الحديث عن المسلسل السوري الشهير “ضبوا الشناتي”، والذي تم إنتاجه في سنوات سابقة وحقق نجاحًا باهرًا، ولم أتمكن من مشاهدته حينها. حديث عن التقاطات لا تلبث أن تجرنا من أعماقنا النازفة بقالب تراجيدي إلى أفق الدهشة بكل تجلياتها، دموع وضحك وتجربة وتأمل لا نهاية لهم، عن حياة تتلاشى رويدًا ولكن بعمر الفصول الأربعة لعام واحد منذ اندلاع الحرب في سوريا.
لم يحدث أن وثق أحدهم تفاصيل الكابوس بقالب فني ودرامي وقد صار صحواً لا نهاية لحممه القاسية وهي تلتهم التفاصيل والذاكرة والحكايات، كما يفعل الكاتب والسيناريست السوري الأشهر ممدوح حمادة، ذاك المبدع الذي لا نهاية لمفاجآته التي تترك أثرًا عميقًا في وعي المتلقي بكل جوارحه وانفعالاته.
في كل أعماله الدرامية، يسكب لها كل قدراته وعوالمه المعرفية والأدبية والفلسفية. ومنها مسلسل “ضبوا الشناتي” الذي يتناول عبر ثلاثين حلقة منفصلة فيه، تفاصيل الخراب وسيرته في الأمكنة والشخوص بكل ما بهم من وجود وسير لا نهائي. كيف يصبح أناس عاديون بكل حزنهم وفرحهم وما بقلوبهم من أغاني، بكل قصصهم وأحلامهم وغدهم الذي لم يكن أكثر من الأمس، مجرد صورة تذكارية لعائلة قضت بالهروب في “يم” أبكم بعد أن تمكنت المأساة من كل أشيائها. خمسة إخوة وأب وأم يعيشون حيوات متعددة ومتباينة واعتيادية في إحدى البلدات السورية القريبة من جبهات القتال، يجدون أنفسهم فجأة محاصرين بتفاصيل الحرب ونيرانها وبشاعة الفائضين عن هذه الحياة نفسها بكل آلاتهم ونواياهم. تقرر العائلة منذ المشهد الأول العمل بكل ما في وسعها للهروب من عدمية الحرب وأفعالها، إلى مكان آمن، لغرض النجاة ليس إلا، دون أن يدركوا أن لهذه الحرب الأكثر مأساوية أذرعًا كثيرة تتلمس كل التطلعات بنيرانها القاسية وتغتال الخطوة قبل أن تصير ميلاً واحدًا.
إذا وبكل يوم جديد توشم الحرب أثرها بكل فرد من أفراد هذه الأسرة سيئة الحظ، لتضطر معه لتأجيل السفر من اعتقالات واستغلال وجماعات متناحرة ومتطرفة سلعتها الإنسان، إلى نيران تلقى هنا وهناك تستنزف كل هذه الحوادث مدخرات العائلة وممتلكاتها وتؤجل مغادرتها للكابوس يومًا بعد آخر وتعيش تلك التحولات المرعبة وتلاشي الشعور.
من المشاهد المؤثرة لوصف هذا مشهد الشاب الانتحاري وهو يشدو برائعة وديع الصافي “ولو هيك بتطلعوا منا؟.. وما تعودوا تسألوا عنّا ولو عالقليلة تذكروا الماضي.. بسمة على شفاف الهوى كنا.. ولو ولو ولو هيك بتتركوا المجروح؟.. عفراقكم صفّى عآخر روح، متعوب فكره منكسر قلبه عفراقكم، روحه بتيجي وبتروح”، كما لو كانت هذه الأغنية التي رددها معه كل أفراد الأسرة التي كانت في البدء هدف الشاب الانتحاري، هي التوثيق الأخير لتفاصيل المحبة والشجن والضوء والبهجات والأمطار العابرة. وعندما تجد الأسرة نفسها محاصرة بكل ذلك، تبيع هذه الأسرة منزلها ولكنها لم تتمكن من مغادرته إذ صرفت كل قيمته أجارًا لهذا البيت نفسه وفديات قهرية بفعل التأجيل القسري لهروبهم المخطط له. هذا ما جعل أفراد العائلة يضطرون لبيع إحدى كلياتهم حتى يتسنى لهم تأمين تكاليف بديلة لرحلتهم نحو النجاة. وبعد أن يتسنى لهم ذلك ويغادرون منزلاً لم يعد لهم بمنزل، كما تهكم المتنبي في زمن ما، صوب أقدار أخرى أقل قساوة. في المشهد الأخير، يغرق القارب المتهالك الذي يقلهم نحو قدرهم الأخير، إذ يشبه خطوات وأقدارًا هشة لأناس وبلدان طالتها أبجدية القتل والتشرد والخراب إلى نهايات مفزعة. تغرق العائلة في مشهد النهاية ذاك، مثقلة بكل ما تبقى داخلها من أحلام وذكريات وحكايات وأمنيات وصارت مستحثات مستقبلية لغواصين مرفهين.
“ضبوا الشناتي”.. وثيقة حية تلملم كل تفاصيل الخراب بعين ساحرة وذاكرة متقدة لكاتب العمل وطاقم التمثيل من نجوم الدراما السورية ومخرج العمل الغني عن التعريف. عمل يفوق الوصف ويترك أثره مثل جمال تطرزه الكوابيس والخيبات والدهشة بكل تفاصيله التي لا نهاية لها.