ملخص
كتب المفكر الفرنسي رولان بارت نصوصاً عدة عن الرياضة وأبعادها، وأبرز ما صدر له في هذا الشان كتاب له شبه مجهول صدر في مونتريال عام 1960 عنوانه “الرياضة والناس”، ولم يدرج في أعماله الكاملة الصادرة في باريس. نصوص الكتاب كان مادة لفيلم عن الرياضة. وتطرق بارت أيضاً إلى الرياضة في كتابه “ميثولوجيات” الشهير. ولعل قراءة هذه النصوص قد تكون ملائمة جداً، في جو الألعاب الأولمبية التي تحتفل بها فرنسا الآن.
في العام 1957 أصدر الكاتب الفرنسي رولان بارت كتابه الشهير “ميثولوجيات” وبدا أشبه بـ “الوقائع” المدونة عن الحياة الفرنسية في مرحلة الخمسينيات من القرن المنصرم، وفيه دمج بارت بين التقاليد الفرنسية والتطلعات الحداثية، متوقفاً عند ما يسمى “الثقافة الجماهيرية” التي تشمل وسائل الاتصال والرياضة والمجلات النسائية ورموزاً اجتماعية أخرى. ومن خلال الكتاب الذي حصد نجاحاً كبيراً تبدت لقطات عن البرجوازية الصغيرة و “لوحة تقاليد الزمن” كما يعبر بارت نفسه وبرزت فيه نكهة عصر بكامله. والكتاب هذا يندرج ضمن مشروع بارت المسمى “فضح الأوهام”، وقد أسس عبره سوسيولوجيا الحياة الحديثة. وفي هذا الكتاب تبرز الرياضة كواحدة من تلك الميثولوجيات ولا سيما رياضة “الكاتش” (المصارعة الحرة) وسباق الدراجات الهوائية (دورة فرنسا).
كان رولان بارت شغوفاً بالرياضة على اختلاف أنواعها وإن لم يتناول في كتابه الشهير سوى نوعين منها. وهذا الشغف تبدى في العام 1960 عندما وافق على كتابة نصوص فيلم وثائقي عن الرياضة. والفيلم الذي أخرجه وأشرف عليه السينمائي والروائي الكندي هوبير أكين حمل عنوان “الرياضة والناس” وعرض في 1960 ثم دخل أدراج الأرشيف في “المكتب الوطني للسينما” في مونتريال. وبعد مرور نحو أربع وأربعين سنة ارتأت جامعة مونتريال أن تطبع النص الذي كتبه بارت في كتاب مزين بصور من الفيلم. والكتاب الذي صدر عن “منشورات جامعة مونتريال” بدا أقرب إلى الحدث الثقافي والأدبي لكونه ينشر للمرة الأولى ثم لكونه يضم قراءة حديثة جداً وراهنة لظواهر رياضية ما برحت “تخدر” شعوب الأرض قاطبة. أما أسلوب بارت فهو نفسه في سحره وطرافته اللذين جعلاه أسلوباً فريداً في المقاربة والتحليل والكتابة.
يتناول رولان بارت في الكتاب تحليلاً وتأملاً، خمسة أنواع رياضية تمثل “ظاهرة اجتماعية وشعرية” كما يقول المخرج هوبير أكين وهي: مصارعة الثيران في إسبانيا، سباق السيارات في إيطاليا، سباق الدراجات الهوائية (دورة فرنسا)، الهوكي في كندا، كرة القدم في هنغاريا.
الرياضة المشهدية
يبدو النص إذاً تأملاً في “الرياضة – المشهد” ويفتتحه بارت ويختتمه في مقطع واحد يتكرر بداية ونهاية طارحاً عدداً من الأسئلة: “أي حاجة لدى هؤلاء الناس بالهجوم؟ لماذا يضطرب الناس إزاء هذا المشهد؟ لماذا يتطوعون جميعاً؟ لماذا هذه المعركة اللامجدية؟ ما هي الرياضة؟”. إلا أن بارت قبل أن يعيد تكرار هذه الأسئلة في ختام النص يعلن: “هذا ما تقوله الرياضة”. ويكون النص حقاً هو الخطاب الذي تضمره الرياضة بحسب بارت، وتفصح عنه في الحين نفسه. لكنه الشك البارتي الذي لا يستطيع أي يقين أن يضع نهاية له، يدفع صاحبه إلى القول: “أحياناً يشاء بعضهم أن يجعلوا الرياضة تقول أمراً آخر. لكن الرياضة لم توجد من أجل ذلك”.
“الرياضة والناس” نص غاية في الطرافة والفرادة حقاً، يستخدم الأدب ليرسم صورة ميثولوجية عن أنواع خمسة من الرياضة. نص إبداعي عن ظاهرة إبداعية بدورها، ولكن ذات منحى جماهيري وشعبي، وقد نجح بارت أيما نجاح في تفكيكها وتحليلها وقراءة علاماتها. ها هو يقول عن “مصارعة الثيران” (الكوريدا) إنها تكاد تكون رياضة، لكنها قد تمثل الأنموذج و “الحدود” ‘لأي نوع من الرياضة: أناقة الاحتفال، قواعد صارمة للمعركة، قوة الخصم، علم وشجاعة… ويقول بارت: “كل الرياضة الحديثة هي في هذا المشهد الآتي من عصر آخر، والموروث من الأضاحي الدينية القديمة “. لكن هذا المسرح هو “مسرح مزيف” لأن الموت فيه حقيقي. ويرى بارت أن هذه التراجيديا التي تتوزع على فصول أربعة تكون نهايتها الموت دوماً. هكذا تؤكد “مصارعة الثيران” أن الإنسان هو الأفضل. فالثور الذي يبدو دوماً الأقوى سيموت حتماً. وشجاعة الإنسان قائمة على الوعي: وعي الخوف الذي يقبله الإنسان بحرية وبحرية يتخطاه. ثم أن الثور لا يعرف الإنسان فيما الإنسان يعرف الثور ويستطيع أن يقوده إلى المكان الخطر. أما الانتصار هنا فلا يعتبره انتصار الإنسان على الحيوان، فالثور هو المغلوب دوماً، بل هو انتصار الإنسان على الجهل والخوف والعوز.
ينتقل بارت من ثم إلى سباق السيارات، ويرى بدءاً أن المنتصر هنا إنما يهزم عدواً أشد حذاقة، هو الزمن. وهنا تركز شجاعة الإنسان وعلمه على شيء واحد هو: الآلة. وعبر هذه الآلة ينتصر الإنسان، لكنه قد يموت أيضا. والعلاقة بين الإنسان والآلة هي مشوبة بالحيطة تماماً، فالذي يقود بسرعة قصوى يجب عليه أن يجرب القيادة ببطء، فالسرعة ليست سوى مكافأة للبطء. ويلقي بارت الضوء على شروط هذا السباق وعلى بضعة تفاصيل ترتبط به. ويرى أن على السائق أن يتمرن على الانتصار على ثلاثة أخصام: الزمن، الآلة والحلبة، قبل أن ينتصر على خصومه البشريين. وفي السباق هذا يكون المكان دوماً مضاداً للزمن. ولذا فعلى السائق المتباري أن يغش في علاقته بالمكان. وفي هذه المعركة مع الزمن التي تكون عاقبتها أحياناً رهيبة، ليس من غضب أبداً، بل ليس هناك إلا الشجاعة الكبيرة الموجهة ضد جمود الأشياء. ويقول بارت: “هكذا يكون موت المتسابق حزيناً للغاية، لأن ليس ثمة رجل فقط يموت، وإنما بعض من الكمال يختفي من هذا العالم”. وهذا الكمال هو قابل للموت لأنه إنساني تحديداً. ولا يكاد يحصل هذا الموت حتى يبدأ آخرون من هنا. ولعل الاستعداد للانطلاق هو الذي يمنح السباق معناه: معنى الانتصار على الثقل والجمود. والسيارات الثقيلة سرعان ما يتحول ثقلها إلى خفة منذ أن تنطلق وتمضي في سرعتها، وكذلك يتحول وزنها إلى قوة. ويرى بارت أن ما فعله المتسابق المنتصر هو أنه قاد نفسه وكذلك سيارته إلى حد الممكن. وانتصاره لم يحققه على خصومه، بل على العكس، حققه معهم على الثقل المتصلب للأشياء: “الرياضة الأشد قتلاً هي الرياضة الأشد سخاء”.
سباق الدراجات الهوائية الذي يعرف في فرنسا بـ “دورة فرنسا” كان بارت خصه بفصل من كتابه “ميثولوجيات”، وهو يعود إليه بالحماسة نفسها والشغف نفسه. فهذا السباق بات تقليداً، يشهده الفرنسيون في شهر يوليو (تموز) من كل سنة. والسباق كما يراه بارت هو مجموعة “نزهات لذيذة تتبعها معارك كبيرة”، تجمع بين المأساة والسخرية والدهشة. أما مسرح المعركة فهو فرنسا كلها وهكذا “يرى كل فرنسي من جديد منازله وصروحه، وحاضره الريفي وماضيه الغابر”، وهذه “المعركة الكبيرة “تتألف من مراحل متوالية: “كل يوم له معركته، وكل مساء منتصره: ماء وزهر وقبلات…”.
في تناوله رياضة الهوكي على الجليد يسأل بارت: “ما هي الرياضة الوطنية”؟ ويجيب: “إنها رياضة تنبثق من المادة نفسها للوطن، أي من أرضه ومناخه”. ويرى أن رياضة الهوكي تدل على أن الإنسان جعل من الشتاء الثابت والأرض المتجمدة والحياة “المعلقة” مسرحاً لرياضة نشطة ومرحة. وفي مستهل كلامه عن رياضة كرة القدم يكتب بارت: “تمطر في إنجلترا، ومع ذلك إنجلترا كلها في الخارج. لماذا؟ هناك مباراة كرة قدم في ويمبلي”. ثم يسأل: لماذا يحب الناس الرياضة؟ ويقول: “يجب أن نتذكر أولاً أن كل ما يحصل للاعب يحصل أيضاً للمتفرج. ولكن في المسرح ليس المتفرج إلا بصاصاً، وفي الرياضة هو ممثل”.
انتهز رولان بارت مهمة كتابة نص الفيلم ليمعن في التأمل في مفهوم الرياضة وفلسفتها وعلاقتها بالزمن والإنسان. والمقولات التي ضمها هذا النص تنم عن نظرة بارت العميقة إلى الرياضة التي يعتبر أنها وجدت لتصنع “العقد الإنساني”. وفي رأي بارت أن العضل لا يصنع الرياضة، فالعضل مهما كان أساسياً، فهو ليس سوى مادة أولى وليس هو الذي يربح. ومن يربح بحسب بارت، هو “فكرة ما عن الإنسان والعالم، عن الإنسان في العالم”. وهذه الفكرة تكمن في أن الإنسان يوصف بحركته، وحركة الإنسان لا تقوم على السيطرة على الآخرين وإنما على الأشياء. ويرى أن الهتافات المعبرة للجمهور تصنع إيقاعاً للوقت الذي تجري فيه الرياضة. أما اللاعبون الكبار في نظره فهم أبطال وليسوا نجوماً. وفي الرياضة يقول بارت، لا يواجه الإنسان الإنسان مباشرة، هناك بينهما وسيط، رهان، آلة، كرة. ويقول إن في الإنسان قوى وصراعات، أفراحاً وأحزاناً: الرياضة تعبر عنها وتحررها وتشعلها من دون أن تدعها تدمر شيئاً. في الرياضة يعيش الإنسان المعركة القدرية للحياة، لكنّ هذه المعركة تصبح مبعدة عبر المشهد ومختصرة بأشكالها ومجردة من آثارها ومن مخاطرها وفضائحها. “الرياضة هي كل المسار الذي يفصل بين معركة وفتنة “، يقول بارت.