انزياحات متابعات
أعلنت الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أمس، القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2024، التي ضمت ست روايات اختيرت من بين 181 رواية ترشحت للجائزة من 18 دولة.
وضمت القائمة روايات: (السيدة الزجاجية) لعمرو العادلي (مصر)، و(اسمي زيزفون) لسوسن جميل حسن (سوريا)، و(السماء تدخن السجائر) لوجدي الأهدل (اليمن)، و(الوراق أبو حيان التوحيدي) لهشام عيد (مصر)، و(بيت القاضي) لمحمود عادل طه (مصر)، و(ميكروفون كاتم صوت) لمحمد طرزي (لبنان).
مآسي اليمن الجماعية والفردية في “السماء تدخن السجائر”
وجدي الأهدل يروي أحوال القهر الإنساني تحت سيطرة الميليشيات وعنفها الوحشي
أنطوان أبو زيد
اندبينتيد عربية
رسم غرافيتي للرسام اليمني مراد سبيع على جدار مدمر (صفحة الرسام- فيسبوك)
يوغل الروائي اليمني وجدي الأهدل في روايته الجديدة “السماء تدخن السجائر” (دار نوفل، بيروت) في بواطن المأساة اليمنية، من خلال حبكة تصب في صلب معاناة اليمنيين، وفي واقع حروبهم الداخلية، وصراعاتهم الأهلية التي لا تكاد تهمد نيرانها حتى تعاود اشتعالها.
من نافل الكلام على الرواية المعاصرة، في عشرينيات القرن الـ21، وقبله، أن الروائي حين يبني عالمه، أو ما شبه بالعالم القريب من أفهام القراء الذي يحاكي عالمهم المرجعي (الزمان والمكان، والشخصيات، والأحداث، وغيرها)، ينطلق من زاوية معينة أو ما يسمى وجهة النظر الدالة على تصور خاص بالروائي، ذي أبعاد فلسفية أو فكرية متفاوتة في وضوحها وقرب تناولها من القراء. وغالب الظن أن الروائي وجدي الأهدل، قد انطلق، في روايته الأخيرة، من اعتبار الكائن شخصاً فرداً، ومصيره أعني حياته وموته سيكونان رهن إرادته، على رغم قهر المجتمع، وأنظمة القرابات، والظروف الاجتماعية والسياسية الخارجة عن إرادته غالب الأحيان. ولعل هذه الوجهة، ستتيح للروائي، عبر الراوي المتمثل بالبطل المدعو “ظافر”، أن يكشف عن كثير، سواء عن ذاته وعلاقته بالأنثى صغيراً وكبيراً، أو عن مظاهر الفساد التي سادت البلاد، بفعل سيطرة ميليشيات على السلطة فيها، وعن العنف المهشم المصائر، أفراداً وجماعات، وعن القمع والتخلف اللذين يسريان مع مفاعيل القات في عروق عامة اليمنيين، ويضرجان حياة المرأة فيها بألوان من القهر، والعسف، والاستبداد الذكوري، وغيره مما تكشف عنه حبكة الرواية، وأحداثها، ومآسيها المبثوثة في تضاعيفها.
***
حبكة الرواية
تحكي الرواية بعضاً من سيرة شخصية تدعى “ظافر”، فتروي في فصلين غير متساويين (السماء تدخن السجائر/ بعد عامين)، وفي مشاهد شديدة الاختزال والإيحاء والحركة، ولادته من أسرة متوسطة الحال، ومن أب عسكري النشأة، ومنضبط، ورصين، ومحترم للمرأة، وإن كان جلب ابنة خاله الفتاة غير البالغة زوجة له، إلا أنه أبقاها لديه 10 سنوات حتى تبلغ وتلد له الأبناء والبنات. إذاً، نما ظافر وسط أجواء من المحبة وعطف الأبوين، وتعاون الإخوة والأخت (محيي الدين غير المحب للعلم، وأنعم، وأخته ربيعة)، واتجه صوب المسرح بدلاً من الخدمة في الجيش، بخلاف رغبة الوالد الذي كان قد افتتح محلاً للخياطة منذ تقاعده من الجيش. وتبدأ مغامرة ظافر مع اكتشافه نصوصاً كان قد تركها والده إرثاً له بعيد وفاته عام 2011، “بعد أيام قليلة من اندلاع ثورة التغيير”، ومنها حكاية عاطفية عنوانها “فتنة”. ولما كان راغباً في الانطلاق بعمل مسرحي، أنجز نص عمل مسرحي كامل في 10 أيام، اقتباساً من نص “فتنة”. وعندئذ، سارع إلى تقديم مسرحيته هذه للمؤسسة العامة للمسرح، عسى تقبل باعتمادها نصاً مسرحياً، وتقدم لها الاعتماد اللازم. ولكن الموظف منصور الشرشار، يرد عليه بالرفض المطلق مدعياً أن النص سرقة عن مسرحية “تاجر البندقية”!
يكبر التحدي في نفس ظافر، فيقرر إنشاء فرقة مسرحية خاصة به، من أجل أن تؤدي مسرحيته، وتنال ما تستحقه من رواج وشهرة. ويكون لظافر ما أراد، ولكن المسرحية لا تلقى النجاح إلا بعد تدخل شخص أجنبي (إنجليزي) يدعى ريغنالد، للحصول على اعتماد مادي ولأداء دور ما فيها، بيد أن إعجاب ريغنالد بفتاة المسرحية “نبات”، وزواجه بها، وسفرهما إلى لندن، أطاحا مشروع المسرحية، فانكشفت للراوي ظافر مشكلته الكبرى التي كثيراً ما واراها في شغفه بالمسرح، وهو علاقته المحبطة بالمرأة، في أربع خيبات متتالية: ابنة عمه، عروسه الأولى، فائزة التي ماتت مع ذويها في حادثة سير في صنعاء لدى شرائهم كسوة العروس، ومقتل زوجته التي عقد عليها القران على يد أخيها بطلقة طائشة من مسدسه، والثالثة أشجان التي أحبها ثم تركها لتتزوج، ومن ثم يقتلها زوجها لظنه أنها غير عذراء، والرابعة عبير التي أفلحت في الفرار من جحيم اليمن بمساعدته إلى إثيوبيا، لتتزوج مسيحياً إثيوبياً هناك… إلى أن يعاود اللقاء بشابة عاملة في المعمل، حيث بات مديراً لأعماله، تدعى ناجية وقد فقدت إحدى قدميها في انفجار لغم، من مخلفات الحرب الأهلية، ومقتل زوجها. وإذ تقبل ناجية بأن تكون زوجة لظافر، آخر المطاف، يولد لهما ثلاثة أبناء ذكور: حمدي، وفارس، ويزن، وفتاة تدعى سدرة. وينشى الزوجان داراً للمعوقين الذين أصابت الحروب أجسامهم بعاهة أو إعاقة.
***
نظرة حارقة
ولئن انتهت الرواية على ما تمنى البطل، فإن ثمة عديداً من المظاهر اللافتة، والانتقادات اللاذعة يوجهها الكاتب تباعاً إلى من كان سبباً في الحروب الأهلية التي عصفت باليمن، وأبدلت سعادته جحيماً، وأجبرت عائلة الراوي، وكثيراً من العائلات الأخرى، على هجرة مدينة الحديدة، مسقط رأسه، قسراً إلى مدينة صنعاء. بل إن نظرة الروائي إلى الأمور من وجهة نظر مثالية، على ما تربى عليه “من المعاني النبيلة… كالشرف والعدل والرحمة والاستقامة والصدق والأمانة والاعتزاز بالنفس”، ستحمله على تسليط ضوء ساطع على المظالم التي تتعرض لها الكيانات الضعيفة في المجتمع اليمني، وأول هذه المظالم، ما تتعرض له المرأة اليمنية، من استصغار لأمرها، طفلة، وزوجة، وعاملة، وعشيقة محرومة من الحب، ومنقوصة القيمة في جرائم الشرف المزعومة، مثال ما جرى “لأشجان”، إذ قتلها عريسها لظنه أنها غير عذراء، في حين تبين بالفحص المخبري أنه هو العاجز. وعلى رغم كل هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق المرأة، فإن الكاتب الأهدل لا يني يبين، بشخصياته الأنثوية المرسومة على صورتهن المثالية، أن المرأة اليمنية ما برحت قلباً نابضاً بالحب والوفاء والتضحية بالذات، على ما صور شخصية “ناجية” وهي تقبل على نجدة زوجها “نعمان” وقد باتا عالقين في نقطةاشتباك بين مسلحين، وحيث تتساقط القذائف، وتنفجر الألغام التي خلفها الحوثيون لدى تراجعهم من ذلك المكان، ولا تأبه لبتر ساقها من جراء انفجار اللغم.
وفي المقابل، لا يتوانى الروائي الأهدل عن فضح مظاهر الفساد والتخلف التي يشقى المجتمع اليمني بسببها، ومنها تولي الأدعياء والجهلة، على ما يفهم من وصف الراوي لـ”منصور الشرشار” الذي اتهمه بسرقة نصه المسرحي من شكسبير، بالقول: “تجعد الجلد على جانبي فمه من فرط إدمانه على مضغ القات… كان يرتدي صديرياً أسود بكتفيات وكأنه يظن نفسه جنرالاً”. ومن ثم ينقلب موقف الإدارة إلى الضد، وتوافق المؤسسة العامة للمسرح على اعتماد المسرحية نصاً أصيلاً، حالما يتقدم الأجنبي الإنجليزي ريغنالد بهذا الطلب، ويفرز لإخراجها وأدائها 20مليون ريال. هذا من دون أن ننسى كثيراً من المواقف، عبر الفصلين، ومشاهدهما، التي يعلن فيها الكاتب معارضته العنف، والحرب، ومقدار حقده على من تسبب في هذا القدر من الخوف والقلق والرعب لكل مستضعفي المجتمع اليمني، وفي طليعتهم الكاتب الذي ترجم ذلك الشعور بمشاهد كابوسية، لا يكاد القارئ يجد لها مسوغاً سوى تملك الخوف كيان الراوي، وسيطرة النوازع اللاواعية على عقله ومداركه، في مشهد عنوانه “المنتقمة”.
***
خيوط وأساليب
لا يبالغ القارئ الناقد إذ يقول إن الروائي وجدي الأهدل صاحب أسلوب في الكتابة لا يبارى، سواء في ريشته الواصفة والدقيقة، على إيجاز بليغ وجميل، وشعري أحياناً. ولهذا تراه مكتفياً باللمح، والاقتضاب، حتى الإشباع الكافي والدال على الأساس من الموصوف. ومع ذلك، تراه لا يأنف من تجريب الجديد في الكتابة الروائية، من مثل الإكثار من أصوات الرواة، يدلي كل منهم بدلوه في مسار تكوين الفرقة المسرحية (نبات، وخالد، وحسن، وصبي الشاي) بدل الاكتفاء بالراوي العليم وحده، وذلك في الفصل الأول من الرواية. على أن يتولى الراوي العليم الفصل الثاني كله من الرواية، ليأتي انسجاماً مع بحثه المحموم عن نصفه الآخر، عن امرأة تملأ حياته بعد ضياع ومعاناة.
تتنوع أعمال الكاتب وجدي الأهدل بين الرواية وله فيها: “قوارب جبلية”، و”حمار بين الأغاني”، و”فيلسوف الكرنتينة”، و”بلاد بلا سماء”، و”أرض المؤامرات السعيدة”. وله في المجموعات القصصية: “زهرة العابر”، و”صورة البطال”، و”رطانة الزمن المقماق”، و”حرب لم يعلم بوقوعها أحد”، و”ناس شارع المطاعم”، و”وادي الضجوج”، و”التعبئة” وغيرها.