المدخل ألف نحصل على المخرج باء باحتماليّة ما، وفي بعض الحالات يمكننا الحصول على المخرج جيم.
لم يَقبَل أينشتاين هذا، وتردّد في العقود التالية صدَى إصرارِه بأنّ الله لا يلعب النرد مع الكون، وهو أمر صعب الفهم تماما مثل معادلته E = mc2. ما الذي عناه أينشتاين بقوله ذاك؟ وكيف كان تصور أينشتاين عن الله؟ كان أبواه، هيرمان وبولين، يهوديَّين أشكناز غيرَ متدينَين. ورغم علمانيّة والدَيه، تعرَّف أينشتاين على اليهودية والتزَم بها بحماسة معتبَرة حين كان في التاسعة من عمره، وظلَّ فترة من حياته يهوديا ملتزما ومتديِّنا.
ووفقا للعادات اليهودية، فقد كان والداه يدعوان أسبوعيا طالبَ علم فقير على مائدة طعامهم. وقد كان من طالب الطبّ المُعدَم ماكس تلمود (والذي دُعي لاحقا ماكس تالمي) أنْ عرف أينشتاين الصغير، سريع التأثر، الرياضيّات والعلوم. فقد درَس جميعَ المجلّدات الواحدة والعشرين لموسوعة آرون برنشتاين، “الكتب الشهيرة في العلوم الطبيعية” (1880) (Popular Books on Natural Science).
ثم أرشدَه ماكس تلمود بعد ذلك إلى “نقد العقل الخالص” (1781) لإيمانويل كانط، لينتقل بعده إلى فلسفة ديفيد هيوم. ومن هيوم، انتقل أينشتاين إلى الفيزيائي النمساوي إرنست ماخ، والذي تطلّبت فلسفته الموغلة في التجريبية والقاضية بأن الإيمان لا ينبع إلا من المشاهدة، إنكارا تاما للميتافيزيقيا، ومعها أيّ أفكار عن زمان ومكان مطلق، وعن وجود للذرات. إلا أن هذه الرحلة الفكرية قد كشفت بقسوة عن الصراع بين العلم وبين النص الدينيّ. فتمرَّد أينشتاين في ربيعه الثاني عشر. إذْ تأصّل في نفسه نفور عظيم من دوغمائية (جَزميّة) الدين المؤسّسي؛ وهو نفور بقي معه طيلة حياته، وامتدّ إلى كل أنواع السلطوية، ومنها أي نوع من الإلحاد الدوغمائيّ.
وقد انتفع أينشتاين بعد 14 عاما من طفولته تلك المغمورة في الفلسفة التجريبية. إذ ساعد رفْض إرنست ماخ المطلَق للزمان والمكان على تكوّن نظرية أينشتاين للنسبية الخاصة (ومن ضمنها المعادلة المشهورة E = mc2)، والتي صاغها عام 1905 بينما كان يعمل “مساعدا تقنيا من الدرجة الثالثة” في مكتب براءة الاختراع السويسري في برن.
وبعد عشر سنوات (من صياغة المعادلة)، سيُكمِل أينشتاين تغييرَ تصوّرنا عن الزمان والمكان بصياغته لنظريّة النسبية العامة، والتي حلَّ فيها انحناءُ الزمكان محلَّ قوة الجاذبية. لكن مع تقدمه في السن (وفي الحكمة)، رفَض أينشتاين حدّة تجريبيّة إرنست ماخ، حتى إنه قال يوما إن “رداءةَ ماخ في الميكانيكا لا تضاهيها إلا رداءتُه في الفلسفة”.
سنوات عما إذا كان يؤمن بالله، أجاب: “أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في التناغُم الناموسيّ للموجودات، لا بإله ينشغل بأقدار وأفعال البشر”. كان تصوّر باروخ سبينوزا -الذي عاصَرَ إسحاق نيوتن وغوتفريد لايبنتز- عن الله بأنّه والطبيعة شيء واحد. ولهذا رآه معاصروه مُهرطِقا خطيرا، وكفّره المجتمع اليهودي في أمستردام.
إن الإلهَ -عند أينشتاين- أعظم من كلِّ شيء، لكنه غيرُ شخصي وغيرُ ملموس، ماكر لكن ليس شرّيرا. وهو أيضا حتمي بشدة. فعلى حد اعتقاد أينشتاين، كان “التناغم الناموسيّ” لله ينشأ في الكون من التزام صارم بالمبادئ الفيزيائية للسبب والنتيجة. لذا فلا مجال في فلسفة أينشتاين للإرادة الحرة، إذ يقول: “كل شيء مُقدَّر سلَفا؛ البداية كما النهاية، تُحددها قوة لا سلطةَ لنا عليها… نحن جميعا نرقص على نغمة غامضة، يعزفها عازف خفيّ على بُعد”.
قدَّمت النظريتان الخاصّة والعامّة للنسبيّة طريقة جديدة مختلفة جذريا لتصور الزمان والمكان وتفاعلهما النشط مع المادة والطاقة. هاتان النظريّتان متّسقتان تماما مع “التناغم الناموسي” الذي أنشأه إلهُ أينشتاين. إلا أنّ نظريةَ ميكانيكا الكمّ الجديدةَ، والتي ساعد أينشتاين أيضا في تأسيسها عام 1905، كان لها رأي آخر. فقِوام ميكانيكا الكمّ هو تفاعلات تنطوي على المادة والإشعاع، في مستوى الذرّات والجزيئات، على خلفيّة سلبيّة من الزمان والمكان.
وفي عام 1926، غيَّر الفيزيائي النمساوي إرفين شرودينغر النظريةَ تغييرا جذريا حين جعل قِوامها “دالّات مَوجيّة” غامضة إلى حد ما. فضَّل شرودنغر نفسُه تفسيرَ تلك الدالّات المَوجيّة تفسيرا واقعيا، على أنها وصف لـ “الموجة المادية”. إلا أن إجماعا على أن التصوير الكمّيّ الجديد عليه ألا يُؤخَذ مأخذا حرفيا كان ينمو، بدعم ودعاية قويّة من الفيزيائيّ الدنماركيّ نيلز بور والفيزيائي الألمانيّ فيرنر هايزنبيرغ.
بمعنى ما، كان بور وهايزنبيرغ يُنافحان عن أنّ العلم قد حلَّ أخيرا المُشكلاتِ المفاهيمية التي يحويها توصيف الواقع، والتي كان الفلاسفة يُحذّرون منها منذ قرون. يقول بور: “ليس هناك عالم كميّ. هناك فقط توصيف مادّيّ كمّيّ مجرّد. ومن الخطأ الاعتقاد بأن هدف الفيزياء هي اكتشاف كيف صارت الطبيعة على ما هي عليه. فالفيزياء تختص بما يمكننا قوله عن الطبيعة”. وقد عكَف هايزنبرغ يردد العبارة التالية (والإيجابيّة بغموض): “علينا أن نتذكّر بأنّ ما نرصده ليس الطبيعة نفسها، بل الطبيعة حسبما تظهر وفق أساليب منهجنا الاستقصائيّ”. وسرعان ما صار منهجهم اللاواقعيّ أو “تفسير كوبنهاغن” (الذي ينكر بأنّ الدالة الموجيّة تعبِّر عن الحالة الفيزيائيّة الحقيقيّة للنظام الكمّيّ) هو الطريقة السائدة في تصور ميكانيكا الكمّ.
تشير أشكال أحدث من هذا التفسير اللاواقعيّ إلى أنّ الدالّة الموجيّة هي ببساطة طريقة لـ “ترميز” خبرتنا بالفيزياء، أو اعتقاداتنا الذاتية المستمدة من خبرتنا تلك، مما يسمح لنا باستخدام ما تعلمناه في الماضي للتنبؤ بالمستقبل. إلا أنّ هذا لا يتّسق نهائيا مع فلسفة أينشتاين. لم يستطع أينشتاين أن يقبل تفسيرا يقول إن الموضوع الأساسيّ للتوصيف الكمّيّ الجديد -أي الدالّة الموجيّة- ليس “حقيقيا”. لم يستطع أن يقبل بأنّ إلهَه قد يسمح لـ “التناغم الناموسيّ” أن يتفسّخ كليا على مستوى الذرة، جالبا معه لا حتميّة فوضويّة وشكًّا مُقيما، مع نتائج وتأثيرات لا يمكن التنبّؤ بها قطعيا، دونما لبس، استنادا إلى أسبابها.
وهكذا كانت الساحة العلميّة جاهزة لخَوض أحد أهمّ الجدالات في تاريخ العلم؛ إذ تواجَه أينشتاين وبور في جدل حول تفسير ميكانيكا الكمّ. كان صداما بين فلسفتين، بين مذهبين متناقضين في التصوّرات الميتافيزيقيّة لطبيعة الواقع وما يمكننا أن نتوقّعه من التصوير العلميّ لهذا. بدأ النقاش عام 1927، ورغم أن أبطاله ما عادوا بيننا اليوم، فإنه لا يزال حيًّا. ولم يُبتّ فيه بعد. لا أظنّ أن أينشتاين كان سيُفاجَئ بهذا. ففي فبراير/شباط عام 1954، أي قبل أربعة عشر شهرا فقط من وفاته، كتبَ في خطاب إلى الفيزيائيّ الأميركيّ ديفيد بوم: “إذا كان الله قد خلَق العالم، فأنا على يقين بأنّ أولى أولوياته لم تكن أن يسهُل علينا فهمُه”.