
بدون سببٍ
ولا داعٍ
أنا رجلٌ عاقلٌ
أعقل من أن أُقْدِمَ
على إستجماع قواي لأي سببٍ من الأسباب
لكن، على المرء أن يكون مجنوناً أحياناً-
ولاسيما هذه الأيام-
ويستجمع قواه رغم أنف كل نقاط الضعف
التي تُغْرِقُ العالم.
»»»
عيوني مليئةٌ بالدموع
وقلبي مليءٌ بالراحلين
أين أذرفهم الآن يا عزيزتي؟
المناديل البيضاء متوفرة بكثرة
والأكفان البيضاء متوفرة هذه الأيام أكثر بكثير
ولكني لا أريد أن أذرفهم، هكذا،
في الأكفان والمناديل البيضاء الزائلة
لمجرد أنهم قرروا الرحيل.
مدِّي يدكِ الجميلة يا سيدتي
كي أذرفهم جميعاً فيها
فهم يستحقون كل الإحترام والتقدير.
»»»
جهة كل الجهات:
أحبكِ بدون إستئذان
أحبكِ بدون حدود،
ولا جغرافيا،
ولا معنى.
أحبك بدون زوايا،
ولا جهات،
ولا أماكن،
ولا زمن.
أحبك بلا نوافذ
ولا مرايا.
أحبك بدون كلمة
ولا معنى
يا كل كلمات الحب
ومعنى كل شيء
وجهة كل الجهات!
»»»
ما هذا الليلُ الدامِس!
ما هذه الأيامُ العرجاء!
ما كل هذا العمر، الذي يمر طول عمره،
بدون قدمين!
»»»
حين كانت الحياة لا تتطلَّب منا أكثر من وجود أمهاتنا
كانت حياتنا صغيرة
وطيبةَ القلب
لم تكن تتجوَّل هكذا في الأنحاء بحثًا عنا
بوجهٍ غاضب
وفي يدها هراوة
* * *
كنا أطفالًا صغارً
نستيقظ مع بزوغ الفجر
ونخرج إلى الحياة مبتسمين
لنملأها بالأجنحة والزقزقة
والفرح
مثل كل عصافير قريتنا
* * *
وكنا نعود إلى بيوتنا مع غروب الشمس
بدون إخفاقات تستحق الذكر
ولا جراح من ذلك النوع
الذي يترك ندوبًا على الروح
أكثر مما يترك على الجسد.
* * *
كنا نغرق في نوم عميق
بمجرد أن تمتد أيدي أمهاتنا إلى الفوانيس
لتطفئها
* * *
ولم نكن أصلًا بحاجة لضوء الفوانيس
لكي نتصالح مع الظلام
وننام بسلام
فقد كان لدينا على الدوام
ذلك الضوء الخافت والجميل
الذي كان ينبعث طوال الوقت
من قلوب أمهاتنا
* * *
كان النوم صديقنا
لأن اليقظة كانت صديقتنا أكثر
* * *
كنا ننام ببساطة
وكأن المسألة لا تتطلّب منا
أكثر من وجود الجفون
* * *
وكنا نستيقظ ببساطة أكبر
وكأن الحياة لا تتطلّب منا
أكثر من وجود أمهاتنا
* * *
كانت حياتنا هادئة وخافتة
وكأنها تحدثُ في السرِّ
* * *
كانت حياتنا جميلةً ورحيمة
وكأنها تحدثُ في قلوب أمهاتنا
بدلًا عن العالم.
»»»
رأيتُ بلداناً تبكي:
رأيتُ جبالاً ضخمة
وأحزاناً أضخم منها.
***
رأيتُ بيوتاً
وعماراتٍ
وناطحاتِ سحاب
ولكني رأيتُ خراباً
وناطحاتِ رمالٍ أكثر.
***
رأيتُ طرقاً تنسحبُ فجأةً
من تحت أقدامِ العابرين،
وعابرين يسيرون ويسيرون ويسيرون
بدون أنْ يصلوا إلى أيِّ مكان
أو يتزحزحوا من أماكنهم قيد أُنْمُلَة.
***
رأيتُ بيوتاً
تتسلَّلُ في الليل مغادرة
وتترك سكانها نائمين
بعد أن أدْمُوها كثيراً
بتبادل الجراح في ما بينهم.
***
رأيتُ مدناً
تهرب من سكانها تحت جنح الظلام
بسبب سوء المعاملة
وسكاناً يستيقظون في الصباح
ولا يجدون مدينتهم
فيقضون بقية حياتهم في العراء
دون أن يتذكّروا مدينتهم الراحلة
بكلمة.
***
رأيتُ شعوباً
ترمي بنفسها في البحر
هرباً من أوطانها
ورأيتُ بلداناً تبكي
وتدعو الله ليلَ نهار
أن يساعدها يوماً على الفرار
من أبنائها.