مسلسل الحشاشين: إضاءة على أعماق سحيقة في فكر الجماعات الإيرانية
إلى أي حد يشبه البحر الأحمر قلعة "ألموت"؟
مع بدء عمليات جماعة الحوثي في البحر الأحمر على خلفية الحرب الاسرائيلية الوحشية في غزة، أضيفت طبقة جديدة من التشويش على حقيقة الجماعة وحقيقة ما تسعى اليه. جل المقاربات التي سعت لفهم دور جماعة الحوثي في البحر الأحمر، قامت بدرجة رئيسية على استدعاء تاريخ الحوثيين وتكتيكاتهم والظروف التي تحفزهم والتي يخوضون في ظلها معاركهم الرئيسية.
تنتمي العمليات العسكرية في البحر الأحمر الى نفس النمط الذي اتبعته الجماعة على مدى عشرين عاما. تختار عنوان بارز واهداف عامة، تجذب أكبر عدد من المؤيدين وتحيد الخصوم بل وتفقدهم فاعليتهم بحكم المأزق الذي ترسمه لهم بعناية. غير ان هذا لم ينجح في اختراق جدار التشويش المسنود بآلة اعلامية هائلة والقائم اساسا على تناقضات يصعب فكفكتها.
مساهمة نوعية
جاء مسلسل “الحشاشين”، وقدم مساهمة نوعية فقد أضاء على أعماق سحيقة في فكر الجماعات المرتبطة بإيران، وكم بدا حينها البحر الأحمر يشبه قلعة “ألموت” مع فارق أن حسن الصباح كان يسعى لحكم العالم من قلعة “ألموت” بينما عبدالملك الحوثي هدفه أن يحكم قبضته على اليمن من خلال الهروب الى البحر الأحمر.
مسلسل الحشاشين، بطولة كريم عبدالعزيز واخراج بيتر ميمي، الذي عرض خلال موسم رمضان 2024، أحدث ما يشبه الصدمة، لهذا لم تكتب عنه مراجعات جادة حتى الآن، علاوة على اثارة النقاش الفكري، وهو الشيء الأهم بالنظر الى القضية الحساسة التي يناقشها والمتصلة باللحظة العربية الراهنة. كثير مما كتب أثناء عرض المسلسل كان ذا طابع سجالي وباستدعاء للصورة النمطية التي تكرست عن الدراما المصرية خلال العقد الأخير، وبكونها دراما بنظر الرقيب العسكري وفي خدمته.
نقد مسبق.. ولكن قضية أهم
تلك الكتابات لم تخرج عن الطريقة التي استقبل بها مسلسل “تحت الوصاية” في الموسم الماضي. فقد بدأ الجدال حوله قبل حتى ان يبدأ عرضه وبالاستناد الى ملصق اعلان المسلسل لكن ايضا بالاستناد إلى دور بطلة المسلسل منى زكي في فيلم “أصحاب.. ولا أعز” من انتاج نتفيلكس والذي تضمن مشاهد اعتبرت “خارجة عن التقاليد”. لكن بعد أن بدأ عرض المسلسل وبعد أن حقق نجاحا كبيرا، اختفى ذلك النقد الذي أعتبر ان منى زكي بحواجبها الغليظة في صورة اعلان المسلسل، تسيء للمحجبات، فقد جاءت القصة لتنتصر للمحجبات ولقطاع واسع من النساء غير المرئيات والتي لا يسمع أحد عن مشاكلهن الحقيقية.
تكرر الأمر مع مسلسل الحشاشين بشكل أوسع، فقد استدعت الكتابات النقدية المواكبة لعرض المسلسل السياق السابق لبطل المسلسل ومخرجه والشركة التي قامت بانتاجه “الشركة المتحدة للإعلام”، فقد أعتبر بأنه يستهدف النيل من جماعة الاخوان المسلمين، استكمالا لمسلسل “الاختيار” الذي عرض في 3 مواسم.
غير ان المسلسل باعتقادي تصدى لقضية أهم من الاخوان، ومن حيث لم يقصد ربما، قدم تطمينا لكل من يعرف شيئا عن الطموحات الامبراطورية في المنطقة العربية في مقابل السياسة الانعزالية للنظام المصري وعدم تقديره للمخاطر المحدقة علاوة على التفاعل معها. دائما كنت كلما أتذكر مصر والسياسة الانعزالية لنظامها في ظل الميول الصوفية لكثير من المصريين وتبجيلهم للرموز الشيعية – ما يعني وجود أساس يمكن لايران النفاذ من خلاله – كنت أضع يدي على قلبي. ما الذي سيتبقى لنا كعرب لو ذهبت مصر؟
نافذة وعي لأخطار قادمة من الشرق
لكن بعد عرض المسلسل حتى وان لم ينتبه المشاهد المصري والعربي لبعض الافكار الاساسية التي تشكل عقيدة الجماعات المرتبطة بإيران، حتى وان صدق السجالات الفارغة التي ارادت تصوير المسلسل وكأنه استهداف لجماعة الاخوان (هذا شيء وارد على الاقل مع جزئية التجنيد بالاعتماد على العاطفة الدينية) فإن الشيء الأهم كان قد حدث فعلا، وهو ان المسلسل فتح نافذة للوعي اتجاه أي أخطار قادمة من جهة ايران.
لقد كانت الكارثة الأكبر بالنسبة لنا في اليمن هي ان أغلبنا لم يكن يعرف شيئا عن جماعة الحوثي لحظة صعودها ومن يعرف اما ان صوته كان ضعيفا أو انه ليس محل ثقة ليستمع إليه الناس ويصدقونه. وحتى الآن لم يتبلور حراك ثقافي وفكري مضاد للفكر والثقافة التي يقوم الحوثيين بترويجها ولم يبن فهم واضح وعملي للتكتيكات السياسية والعسكرية التي يتبعونها.
اللهجة المصرية والجوانب الفنية
لهذا باعتقادي فإن كان استخدام اللهجة المصرية بمثابة ضربة معلم، وهذا الموضوع السجالي الأخر. ليس من اجل الوصول الى اكثر عدد من المشاهدات والى الاجيال الشابة وهي اشياء مهمة، ولكنها ضربة معلم لأن اللهجة المصرية التي يتحدث بها الناس اليوم تجعل من الافكار الرئيسية للمسلسل حية وليست شيء يتعلق بالماضي وبالتاريخ.
بالطبع هناك جوانب فنية كان يفترض الانتباه لها، مثلا ان يكون هناك لكنة محددة تحيل للتاريخ ضمن اللهجة المصرية للحفاظ على روح الزمن القديم مع الابقاء على الراهنية. مثلا كان من الممكن توحيد اللكنة لكل الممثلين بنفس الطريقة التي كان يتحدث بها زيد بن سيحون، أدى دوره ببراعة أحمد عيد، ونظام الملك أدى دوره ببراعة فتحي عبدالوهاب، بدلا من استخدام اللكنة القاهرية التي برزت اكثر وضوحا في اداء بطل المسلسل كريم عبدالعزيز في دور حسن الصباح. مع ذلك قدم كريم عبدالعزيز دورا للتاريخ، فالشر قد يأتي من وجوه سمحة وشخصيات هادئة وليس بالضرورة أن يكون المظهر مطابق للشكل الشائع عن الشر.
تاريخ الحشاشين وتكرار الممارسات الإيرانية
يعود تاريخ الحشاشين الى القرن الحادي عشر ميلادي، وينتسبون الى ما عرف بالنزارية الباطنية وهي احد الفرق الشيعية الاسماعلية. وقد ظلت على عداء وخاضت معارك مع الخلافتين العباسية والفاطمية، ومع السلاجقة والأيوبيين والصليبين وغيرهم. واستمرت حتى القرن الثالث عشر قبل أن تنتهي على يد المغول في بلاد فارس ومن ثم على يد المماليك في بلاد الشام.
من خلال اشاعة الرعب عبر استخدام الاغتيالات الفردية من قبل فرق الفدائيين، ساهم الحشاشون في اضعاف كل تلك الدول وجعلها في النهاية تنسحق على يد المغول. وهو ما تكرره اليوم الجماعات المرتبطة بإيران بأكثر من طريقة. وما اعتراض ايران على المسلسل ومنع عرضه، إلا تأكيد على أنه قد أقترب من كشف منجم التاريخ الذي لديه أهمية تفوق أهمية المفاعلات النووية.
قال مهدي سيفي، رئيس هيئة الإشراف على تنظيم الإعلام المرئي والمسموع في طهران، إن رواية المسلسل تعد مخالفة للتاريخ وتحمل روايات غير معتمدة في إيران. وأن “رواية المسلسل تضمن العديد من التشوهات، ويبدو أنه تم إنتاجه من خلال نهج سياسي متحيز، ولذلك قررت الهيئة منع عدم الموافقة على عرض المسلسل عبر وسائل الإعلام الإيرانية”.
استدعاء التاريخ لفهم الحاضر
استدعاء التاريخ لفهم الحاضر، ليس شيئا جديدا، بل هذه هي وظيفة الدراما. حسب الكاتبة شيلينا جان محمد فإن الدراما التاريخية “يمكنها أن تكشف وعينا وتنيره وتثيره”، فالتاريخ ليس أحداث الماضي تماما ولكن ما يحتاج الناس لتذكره لصلته الوثيقة بحاضرهم. على ان التوظيف الأيديولوجي للتاريخ هو مجال البراعة الايرانية. لا أحد مثل ايران يعرف أهمية التاريخ في الصراعات الراهنة، ولا أحد مثلها زيف التاريخ واعاد بنائه ليناسب سياستها الامبراطورية المتجذرة. وكانت المفارقة أن أوجه الاعتراض الذي ابدته ايران يتعلق بكون المسلسل لم ينقل التاريخ بأمانة.
على أن الفكرة الأساسية التي ألقى عليها المسلسل ضوء شديد التوهج، كانت تلك الاستراتيجية العسكرية التي اعتمدها الحشاشون والتي أصبح يطلق عليها اليوم مصطلح “الحرب اللاتماثلية” التي تستخدمها ايران والجماعات المرتبطة بها. تقوم الحرب اللاتماثلية على استغلال نقاط ضعف الخصم، واستخدام وسائل غير متوقعة، وشن عمليات عسكرية غير موازية. من خلال تكتيكات غير تقليدية، وأسلحة وتكنولوجيات مستحدثة. تتضمن هذه الحرب استخدام الحرب النفسية، وتكثيف الصدمة على النحو الذي يصيب الخصم بالعجز وجعله فاقدا لزمام المبادرة وحرية الحركة والارادة.
ولأن الحرب اللاتماثلية بمثابة استراتيجية شاملة، فهي لا تستثمر فقط نقاط ضعف الخصم ولكن ايضا نقاط ضعف الاتباع، وتوظف ثقافة المجتمع وحاجاته، وتستخدم طرق غير اخلاقية كما توظف الخرافة والخيال.
وهذه بالضبط الفكرة المركزية التي تقوم عليها فكرة حسن الصباح. ومهما قيل ان هناك نوع من المبالغة عند الحديث عن الحشاشين، إلا ان واقع الممارسة الايرانية والجماعات المرتبطة بها والتي تستخدم ذات الاستراتيجية، يضفي على المسلسل قيمة راهنية لم تتوفر في أي مسلسل تاريخي آخر.
أما قصة إنشاء نموذج للجنة على الأرض من قبل حسن الصباح لاستغلالها في خداع البسطاء، فالمقابل لها تزيين المقابر المخصصة لقتلى الحرب عند الحوثيين لتميزهم عن الأموات العاديين. أي أن هناك فكرة لترغيب الأتباع في الموت يجري دفعها الى طاقتها القصوى. صور قتلى الجماعة التي تخصص لها مطابع وامكانيات كبيرة تلعب نفس الدور. الى جانب ما يتم ترويجه عن هؤلاء القتلى ومعجزاتهم ولقاءهم بالحسين في الجنة وقصص كثيرة أصبحت من النوادر ومنها تلك المقولة الساخرة “في الجنة يأكل تفاح” علاوة على الرسومات التي تضفي هالة على ابرز قتلى ايران وحتى اضافة اجنحة لبعضهم. اذا كان هذا ليس تاريخا فهو حاضرا دون حتى استدعاء قصة المخدرات التي تنتشر بكثافة في محيط الجماعات المرتبطة بايران ومقابلتها بالحشيش على اعتبار ان هناك خلاف تاريخي حول سبب التسمية.
حتى الخرافات الواضحة التي وردت في المسلسل، لا أعتقد ان الهدف منها هو التصديق ولكن خلق جو عام للبيئة التي تخلقت فيها أفكار الحشاشين، وهذا جانب فني مهم، شأنه شأن مقدمات الحلقات التي هي أشبه بالتلخيصات. بالرغم من تبرير مخرج المسلسل ان الهدف منها هو التوضيح للمشاهد بسبب التعقيد في احداث المسلسل، غير انني لم أجد فيها توضيح مع استثناءات قليلة. الأقرب هو أن تلك التلخيصات شيء آخر مثل اللهجة ينتمي للزمن الحاضر. حيث اصبح معروفا انتشار ظاهرة تلخيص المسلسلات والافلام والتي اصبحت تجذب كثير من الناس الذين لا يمتلكون الوقت لمشاهدة المسلسلات والافلام كاملة الى درجة ان البعض اصبحت متعته قائمة على متابعة التلخيصات حتى بعد ان يشاهد العمل الأصلي. أي ان تلك المقدمات لعبت دورا في جذب شريحة من المشاهدين ودمجت لهم متعتين في آن واحد.
وجود شخصيتي الغزالي (نضال الشافعي) وعمر الخيام (نيكولا معوض) لعبا دور في رفع القيمة الثقافية والفكرية للمسلسل. ووجود الخيام أدى تقريبا نفس دور اللهجة المصرية بالنظر الى ارتباط الاسم في الذهنية المصرية بأجمل ما غنت أم كلثوم. حتى شخصية صهبان (محمد يوسف أوزو) التي هي لازمة في الدراما المصرية وغالبا دون الحاجة اليها، كان وجودها يضفي بعد آخر على شخصية عمر الخيام. قد ينفر الشاعر والمفكر من صحبة رجال السلطة او من لديهم نفس الاهتمامات. النوع الاول يكبل الشخصية المبدعة بينما النوع الثاني اما ان يدفع بالعلاقة الى عبء الجدية طوال الوقت او الخصومات، لهذا وجود صديق من عامة الناس شيء اصيل في حياة المبدعين وان لم يتحدث التاريخ كثيرا عن ذلك. هذا النوع من الاصدقاء يصبح بمثابة صلة عزيزة بالواقع وبالحياة في بساطتها وصدقها. أما لحظة لقاء عمر الخيام بصهبان في الحانة فمن المشاهد التاريخية النادرة. فكرة الاقتحام والعفوية كانت بارعة وتجاوزت مشاهد كثيرة كلقاء زوربا بالكاتب في رواية كازنتزاكي.
لقد جسد مسلسل الحشاشين المثل القائل: داويها بالتي كانت هي الداء. تنتج الجماعات الايرانية دعاية كثيفة قائمة على الصدمات وهندسة التشويش، فجاء المسلسل وأحدث صدمة مضادة، فهو عبارة عن طلقات متتالية مصوبة بإحكام نحو مستودع الأفكار التي تستلهمها هذه الجماعات وتبني عليها استراتيجيتها السياسية والحربية. فتح المجال لعقد الصلات بين الممارسات الحالية وبين الجذور التاريخية التي شكلتها، ونجح في صنع ثقوب تسمح بالرؤية وبدأ النور والهواء في التسرب الى الداخل، وهذا كفيل بإعطاب أشياء كثيرة.
أما المشاهد اليمني، فقد حظي أخيرا، بشيء من رائحة المرحوم. جاء المسلسل وكأنه قبس من روح عبدالناصر الذي قدم قبل ستين عاما وقاتل الى جانبنا ليحررنا من الطغيان الذي لا مثيل له. ولم يأتي بجيشه فقط، بل ومعه “صوت العرب” وفايدة كامل (في أغنية ثورة اليمن السعيد) وبالمعلمين والخبراء الذين كان لهم دور كبير في اخراج اليمن من عزلتها.