كتب – رئيس التحرير
تتشرف “انزياحات” بتقديم مختارات شعرية من أعمال الشاعر اليمني أحمد العرامي، الذي يعتبر من أعظم شعراء اليمن في العصر الحديث. تميز العرامي بحساسية فذة في قصيدة النثر، مما جعله شخصية مرموقة في الساحة الأدبية. يُعرف بتجربته الشعرية العميقة والمتنوعة، حيث يكتب في جميع الأشكال الشعرية، بما في ذلك الشعر الشعبي.
***
مكابدة مركبة
كان طلاب جامعة البيضاء ضد تكفير العرامي حين كان معيدًا في الجامعة إثر قراره تدريس رواية “حرمة” للروائي علي المقري، وكان تنظيم القاعدة قد أباح دمه.
أُجبر العرامي على النفي القسري لاحقًا إلى السويد بسبب موقفه المناهض للميليشيات الحوثية ورفضه لعودة الإمامة إلى اليمن. ورغم بُعده عن وطنه، لم تنطفئ شرارة الإبداع في قلبه، بل زادته الغربة تأملاً.
***
تميز شعري وبحثي
لا تقتصر إبداعات العرامي على الشعر فقط، بل يمتد تأثيره إلى مجال البحث والتحليل. كتابه “ديانة اليمنيين السرية” يُعد إسهاماً بارزاً في الدراسات اليمنية، ويظهر فيه العرامي كباحث مرموق.
كما أن له تحليلات وكتابات سياسية تعبر عن وعيه الشاعري والجمهوري.
***
قصائد تنبض بالحياة
تعكس قصائد العرامي معاناته كغريب في منفاه، وحبه العميق لليمن ولأمه، التي دائماً ما تذرف عينيه الدموع عندما يتذكرها. قصائده تحمل مزيجاً من الحزن والحنين، وتعبيراً عن الوحدة والغربة، وتعكس تجربة إنسانية عميقة.
بهذه المختارات الشعرية، نُظهر للقارئ العربي واليمني جزءًا من عوالم أحمد العرامي الشعرية، التي تتميز بحساسية عالية وتعبيرات إنسانية مؤثرة. نتمنى أن تلامس هذه القصائد قلوب القراء وتضيف لرصيد الشعر اليمني المعاصر بُعدًا جديدًا ومميزًا.
***
مختارات شعرية
نقدم هنا مجموعة من قصائده التي تعكس جماليات شعره وروحه المحبة:
(1)
ليتني مثل قلبك
رتبت آخرتي
مثلما انتبهت خطوتي للبداية،
لكنني آسف
هكذا مثل ما لم تقله
ومثل كل الذي قلته،
أتأمل موتك
موتي
وأسمع صوتي:
كيف استطعت الحياة إلى الآن
يا سيدي
كيف قفزت إلى الأبدية!
(2)
السويد جميلة مثلك
مثل مظلة تمطر
مثل شمس باردة
مثل نهر ينتظر الباص
مثل سحابة تقع في حفرة
أو ورطة
مثلي وأنا أحبك:
أذهب كل يوم إلى سيستم بلوجيت
أشتري صديقا
وأودع أغنية حزينة في حسابي.
(3)
موتي يتسع لي وحدي، تقولين لي،
وأنا لا أريد أن أوقظك،
ولا أنام بجوارك..
لكنها الوحدة-بعدك- يا أمي
هذه الوحدة
تتسع لاثنين.
(4)
أنا رجل وحزينٌ يا أمي
والرجولة تحاصرني والمجاز..
وأنا أريد أن أبكي..
أبكي مثل طفل، مثل امرأة، مثل إله حزين.
(5)
إنه فبراير يا أمي
أعرفه من ندبة في قلبي.
(6)
جثة مجهولة،
قبل أن تحاولوا التعرف عليها،
كان صاحبها قد حاول..
حاول
وحين لم يستطع
رمى بها من الشرفة.
(7)
لم يكن يرقص
كان جسده يرتجف
بينما يحاول
إيقاف نزيف الموسيقى.
(8)
الليلة رأيت أمي،
ابتسمت لي ووعدتني أنها لن تموت،
لم أعد أصدقها
كانت قد فعلت ذلك من قبل.
(9)
أنتم أبناء الله
موتوا شهداء كما تحبون،
أما أنا فسأموت
كأي حلمٍ
دهسته صحراء مسرعة..
كأي صعلوكٍ
مات وهو يلقن الأرصفة الشهادتين:
الشعر والموسيقى.
(10)
آخر رصاصةٍ في حوزةِ الحرب
ستقف حائرةً بين قاتلين،
هكذا يمكن للكلاب المشردة
شنق حزن الأمهات في الهواء.
(11)
الفتاة التي كانت تنفق الليل
تقرأ أفكاري على طريقة بريل
نامت وأغلقت الحلم على أصابعي!
(12)
العالم كله خراب
وأنا أرددُ اسمَكِ،
هذا كلُّ ما يمكنني فعله:
أحاول أن أصلحَ هذا المساء.
(13)
للهِ ضحكتُك الرشيقةُ!
كيفَ من سقفِ الندى
هبطتْ عليَّ!
وكيف في خجلِ الفراشةِ
صافحتْني،
طوقتْني
بالشذى،
مالتْ على شجني قليلاً،
ثم أَرْخَتْ
فوقَ قافيتي جديلتَها،
وقالتْ لي
عطوراً لا تُقالْ.
(14)
ليس لدي وقت
لتغير أي شيء أو الاعتراض عليه،
فأنا رجل دؤوب و طيب،
حتى أنني سأموت مبكرا
بسبب التدخين المفرط..
وهذا هو الشئ الجوهري الذي
يمكن القول أن لي يد فيه،
بالإضافة لأنني و بالنيابة عن كل أولئك
الذين دبروا لي هذه المكيدة
أشعر بالندم.
(15)
يوماً ما
ستغادرنا هذه الحرب
دون أن نلوّح لها وداعاً..
كيف نلوّح لها وداعاً
بأيادٍ مبتورة؟!
(16)
الصحفي:
يرى العالم على حافة الهاوية
فيصرخ “العالم على حافة الهاوية”
الشاعر:
يرى العالم على حافة الهاوية
فيدفعه من الخلف.
(17)
تستيقظ باكراً
لأنك لم تنم وحسب،
تلبس اسمك مقلوباً
وتخرج إلى
العالم،
تخرج بلا أحذيةٍ
وتعود بلا قدمين،
أنفقت أطفالك الطيبين
في البارِ
واستنفدتَ حتى يديك في الطرقات:
تدفع أجرة الباص
صديقا،
وتعطي الندم
اسم امرأة.
( 18)
معي شي انا قلبي معاك
ما معي في العنا غيرك سبب
ما معي في الحياة إلا هواك
ما معي من هواك الا التعب.
( 19)
أيها الصريح كقنفذ
عليك أن تفتح الماء للماء، وتبيح الكلمات للملائكة المغدورين، وتضع حداً للقمر المهزلة، وللغراب الفوضوي والعصافير التقليدية، والورود القادمة إلينا من الموروث الشعبي، أنت وحدك الآن فكن متفرداً وحزيناً وطويلاً كشجرةٍ بلا أقدام ولا فضاء، هذه هي اللغة التي كتبت عليك منذ كنت جنيناً في بطن الحيطة والحذر، وإلا فما معنى أن تتوسل إلى حبيبتك أن اكتميني، وتبيح نفسك للصعلكة والجنازير اللامرئية؟؟ ما معنى أن تنام وتترك رأسك كماسنجر نسيه صاحبه مفتوحاً ومضى؟؟ ما معنى أن تتوسدك الحقيقة وأنت تتوسد تفاحة مشطورةً إلى امرأتين؟؟ ما معنى أن تطل عليك بنت الجيران من شباك الشاعر العجوز، وأنت وحدك كمن أكل رغيفاً في السر، وباح بأربع قصائد للخريف الموسوي…؟؟
ما معنى الحجر؟؟
ما معنى النملة؟
ما معنى التفاحة؟؟
ما معنى أن يأكلك الشعر كما تأكل الغرغرينة أقدام السماء؟؟؟؟؟
ما معنى…؟
ما معنى أن ؟
ما معنى أنت؟
أيها الوحيد كلدغة طويييييييلة ومدورة، هاأنت تتقافز بين أيامك التي تتسرب منك تماماً، كبالونةٍ يتسرب منها الهواء، هاأنت تقفز من امرأةٍ إلى أخرى كما يقفز طالب كسول بين السطور.
أنت وحدك يا صديقي، من يحافظ على المساء من زرقته، وعلى الرياح من أي احتمالٍ آخر غير الهبوب، وعلى الصمت من ذر الرماد في عيون القصائد، أيها الصريح كقنفذ، والحزينُ كأغنيةٍ لم تلحن، و الحريري كلفتةٍ وقعتها “فلانة”، أعرف أنك لست حريقاً بما فيه الكفاية ليستوي الذين.. والذين لا…، ولكنك تصر على أن الغابة مكسوةٌ بالمهاجل والقصائد الملونة، والعصافير المخضرة كهزيمةٍ عذراء، أو كلوحة لسلفادور دالي مرسومة على صفائح الخردة،،،….رسمها المسكين ونسي توقيعه… فأضافه رجل المرور في قسيمته التي وضعها على زجاج السيارة الأمامي، وانصرف دون أن يلتفت إلى أحدٍ غيرك …ودون أن نلتفت لا أنا ولا أنت… رغم أننا سمعنا سوياً مواء القطة وهي تطل برأسها من نافذة (صور من بلادي).
( 20)
كانت الأرض مثل النبيذ مقشرةً
من أحاديثنا
من ثياب الملوك
وأحزانهم
ومن الناس..
كانت مقشرةً،
مثل تفاحةٍ سقطت
من غصون الغواية
ثم استقرتْ
على قرن أنثى
ودارتْ بنا ..وبنا
ثم درنا…
هي الأرض
تفاحةٌ سقطت
من يد امرأةٍ صافحتْ رجلاً
-بين قوسين-
صافحها رجلٌ
-بين قوسين-
هذي هي الأرض
تفاحةٌ سقطتْ
حبقٌ
قمرٌ ضيقٌ
ولغة .
***
في هذا السياق، يسعدنا أن نعلن أن الشاعر أحمد العرامي قد قدم لانزياحات مجموعة شعرية جديدة تحت الطبع كهدية. سنختار منها مختارات. هذا الإهداء يُعد إضافة قيمة للمختارات الشعرية التي نقدمها، ويمثل دليلاً على روح التعاون والإبداع المتبادل بين الشعراء ومنصات النشر الأدبي.
***
هدية العرامي لانزياحات
تميزات المجموعة الجديدة ..كسر الأصنام الشعرية حوله بمعاول الدهشة
نرى في انزياحات أن مجموعة العرامي الجديدة تميزت بالحفر الشعري، والشغف الشعري في آن.
قصائد مافوق إنسانية ،تذهب بعيدا في المعنى الجارف للدلالات، إلى حد الاعتقاد بأن أحمد العرامي قد خلقه الله من شعر مصفى، وليس من طين.
اننا نؤكد أن الشعر بالنسبة للعرامي هو خلاص الإنسان والعالم في آن. كل ما في الأمر أنه يسعى إلى تثمين لحظات الحياة بالشعر. لحظات من اللذة كأنها أبدية سيقضيها القارئ لهذه المختارات والمجموعة الهدية.
إن العرامي يحاول بالكتابة أن يخلد الشعر الحقيقي.
إن شعورية الشعرية لابد أن تسوقفكم.
إن العرامي لايتردد ابدا عن كسر الأصنام الشعرية حوله بمعاول الدهشة .
***
البكاء يجلس إلى جواري كالأم
أحبك يا أمي
ولكني لم أكن أحب
أن أُخرج صديقي من منزله في الثالثة فجراً
لأخبره أنني كتبت نصاً جديداً:
(أبغض الأمهات لأنهن يمتن).
****
إن ظلي يسبقني دائما يا أمي..
وإلا فلماذا كل هذه الأشواك والحجارة في الدرب؟!
إن مرآتي تطعنني من الخلف..
وإلا فلماذا كل هذه الزغاريد؟!
القهوة مظلمة في يد الصباح
والأطفال يبتكرون غياباً موازياً
لغيابك،
أو مرادفاً للوحشة،
الأرصفة غبية
والسماء تبدو كحذاءٍ مقلوبةٍ،
وأنا كوردة تسعل في الزحام
لا أحد يتنكر لي
لا أحد يعرفني
لا شجر في ذاكرتي
ولا فأس في الخريطة
لا شمس في يميني
ولا قمر لدى اليساريين
****
هكذا فجأةً يا أمي
تقع الشعوب في التناص
الشعوب (تريد إسقاط المطر)
وأنا أخشى أن تسقط السيجارة من بين أصابعي
فيما لو صافحني الله في سره،
أو تعثرت السيميائيات بقبر عابر
في القصيدة
قبل أن يملأ الغيب جيوبي برصاص المفارقات..
والحلوى المريضة
والبكاء..
البكاء يا أمي
يصعد من الأرض كالبخار،
البكاء يضع يدي بين يديه
ويمعن في تأويل الفقد
والكنايات،
البكاء يجلس إلى جواري كالأم.
***
البكاء يا أمي حرية
حرية أحدنا في أن يصبح اثنين في آن،
البكاء يا أمي حرية
حرية كالموت،
البكاء يا أمي حرية
حرية كاليتم،
وهأنذا أصبحت حراً
حراً من انتظارك،
حراً من خوفك علي
حراً من خوفي عليك
حراً من أسئلة الحليب
حراً من حليب الأسئلة،
حراً كسحابةٍ ملقاةٍ في الخارج
حراً كالندم
حراً ككلبٍ تحت المطر
حراً كأصبعٍ مبتورةٍ
لا حملها صاحبها في جيبه
ولا هي التأمت مع الصخرة
***
أحدنا هو الآخر
أحدنا كان الآخر إلا قليلاً
ثم صار أحدَنا تماماً،
وأحدنا هذا غريبٌ وماكر
يسأله الآخر
وأحدُنا لا يجيب
يسير الآخر إلى نفسه
وأحدُنا رصيف،
يمدُّ أحدُنا يده للشجرة
فيترك يد الآخر في الهواء،
ينكسر الغصن
فنسير معاً
يداً بيدٍ
دون أن يفكر أحدُنا
في التقاط
الآخر الذي وقع منه.
***
احرقوا الخوف بعدي..
أنا الدم الحائر واستدارة المغدور
أنا “فارد البطن”
والانتباه الأخير،
كلّما سكبتِ الرصاصةُ
دماً على الأسفلت،
أجمعوا أصابعي مثل أعواد كبريت
واحرقوا الخوف بعدي،
كلّما تجاوزتِ الرصاصةُ أحدَ المارة
التفتتْ إليّ،
لست خلفَكم
ولا أحد أمامي،
أنا في الأعلى..
كانت الجهات كلها
على شكل طعنة
أو يدين،
إن للقاتل –مثلنا- يدين:
غرس إحداهما ناباً في يدِي..
يدِي التي كانت تفكرُ في “كيس خبز”،
ثبت الأخرى مسماراً في وجهي..
وجهي الذي كان ينوي أن يدفع ابتسامةً للبقال،
إن للقاتل –مثلنا- عينين:
خبأ واحدةً في جيبه
والأخرى قبض ثمنها هذا المساء،
كان خلفي تماماً..
غير أني تركتُ الرصاصة
تمرُّ من دونهِ
فتشوا عنه
في نعلي
إنني أمشي في الهواء
***
وحدة تتسع لاثنين
1
ما زلت أتنفس
ما زلت أحشر كميات عشوائية من الهواء في داخلي
ثم أحررها..
متى سأتحرر مثلك يا أمي؟!
متى ستتحرر طيور العالم
كل طيور العالم مسجونة
في قفصي الصدري.
2
“موتي يتسع لي وحدي”
هكذا تقولين لي.
وأنا لا أريد أن أوقظك،
ولا أنام بجوارك،
لكنها الوحدة –بعدك- يا أمي
هذه الوحدة
تتسع لاثنين.
***
اسألوني عن أسمائكم وستجيب الحرب
اسألوني عن أسمائكم
وستجيب الحرب،
بطلاقة طلقةٍ
وبلاغة منشار،
سوف تكتب
لكم
بدلاً عن الشعراء،
وإلى زوجاتكم
بدلاً عنكم،
وعلى السبورات
بدلاً عن أطفالكم في المدرسة.
اسألوني عن أسمائكم،
وسيجيب الرصاص
ترسلونه للماضي
حرا.. طليقا
كطيور السماء،
يضيء ليل الفلاحين
ويذهب وحده للصباح،
يصنع النوافذ للأطفال
ويطلُّ بدلاً عنهم
على المستقبل.
اسألوني عن أسمائكم
وستجيب الكلمات المسننة
تتقاطع في الهواء
مثلما تتقاطعون
على أرصفةٍ مسرعةٍ
خائفين
كالدم الحائر
تحت البرد،
كالمدن المفتولة بالحصى
والأعين المثقوبة،
باحثين عن كل شيء
في أي شيء،
تسألون عن أسمائكم
وليس لديكم الوقت
لسماع أغنية.
***
قصائد للحرب
1
لم تغير الحرب شيئاً يا ألله،
الجدار الذي كان يتكئ عليه أبي في الظهيرة وهجره دون سببٍ،
ثم صارت أمي تذرف عنده دمعة غير مفهومة كل مساءٍ..
صرنا نمضغه، أنا وصغاري، كلما جعنا.
2
تخطئ الحبيبات كثيراً في فهم الحربِ: يفوتن صورة أشلاء كانت تذهب إلى المدرسة في هيئة طفلٍ، لينتحبن بين يدي مكالمة فائتة.
ويخطئ “الشهداء” غالباً في فهم حبيباتهم: يفوتون الليل صامتين، ثم تجرهم الحرب من ألسنتهم.
ويخطئ القتلة عادةً في فهم أمهاتهم: يخلون الصباحات من “خبز” أصواتهن، ويتفرغون لاختراع أطفالٍ عائدين من المدرسة في هيئة أشلاء.
3
آخر رصاصةٍ في حوزةِ الحرب
ستقف حائرةً بين قاتلين،
هكذا يمكن للكلاب المشردة
شنق حزن الأمهات في الهواء.
4
قبل أن تضع الحرب بيوضها،
تجلس هكذا أينما اتفق
فتفقس الأحجار أيتاماً
وزغاريد مقفرة..
ونساءً مشطوراتٍ..
و
ر
ص
ا
ص
اً
…..
….
…
مثلاً أيها اليقظون خلف “البنادق”:
سوف تستيقظ زوجاتكم صباح الغد
يقسن ثقب الأوزون بأصابعهن،
ويقطفن من الفناء الخلفي للعالم
بيضاً فاسداً
ونقارَ
خ
ش
بٍ.
***
من يصلح ابتسامةَ أمي!
إلى صالح البشري
أنا صالح البشري
وهذا صمتي الأولُ:
كنت أصغي لقاتلي المعصوم
يتدلى من شاشةِ “المسيرة”
فماً واحداً من أصل صحراء،
كانت الكلمات تتعثر على شفتيه
فيخرج لسانه
كي يبللهما
كي يدفع الكلماتِ العاثرةَ خارجاً
فيفشل،
هذه المرة
لم يعد قادراً على إيواء لسانه،
لسانه يمتط
مثل آكل النمل،
لسانه يكبر
حتى يتدلى من الشاشة،
بينما وجهه ينحسر إلى الداخل.
***
أنا صالح البشري
وهذا صمتي الأولُ:
مرةً خطرت لي فكرةٌ عن الشجرة
فخرجت إلى الشارع
وتبعني الأطفال،
لكن ثعباناً خطر في بال أحد المارةِ
أردت أن أهشّه فاختنقتُ بيدي
أردت أن أضمه إليّ فطفق يصرخ..
انظروا إليه من ثقبٍ في قلبي:
إن فمه يسيل
إن لكلماته رغوة بعير
إن صوت قاتلي يلدغ الهواء.
***
وأنا صالح البشري
وهذا صوتي الأخير:
ثمة خلل في اللغة
من يصلحُ ابتسامة أمي؟
***
نفد البحر من رأسي
مثل انهيار رقصةٍ،
مثل خطى تئن
تحت أنقاض الموسيقى.
لم يعد لدي قصائد لكم،
ولا معجون أسنان للوحشة.
نفدت الكنايات من جيبي
وغزا الشيب
خزانة الكتب والخيال،
أقبع
في زوايةٍ من شقةٍ غبيةٍ
غامرت واحتوتني،
أمسك بعصب الحكاية الأخير
وألفُّه حول عيني
وأنام.
ليس لدي مطر ولا مزاريب،
لا حلم
ولا طلاء لمخالب الندم والجغرافيا.
نفد البحر من رأسي،
وامتلأت شقوق التفاصيل الصغيرة
بالغبار.
ومثل إله من حطبٍ وسعال
أسند ظهري إلى حائط مائلٍ
وأدخنُ،
مثل إله الفرصةِ الأخيرة والحرائق
أمسك عصب الوقت
وألفُّه
حول خاصرة الموسيقى.
أرمي في النار
وجها
وحفنةً من خطى الغريب،
وأمرر
“كرةً حديديةً” إلى “راسيل”.
تلك آخر استعارةٍ مريضةٍ بحوزتي،
آخر كنايةٍ في جيبي عن الوطن،
آخر فأسٍ وجوديةٍ
وقعت في رأٍسي
قبل أن أموت،
نكايةً بالسارد،
كنايةً عني..
مثل انهيار رقصةٍ،
مثل خطى تئن
تحت أنقاض الموسيقى
***
لا مزيد من الشعر
لا مزيد من الشعر
بينما لا يمكن لقصيدةٍ أن
تلهمك مسدساً،
لا مزيد من الكتب والجرائد
بينما بثمن جريدة واحدةٍ
يمكنك أن تشتري رصاصة،
لا حاجة لك بـ(كاتم صوتٍ)
بينما يمكن لرصاصةٍ
تحشو بها مخيلتك
أن تنفجر
في فم المطلق.