في بحر الزمن اليمني الذي عصفت به الكثير من الرياح، كان هناك رجلٌ واحد كان بمثابة البوصلة التي وجهت تلك الرياح صوب الحقيقة، والعدالة، والتاريخ المشرق.
كان الراحل الجليل محمد حسين الفرح، المؤرخ الذي سخر حياته لاستكشاف الماضي اليمني وتوثيقه، أحد الأعلام الذين عملوا بجد لإعادة الإعتبار للذاكرة الجمعية للبلاد.
ولا يمكن أن يكون الحديث عن هذا الرجل مجرد سرد للإنجازات، بل هو تجسيد حي للمثابرة والتضحية والتفاني في سبيل قضية وطنية وقومية ضاق بها صدر الزمن، وأهملها البعض من أبناء البلد الذين لم يقدّروا عظمة التاريخ اليمني العريق.
إنه أحد أنبل الذين ساهموا في صيانة ذاكرتنا الجمعية إبن اب.. اب بلاد علي عبد المغني ومطهر بن علي وعادل الاحمدي والدكتور حمود العودي و محمد علي الربادي.. غير أن محمد حسين الفرح هو أيضا مثلهم أحد أهم الحالات الاشراقية في كتابة التاريخ اليمني وإعادة الاعتبار اللائق له.. فيما الأعمال العظيمة التي قام بها اعمال مؤسسية رغم جهوداتها الفردية.
وُلد محمد حسين الفرح في بيئة تربوية واجتماعية مكنت له أن يتفاعل مع التاريخ اليمني عن قرب. هو ابن أسرة ذات تاريخ حافل بالمواقف الجريئة والمبادئ الرفيعة. والده قاض حميري وهو من الشخصيات التي لها صدى في الذاكرة الوطنية اليمنية.
لكن محمد حسين الفرح لم يكن فقط ابنا لهذه العائلة المجيدة، بل كان فكرا مستقلا ينبض بحيوية المعرفة والبحث الدؤوب.
وبعلمه ودأبه كان واحدا من أئمة المؤرخين اليمنيين. متسلحا بالقراءة المستمرة والبحث النقدي. كان ينقب في الكتب والمخطوطات، يبحث عن الفترات المظلمة في تاريخ اليمن ليضيءها مجددا بشغف كبير جدا.
تولى منصب مدير عام التعاونيات والجمعيات بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من عام 1977- 1986م، ثم مدير عام الوحدات الإدارية والعمل الشعبي برئاسة الوزراء إلى عام 1993م ورئاسة الفريق الفني باللجنة العليا للانتخابات عام 92-93م وعام 1997م ثم عين مستشاراً للجنة العليا للانتخابات بدرجة وزير. ونشر الكثير من المقالات والدراسات الأدبية والتاريخية في الصحف والمجلات اليمنية والعربية منذ عام 1981م.
ولقد كانت جهود الفرح في جمع وتوثيق تاريخ اليمن أشبه بمشروع شخصي عملاق لا يستهين به إلا من يجهل فداحته. فمن خلال مؤلفاته التي لم تحظى بالتقدير الكافي، أسهم بشكل غير مسبوق في الكشف عن العديد من الفصول المجهولة في تاريخ اليمن القديم والحديث.
كان وعيه بالذات اليمنية حادا كالسيف، يقطع كل التزييفات التي كانت تمارس على الذاكرة الجمعية اليمنية. وبالرغم من أن هذه الأعمال لم تحظى غالبا بالاعتراف الرسمي أو الشعبي، إلا أنها ظلت علامات فارقة في الفكر التاريخي اليمني المعاصر.
من أبرز أعماله كان الكتاب الذي أصدره عن “مذحج”، ذلك الكتاب الذي وضع حجر الأساس لفهم أعمق وأوسع لهذه القبيلة التي لعبت دورا محوريا في التاريخ اليمني. لكنه لم يكن العمل الوحيد له، فقد خط العديد من الدراسات التي تناولت جوانب مختلفة من المجتمع اليمني، في إطار سعيه الحثيث لإعادة رسم صورة تاريخية دقيقة وواقعية عن البلاد.
من روائعه كتاب الثائر علي بن الفضل الحميري
كتاب الدور اليمني في العصر العباسي
كتاب شعر وشعراء اليمن في الجاهلية
كتاب اليمن في تاريخ ابن خلدون
كتاب تبابعة اليمن السبعين
كتاب يمانيون في موكب الرسول عظماء الصحابة والفاتحين اليمنيين ويقع الكتلب في 960 صفحة
كتاب تاريخ صنعاء الحضاري القديم
كتاب عروبةالبربر وقائع ودلائل انتقال البربر من اليمن إلى بلاد المغرب العربي، والجذور العربية اليمنية لقبائل البربر يقع في(150) صفحة
كتاب الجديد في تاريخ دولة سبأ وحمير مجلدين وزارة القافة والسياحة 2004م ويقع في (1600) .
لكن رغم هذا التميز العلمي، لم يكن الفرح محط إعجاب الجميع. ففي اليمن حيث يتداخل الدين بالسياسة بالعصبيات القبلية، كان هناك من يرونه خطرا على السردية السائدة، ومن بينهم “بني هاشم” الذين كان لهم دور في محاولة تهميش أعماله.
كان الفرح قد تعرض للعديد من الهجمات الفكرية والسياسية، بما في ذلك محاولة تجريده من قيمته العلمية والتاريخية. ومع ذلك، كان الفرح ثابتا في مواقفه، والحق أنه يعتبر من ضمن الأعلام السبتمبرية الذين تشربوا مبادئ الثورة وعاشوا من أجلها.
ولا يجب أن ننسى دوره السياسي، إذ كان الفرح منتميا للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري. كان هذا الانتماء يمثل رؤيته القومية التي تتجاوز حدود اليمن، رؤية تنادي بالوحدة العربية وضرورة الانفتاح على التاريخ العربي المشترك.
ومن خلال هذا التنظيم، استطاع الفرح أن يوظف معرفته التاريخية لرفع الوعي السياسي، إذ كان مقتنعا بأن التاريخ هو أساس بناء الحاضر والمستقبل.
في الحقيقة فإن الفرح كان أكثر من مجرد مؤرخ، كان حارسا للذاكرة الوطنية اليمنية.كان عمله لا يقتصر على دراسة الماضي وحسب، بل كان يهدف إلى تحفيز العقل اليمني للنظر في واقع اليوم من خلال مرآة التاريخ.
فالرجل الذي عاش حياته مناضلا فكريا، ظل يسعى لتغيير وجه اليمن من خلال التاريخ، ليس عبر الشعارات الرنانة، بل عبر الفهم العميق لما كان وما ينبغي أن يكون.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن محمد حسين الفرح قد أصابته يد الحسد والحقد من أولئك الذين حاولوا تهميش تاريخ اليمنيين وطمس هويتهم.
لم يكن هجومهم عليه مجرد هجوم على شخصه، بل كان هجوما على روح اليمن نفسها. لذا، يمكن اعتبار الفرح أحد الايقونات التي قاومت محاولات التجريف الفكري والروحي التي واجهها المجتمع اليمني في بعض فتراته، وهي مقاومة تكاد تكون أشد ضراوة من أي قتال عسكري.
أما واننا نعيش اليوم في زمن يعاني فيه اليمن من محاولات لطمس ذاكرته وتاريخه، يجب التذكير بمحمد حسين الفرح كواحد من أبرز العقول التي أعطت للتاريخ اليمني المهمش أو المسكوت عنه حقه. فيما أعماله تظل مرجعا لمن يسعى لفهم اليمن، وتوثيق فصوله المشرقة. قد تكون جهود هذا الرجل قد ضُيّعت في لحظة من اللحظات، لكنه لم يكن يوما ضائعا. بل كان أملا للذين يرون في التاريخ سبيلا لبناء وطنٍ عزيز، وإنصاف حق ضاع في زحام الزمن.
رحم الله محمد حسين الفرح، الرجل الذي ظل يقاوم التزوير والتجاهل ليرسخ في أذهاننا قيمة التاريخ اليمني العميقة، فهو الذي قال لي في لقاء معه لصحيفة الوحدوي لسان حال التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري التي عملت فيها كمحرر ثقافي على مدى سنوات ثلاث: “التاريخ هو الروح الحية للأمم، ومن يطمس تاريخه، يطمس روحه”.
لذلك نرى ضرورة إعادة طباعة كتبه كمهمة ثقافية ووطنية فالراحل محمد حسين الفرح لم يكن مجرد مؤرخ يمني عابر فحسب، بل كان أحد أعمدة الفكر الوطني الذين سهروا على إعادة بناء تاريخ اليمن وتوثيقه، محاربا التزوير والطمس الذي تعرض له هذا التاريخ على يد قوى وأطراف سعت إلى تحريف الحقائق.
من هذا المنطلق، يظل الفرح شخصية محورية في المشهد الثقافي اليمني، وتستدعي الحاجة الماسة لإعادة نشر كتبه وتحقيقاته بصفتها أعمال قيمة. وهذه المسؤولية تقع اليوم على عاتق وزارة الثقافة اليمنية، باعتبارها الجهة التي يجب أن تسعى للحفاظ على هذا الإرث الثقافي الوطني الغني الذي يملكه الفرح.
ثم إن الأعمال التي أنجزها محمد حسين الفرح، خاصة في مجال تاريخ اليمن القديم والحديث، لا تمثل مجرد كتب عادية، بل هي مصدر رئيسي لفهم وتفسير العديد من الحقائق التي تم طمسها أو إغفالها في مسار تاريخي طويل. فمن خلال مؤلفاته، استطاع الفرح أن يقدم دراسات معمقة أضاءت العديد من الزوايا المظلمة في التاريخ السياسي والاجتماعي اليمني.
لكن مع مرور الزمن، تعرضت هذه الأعمال لأشكال من الإهمال والتهميش، فغالبيتها نفذت وبعضها الآخر بقيت نادرة وغير متاحة للقراء والباحثين. فيما هذا الوضع يعكس حالة من اللامبالاة تجاه إرث فكري وثقافي من المفترض أن يكون مرجعا مهما للأجيال الحالية والمستقبلية.
ومن هنا، يأتي دور وزارة الثقافة في إعادة نشر مؤلفات الفرح بشكل موسوعي، ليس فقط لتمكين الباحثين والطلاب من الاستفادة منها، ولكن أيضا لإعادة الاعتبار للتاريخ اليمني بشكل عام.
على أن إعادة نشر كتب محمد حسين الفرح ليست فقط مسألة فكرية، بل هي مسألة وفاء لشخصية علمية ووطنية قدمت الكثير من أجل حماية الهوية الثقافية اليمنية.
لذلك يجب على وزارة الثقافة أن تنظر إلى هذه المبادرة باعتبارها واجبا أخلاقيا قبل أن تكون مشروعا ثقافيا. فنشر أعماله سيُعيد الاعتبار له كمؤرخ كبير وسيُساهم في إثراء المكتبة التاريخية اليمنية التي تحتاج إلى مثل هذه الإسهامات المتميزة.
ثم إن إحياء أعمال الفرح قد يفتح المجال أمام الدراسات الحديثة حول التاريخ اليمني، وقد يُسهم في تعزيز الهوية الوطنية في ظل التحديات الراهنة التي يواجهها اليمن. إذ يعد الفرح واحدا من الرموز التي رفضت التهميش، وسعت بكل قوة لتحفيز الشعب على استعادة ذاكرتهم الوطنية والتاريخية. فمن خلال أعماله، قد نجد مفاتيح لفهم العديد من القضايا السياسية والاجتماعية المعقدة التي يعاني منها اليمن اليوم.
كذلك فإن إعادة نشر كتبه وتوزيعها على نطاق واسع يمكن أن يُحفز الجيل الجديد على الاهتمام بتاريخهم، ويشجعهم على استكمال مسيرة الفرح في البحث والتوثيق. وهذا سيكون بمثابة عملية تجديد للهوية الوطنية اليمنية في زمن يعاني فيه الوطن من محاولات لتشويش الحقائق وطمس الملامح الثقافية للحضارة اليمنية. ما يجب أن تتولى وزارة الثقافة مهمة جمع كافة مؤلفات محمد حسين الفرح في مجلدات متكاملة، من خلال التأكد من استعادة جميع أعماله، وتنظيمها بشكل يسهل الوصول إليها.
كما يجب نشر هذه الأعمال بالنسخ الرقمية، حتى يتمكن المهتمون من الوصول إليها بسهولة.فضلا عن تنظيم ندوات ومؤتمرات علمية تحت رعاية الوزارة لتسليط الضوء على إسهامات الفرح، وعرض نتاج أعماله في فضاء أكاديمي يتناول مختلف جوانب الفكر التاريخي والسياسي في اليمن.
وأخيرا، يجب أن يتم إدراج أعماله في المناهج الدراسية، ليتعرف الطلاب على أحد أكبر المفكرين والمثقفين في تاريخ اليمن المعاصر.
ذلك أن تدريس فصول من كتب محمد حسين الفرح في التعليم الجامعي،. هو ضرورة لتفعيل الوعي الوطني وتوثيق التاريخ.
ففي زمن يتعرض فيه التاريخ اليمني للطمس والتحريف، يبرز الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه مؤلفات المفكر والمؤرخ الكبير محمد حسين الفرح في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الوعي الثقافي بين الأجيال الجديدة.
فلقد قدم الفرح أعمالا تاريخية هامة كانت ولا تزال مرجعا أساسيا لفهم تاريخ اليمن وجغرافيته السياسية والاجتماعية. لذا، فإن من الضروري أن تضع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بالتنسيق مع وزارة الثقافة، خطة لتدريس فصول من كتبه في التعليم الجامعي، خصوصًا في تخصصات التاريخ والدراسات الاجتماعية والعلوم السياسية.
تلك الكتب التي تحتوي على العديد من الجوانب المعرفية التي تميزت بالعمق والتحليل الموضوعي، وهي تتجاوز السرد التاريخي البسيط لتخاطب القضايا الكبرى المتعلقة بالتاريخ السياسي، الاجتماعي، والثقافي لليمن.
ومن خلال تدريس فصول من كتبه، يمكن للطلاب في الجامعات أن يتعرفوا على فترة هامة في تاريخ اليمن، ويكتسبوا مهارات التفكير النقدي والتحليلي، مما يسهم في تشكيل وعيهم الوطني،بل و يمكن للطلاب أن يستوعبوا الحقائق التاريخية التي شكلت هوية اليمن الحضارية، ويكتسبوا الفهم الصحيح لما يواجهه البلد من تحديات سياسية وثقافية. كما أن هذه الكتب تحتوي على دعوات واضحة لتوحيد الصف الوطني وحماية الهوية من محاولات التذويب أو التجريف الثقافي .
رحم الله العالم والمؤرخ الكبير محمد حسين الفرح، الذي بذل حياته في خدمة توثيق تاريخ اليمن، ساعيا إلى إعادة الاعتبار لماض عظيم كان يسعى البعض إلى محوه أو تشويهه.
رحم الله حارس الذاكرة الوطنية
رحمة الله إذ بذل جهدا مضنيا في تجميع الحقائق والتفاصيل التي يراد تضييعها في خضم الحروب الهاشمية على اليمنيين والتقلبات السياسية.!
*******
في الصورة الفرح مكرماً من قبل وزير الثقافة اليمنية الأسبق الأستاذ خالد الرويشان
وبعد عام على رحيل الفرح قال الرويشان عن الفرح ماهو أدناه
…..
خالد الرويشان عن محمد حسين الفرح
..
الزفرة الأخيرة!
يقال أنّ طائر البجع يتنهد تنهيدته الأخيرة أغنيةً حزينةً يختم بها حياته ، ويودّع بها عالَمه . ولقد كانت حياة المؤرخ الكبير محمد حسين الفرح تنهيدةً طويلةً تناثرت دقائقُ ضوئها بين سطور الكتب والمخطوطات ، وتطاير عبيرُ رذاذها ليرسم أبطالاً ، وينقش بطولاتٍ أوْحَتْ بها قراءاته التاريخية المتعددة وأبحاثه العلمية الدقيقة.
في أيامه الأخيرة ، ومثل بطلٍ أسطوري ، جعل من التنهيدة زفرةً تشتعل بالضوء كشهابٍ خاطف يشُقّ بضوئه عتمة الفضاءات .. بينما نحن نرقب بأملٍ راجف أن تطول رحلةُ الضوء قبل أن ينطفئ الشهاب المشتعل! كنا نرقب بالأمل أن تطول المسافة ، ونتمنى بالوهم أن تدوم رحلة الشهاب المندفع! ووحده محمد الفرح كان يعرف ميعاد النهاية وتوقيت الرحلة
لذلك ، فإنه حزم شعث روحه ، وشحَذها بالعزم ، وحوّل التنهيدة الطويلة إلى زفرة ، ودقائق الضوء إلى شهاب ..
فعل ذلك بصمتِ جمرةٍ ، وإصرارِ عزيمة. كان الرجل يضيء فحسب!
أكمل معظم مشروعاته البحثية المؤجلة، وتمّتْ طباعتها ، ولعله وقد سعد بذلك ، قد أسعد بها كثيراً من دارسيه ومحبيه.
في سنته الأخيرة ، ورغم المرض ، أنجز الكثير ، وكانت حيويته دافقة ، وسرعة بديهته حاضرة ، وبدا عود جسده دقيقاً رقيقاً ، بينما وقدةُ الضوء في داخل الجسد تزداد اشتعالاً واحتراقاً .. وكان يمشي بيننا ، ويجلس إلينا عارفاً بنهاية الاشتعال القريبة وانطفاءة الضوء المتوعّدة
سوف تطول أحزاننا على المؤرخ الكبير، ليس لغيابه فحسب ، بل لأن أحداً لن يملأ الفراغ الذي تركه في مجاله واهتمامه .. وإذا حاول أحدٌ فالأرجح انه لن يملك حماس الفرح وعشقه لتاريخ اليمن، .. وإنِ امتلك الحماس والعشق فإنه لن يمتلك تلك الذاكرة المتوقدة بالأسماء والتواريخ والأرقام والأماكن والشواهد! وإن زاد أحدهم فامتلك ذلك، فمن أين له صبر ذلك القلب ، وشجاعة تلك الروح وصراحة ذاك اللسان ، وتحدّي ذلك الجسد.
أمّا ما تصعُبُ مجاراته فيه، فيتجلّى ذلك في صِفتين :
عزّة نفسه، واعتزازه بوطنه حضارةً وإنسانا – وقد خبرت ذلك عن تجربة ، وتأمّلته عن قرب – وهاتان الصفتان هما عنوان هذه الشخصية ، وبوابة عالمها الكبير . ولقد كانت ساعته الأخيرة مشرقةً بسناء هذه العزة وقوّة ذلك الاعتزاز : مات واقفاً! وغادر وحيداً بين أولاده ، لم يتصل بأحد ، كأنه كان على موعدٍ مع انطفاءته الأخيرة!
لكنه كان في كامل توهّجه ويقظته!
وكانت يقظة فؤاده تلك من يقظة تلك الظهيرة الأخيرة التي رفرفت روحه محلقة في سمائها، وبعناد ليس مستغرباً على من عرفه ، أصرّ أن تكون آخر ومضات روحه في بيته وبين أولاده ، .. ومضى مضيئاً مُشعّاً تماماً كتلك الظهيرة التي غادرنا على متن شُعاعها المسافر.
في يوم وداعه الحزين المهيب، وبعد أن تمّت مواراة جثمانه الثرى ، عُدت إلى ” بيت الثقافة ” كي أشهد محاضرة في ” تاريخ الوشائج ” بين اليمن والشام لمحاضرٍ كبير قدِمَ من جامعة حلب في سوريا ، وضمن فعاليات الأيام الثقافية السورية في صنعاء ، وللمفارقة المحزنة ، كان من المفترض أن يكون المقدِّم والمعقّب – بحسب البرنامج الموضوع والمطبوع – هو ذلك الفتى الذي واريناه الثرى قبل دقائق باكية ولتوّنا!
وبعد أن وقف الجميع لقراءة الفاتحة ، وبدأ المحاضر وانتهى ، تحوّلَتْ أحزاني إلى كآبةٍ واجمة ، فقد اكتشفت وأنا أرقب الجمع أن أحداً لم يعلّق أو ينبس بكلمة أو فكرة على كلام المحاضر الذي أتى بالشواهد الأثرية المؤكدة وبالصور المؤكدة للخط المْسند اليمني القديم كان قد عُثر عليها في الحدود السورية اللبنانية في الفترة القريبة الماضية ، وهي تؤكد قدم العلاقة الحضارية بين اليمن والشام قبل الإسلام بآلاف السنين .. وكان هذا ديدن الأستاذ المؤرخ محمد الفرح، اهتماماً، وبحثاً، .. وولهاً! الحضارة الفينيقية غصنٌ ضخم من شجرة سبأ الهائلة!
في تلك اللحظة شعرتُ بهول فاجعة غياب المؤرخ الكبير أكثر من أي وقت! وطلبتُ الإذن من المحاضر، لا لأعلق على استنتاجاته المتطابقة مع رؤية واستنتاجات المؤرخ الفرح، بل لكي أشير إلى نقطتين:
أوّلها : الفراغ المفزع الذي نتج عن غياب الراحل الكبير.
وثانيها : إبداء الأسف لعدم وجود أكاديميين يمنيين في القاعة كي يسمعوا هذا الأكاديمي العتيد القادم من جامعة حلب وهو يؤكد استخلاصات ونتائج وأبحاث الأستاذ الفرح رحمة الله عليه
ماذا يبقى من محمد الفرح؟
يبقى محمد الفرح مكتملاً بفتوحاته العلمية، مزدهياً باكتشافاته البحثية، منتشياً بأبطال شعبه، وبطولات أمّته .. عشرات الكتب والمخطوطات والتي يقارب وزن أوراقها، ربما وزن جسده النحيل النبيل!
لم يكتب بحبر سُهده وحُمّى أرَقهِ فحسب، بل كتب بماء قلبه، وحُمْرة دمه، وبأس عظامه، وعناد أصابعه.
يبقى محمد الفرح، فَرَحاً عذباً ودائماً للأجيال العطشى الباحثة عن اليمن وأدواره التاريخية والحضارية وعظائم أقياله وتبابعته وأبطاله ..
يبقى محمد الفرح الباحث عن الحقيقة التي غيّبها أئمّة الظلام!
يبقى محمد الفرح قَيْلاً لهذا الزمان!
يبقى محمد حسين الفرح ذروة ً من ذرى هذه البلاد، خلوداً في كل وقت ، وإطلالةً بهيّةً في كل قلب .