الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة في حوار مع انزياحات
القصيدة التي تعبر عن هذا الواقع هي قصيدة كتبتها بعنوان بين الشظايا
في أزقة غزة التي تمزقها الحرب والحصار، تتعالى أصوات الانفجارات وتتوالى صرخات المفقودين، غير أن هناك أصواتا أخرى تهمس في صمت الليل وتنسج من الألم قوة، ومن الحطام نصوصا تخلد التجربة الإنسانية بكل تفاصيلها. وسط هذا الخراب المستمر منذ عام، تبرز الكلمات لتكون الشاهد الحي على معاناة الشعب الفلسطيني، وفي طليعة هؤلاء الشهود يقف الشعراء، الذين يجسدون في كلماتهم صرخات الأرض، وآلام الناس، وأحلامهم المؤجلة.
الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة هو أحد هؤلاء الأصوات، الذين اختاروا أن يحملوا الوطن في قصائدهم، ليصبح الشعر بالنسبة له ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل وسيلة للصمود والمقاومة في وجه الواقع القاسي. في ظل الحرب التي تعصف بقطاع غزة، تمثل يومياته ومجموعاته الشعرية تجسيدا حيا للصراع بين الحياة والموت، بين الأمل واليأس. في هذا الحوار، نتعمق معه في تجربته كشاعر يعيش في قلب هذا الجحيم، ونحاول أن نستكشف كيف تحولت الحرب إلى مادة شعرية، وكيف يمكن للكلمات أن تنقل معاناة شعب بأكمله.
حاوره: فتحي أبو النصر
في البداية، حدثنا عن تجربتك كشاعر يعيش تحت وطأة الحرب المستمرة منذ عام. كيف أثرت هذه التجربة على نصوصك؟
الحرب ليست فقط حالة جسدية متمثلة في الخراب والانفجارات والموت، بل هي حالة نفسية وجودية تعيشها بكل تفاصيلك. بالنسبة لي، لم تعد الحرب مجرد حدث مؤقت أو فصل عابر، بل أصبحت جزءا لا يتجزأ من يومياتي ومن هويتي كشاعر. هذه التجربة أثرت على نصوصي بشكل عميق، لأن الكتابة لم تعد رفاهية أو ترفًا، بل أصبحت وسيلة للبقاء، لأتنفس وأحافظ على عقلي في خضم هذه الفوضى. أصبحت القصائد تحمل في طياتها ثقلا أكبر، وكأن كل كلمة تنبثق من بين الأنقاض. في كل نص أكتبه، أحاول أن أمسك بتلك اللحظات الدقيقة التي تمر بها الروح في مواجهتها للموت، للعزلة، للفقدان. أعتقد أن الكتابة، في ظل الحرب، تصبح أشبه بعملية إنقاذ، حيث تحاول من خلالها الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتك.
*” الشعر لديه قدرة على التحليق فوق الجدران والحواجز، على الوصول إلى الناس في أي مكان”
كيف ترى دور الشعر في توثيق المعاناة اليومية لشعب يعيش تحت الحصار؟ وهل تجد أن الشعر قادر على نقل ما تعجز عنه وسائل الإعلام؟
الإعلام، مهما كان قويا ودقيقا، لا يمكنه أن ينقل الأحاسيس الكامنة خلف الصور. قد ترى صورة بيت مدمّر أو طفل يبكي، لكن ما لا تراه هو الرائحة التي تملأ الهواء بعد الانفجار، أو صوت القلوب المكسورة التي لا تُسمع. هنا يأتي دور الشعر. الشعر قادر على أن يغوص في أعماق المعاناة، ليس فقط بوصفها، بل بإحيائها من جديد. الشعر يعيد للذاكرة طابعها الحي، يجعل اللحظة أكثر من مجرد معلومة أو حدث، بل حالة شعورية تتفاعل مع القارئ. في غزة، الحصار ليس فقط على الأجساد، بل هو حصار والحرب على الأحلام والرغبات والمستقبل. والشعر لديه القدرة على كسر هذا الحصار ومواجهة الحرب، لأنه يعبر الحدود ويربط بين الناس، يجعل من المعاناة قصة إنسانية يستطيع الجميع فهمها. عندما أكتب عن الحرب والحصار، أحاول أن أنقل للقارئ ليس فقط الأحداث، بل كيف يشعر الشخص من الداخل، كيف يتفاعل عقله وروحه مع كل هذا القهر.
هل تعتبر يومياتك الشخصية في ظل الحرب جزءا من مشروعك الأدبي؟ وكيف توازن بين التوثيق الحميم والشعر الفني؟
يومياتي هي جزء لا يتجزأ من مشروعي الأدبي، لأنني أعيش هذه الحرب بكل تفاصيلها، ومن الطبيعي أن تتسرب إلى كتاباتي. اليوميات تمنحني مساحة للتأمل الذاتي، ولتوثيق اللحظات الصغيرة التي ربما لا تجد لها مكانا في القصائد الكبرى. في يومياتي، أكتب عن الأشياء التي لا يمكن أن أكتب عنها شعريا، تلك التفاصيل التي تبدو عادية ولكنها تحمل في طياتها الكثير من الحزن، أو ربما الأمل.
أما بالنسبة للتوازن بين التوثيق والشعر، فأعتقد أن هناك خطًا رفيعًا بينهما. لا أريد أن تتحول نصوصي إلى مجرد تقرير صحفي، ولا أريد في الوقت ذاته أن أفقد الواقعية التي تمنح النص قوته. أعمل دائمًا على أن أحافظ على حساسية اللغة الشعرية، حتى عندما أكتب عن أكثر اللحظات واقعية. أحيانا، التفاصيل الصغيرة في اليوميات تحمل جمالًا شعريًا بذاتها، ولا تحتاج إلى الكثير من التعديل أو التحوير.
الحرب تجعل الذاكرة أكثر إلحاحا، لأن النسيان يعني التخلي عن التاريخ، عن الحلم الفلسطيني الذي نقاتل من أجله
في قصائدك، يتجلى كثيرا الحديث عن الذاكرة والنسيان. كيف ترى العلاقة بينهما في ظل الأحداث التي تمر بها غزة؟
الذاكرة هي السلاح الأهم في مواجهة النسيان، وخاصة في ظل الظروف التي نعيشها. في غزة، حيث يتكرر الموت والفقدان بشكل يومي، يصبح النسيان خطرا حقيقيا. كيف ننسى الذين رحلوا؟ كيف ننسى البيوت التي دُمّرت؟ الحرب تجعل الذاكرة أكثر إلحاحا، لأن النسيان يعني التخلي عن التاريخ، عن الحلم الفلسطيني الذي نقاتل من أجله. في نصوصي، أحاول دائمًا أن أستحضر الذاكرة كفعل مقاومة، مقاومة للنسيان الذي يحاول أن يبتلع كل شيء.
لكن، في نفس الوقت، هناك حاجة للنسيان على مستوى شخصي، كي نتمكن من الاستمرار. الحرب تُثقل كاهل الإنسان بالذكريات المؤلمة، ومن دون نوع من النسيان، يصبح العيش مستحيلا. لذلك، في قصائدي تجد دائمًا هذا الصراع بين الذاكرة التي أريد أن أحافظ عليها، والنسيان الذي أحاول أن أتجاوزه، أو ربما أقبله كجزء من الشفاء.
الكتابة، في ظل الحرب، تصبح أشبه بعملية إنقاذ، حيث تحاول من خلالها الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتك
هل تجد أن هناك تحديات خاصة تواجه الشعراء في مناطق النزاع والحروب؟ وكيف تتعامل مع هذه التحديات في كتاباتك؟
التحدي الأكبر هو الاستمرارية. في ظل الحرب، تصبح الكتابة عملاً شاقا. كيف يمكنك أن تكتب عندما تكون حياتك الشخصية في حالة فوضى؟ عندما تفقد أصدقاء أو عائلة، أو عندما ترى مدينتك تتلاشى أمام عينيك؟ هذه الظروف تجعل الكتابة فعلا من أفعال المقاومة، ليس فقط ضد العدو، ولكن ضد الإنهاك النفسي. أحيانا أشعر أنني أكتب لأني لا أستطيع أن أفعل شيئًا آخر. الكتابة تصبح طريقتي في الحفاظ على نفسي، طريقتي في مواجهة الألم والدمار.
كما أن هناك تحديًا في الوصول إلى الجمهور. في مناطق النزاع، قد يكون من الصعب نشر الأعمال أو إيصالها للعالم الخارجي. حيث لا كهرباء والإنترنت قد تتصل به بصعوبة بالغة وأحيانا خطرة، يبقى هناك شعور بالعزلة الثقافية. لكن رغم كل هذه التحديات، أعتقد أن الشعراء في مناطق النزاع لديهم قدرة خاصة على التعبير عن تجارب لا يمكن للآخرين فهمها. نحن نكتب من مكان ألم حقيقي، ومن هذا المكان تأتي قوة النصوص.
ما النص أو القصيدة التي تشعر أنها تمثل أقرب تعبير عن واقع الحرب؟ ولماذا؟
أعتقد أن القصيدة التي تعبر عن هذا الواقع هي قصيدة كتبتها بعنوان “بين الشظايا”. هي قصيدة قصيرة ولكنها مكثفة، تتحدث عن تلك اللحظة التي تقف فيها بين الحياة والموت، عندما تشعر أن كل شيء من حولك يتداعى، ولكنك ما زلت متمسكا بخيط رفيع من الأمل. في تلك اللحظة، يصبح كل شيء واضحا، تدرك ما هو المهم حقًا وما يمكن أن تفقده دون ندم. هذه القصيدة هي محاولة لتجسيد تلك اللحظة الإنسانية التي تجمع بين الخوف والأمل، بين الفقدان والرغبة في البقاء.
باعتبارك شاعرا فلسطينيا، كيف ترى دور الشعراء في توحيد الصوت الفلسطيني العالمي، خاصة في أوقات الحرب؟
الشعراء الفلسطينيون لديهم مسؤولية كبيرة في توحيد الصوت الفلسطيني على مستوى عالمي. نحن لسنا فقط شهودا على ما يحدث، بل نحن أيضا سفراء لهذه القضية. العالم يعرف فلسطين من خلال الأخبار والتقارير، ولكن الشعراء يقدمون رؤية أعمق، رؤية تتجاوز السياسة والأرقام. نحن نكتب عن الإنسان، عن الأحلام، عن الخسائر الصغيرة التي لا تُذكر في الإعلام، وعن الأمل الذي لا يموت.
في أوقات الحرب، يصبح دورنا أكثر أهمية، لأننا نحتاج إلى إيصال صوتنا إلى العالم بطريقة تتجاوز الحواجز. الشعر لديه قدرة على التحليق فوق الجدران والحواجز، على الوصول إلى الناس في أي مكان. لذلك، نحن نحاول أن نكون الجسر الذي يربط بين التجربة الفلسطينية والوعي العالمي.
هل من مشاريع مستقبلية تعمل عليها حاليا؟ وهل تعتقد أن الحرب ستظل موضوعًا محوريًا في كتاباتك المقبلة؟
بالإضافة إلى كتاب اليوميات المستمر، أعمل حاليًا على مجموعة قصصية تحمل عنوان “العصافير لا تعرف الحرب”، ترصد قصص وحكايات الناس أثناء عيش ظروف الحرب، وتدور حول مفهوم “ما بعد الحرب” وهو محاولة لخلق الأمل. أعتقد أن هذا هو الموضوع الذي يثير اهتمامي الآن. كيف يستمر الناس بعد كل هذا الألم ؟!
خاتمة قصيدة: “بين الشظايا”
أمشي كأني نبتُّ من رماد الزمان،
كأنَّ الريحَ تسألني: هل ما زلتَ أنت؟
أنا الذي ضيَّع الطريق،
وبحث عن وجهه في زجاج النوافذ المحطمة.
بين الشظايا،
أتلمس وطني المنسي في عبق الغبار،
وفي عيون الفقد،
أبحث عن صوتي بين الحطام،
فلا أجد سوى صدى الخطى
يخبرني أن الوقتَ قد غفا
بيننا وبين الفجر.
بين الشظايا،
يتكسر المعنى،
وتتشكلُ قصيدةٌ من وجوه الغائبين،
هل تعرفني؟
أنا الذي عانق الظلّ حين هجرته الشمس،
أنا الحلمُ الهاربُ من موتٍ مؤجل.
بين الشظايا،
يعلو صمتٌ كثيف،
كأنَّ المدينةَ تُقاومُ صوتها،
ونحنُ – الباقينَ على حافة الفكرة –
نُعيد كتابة تاريخٍ جديدٍ
على جدارٍ لم يبقَ منه سوى حجرٍ وحيد.
بين الشظايا،
نحنُ لا نحلم، بل نسكن الحلم،
نمدُّ أيادينا للغيمِ
ونقول: غدا سنكبرُ،
وغدا سيسقط الليل عن أعيننا،
فهل تعودُ؟
هل تزهر الحقول في هذا الرماد؟
أم أن الشظايا هي الحقيقةُ الأخيرة؟
بين الشظايا،
نُولدُ من جديد،
نخطو خطوةً للأمام
ونترك أرواحنا خلفنا،
لتنام في حضن البلاد.