حوار

ياسين الحاج صالح: شعاري العدل ولو انهار العالم!

ياسين الحاج صالح انزياحات
ياسين الحاج صالح انزياحات

في مصاف المثقفين العرب الندرة، تضعه كتاباته ذات التجلي الروحي والإنساني، كما أن وعيه المغامر في الحفر المعرفي، يكشف عن التشويش السائد الذي تبثه مجمل السلط في الوعي. إنه السوري الرفيع ياسين الحاج صالح الجدير جداً بالتقدير والاحترام، كما بالحب.. في هذا الحوار يحدثنا عن القدرة الاستبصارية للثقافة العربية وأسباب تخلفنا المادي والذهني، إضافة إلى رهان المثقف الحقيقي اليوم، ونوعية القيم المهيمنة في حياتنا الخ.

خمسون عاماً إلا قليلاً هو عمره (تاريخ المقابلة مع انزياحات 2010)، وكان قضى قرابة 15 عاماً في المعتقل كسجين رأي. على أن اسمه المعروف في أرقى الصحف العالمية والعربية، صار يمثل قيمة خلابة ككاتب وباحث يتسق تماماً مع شجنه الحر باتجاه العقلنة والتحديث.. لذلك يظل اسمه كمناضل ثقافي عتيد، مرتبطاً دائماً بالتنوير والإصلاح، كما بالحس الجرسي الذي يرن محذراً كلما تبلدت رؤى الدمقرطة والفكر.. إلى الحوار:

حاوره: فتحي أبو النصر

دعني افترض أن التاريخ قد برهن لك يوماً عكس ما ذهبت إليه من رؤى وتصورات وأفكار خلال مشوارك المعرفي؛ فيما أريدك أن تتحدث عن ذلك ببراءة إن حدث؟

والله لا أعرف. «مشواري يتشكل (وآمل ألا يتشكل) في «مشروع» أو «مذهب» بحيث يواجهه «التاريخ» يوما بعكس ما يتضمنه من «روّى وتصورات وأفكار». ريما المذاهب الناجزة هي التي تواجه بانقلابات درامية كالتي يتصورها سؤالك.

لكن على مستوى أقل درامية لا يكف الواقع عن معاكسة تصوراتنا وأفكارنا. وأظنني آخذ علما بذلك وأحاول تطوير أفكاري ومواقفي متخلياً عن شيء ومنفحتاً على شيء وعاملا على إدماج أبعاد جديدة للواقع فيما أكتب.

فإن كان لافتراضك أن يتحقق يوما وبالصورة التي تكلمت عليها رغم كل شى آمل أن تواتينى الشجاعة للتوقف عن الكتابة نهائيا.

 

هل فقدت الثقافة العربية القدرة على الاستبصار؟

تعني تقدير العواقب توقع الآتي؟ التوجه السديد في الواقع قد برهن لك يوماً عكس ما ذهبت الواقع عن معاكسة تصوراتنا وأفكارنا، الثقافة العربية ثقافة قوم لا يتحكمون بشروط حياتهم بالعكس، هذه تتحكم بهم وتجرفهم، وتضعهم في موقع المنفعلين والسمة الجوهرية لشروطنا المعاصرة في تقديري هي انقطاع تأثير الثقافة على شروط حياتنا.

فمهما تكن سوية ثقافتنا فإنها معاقة عن ممارسة أثر فاعل على أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية ومصدر الإعاقة المباشرة سياسي. يتمثل أساسا في سلطات متدنية المستوى الفكري والسياسي والأخلاقي لكنها مسيطرة وحصينة وتجد في الثقافة فضولاً زائداً أو مساءلة غير مقبولة لها. لكن من ناحية أخرى إبداعية ثقافتنا المعاصرة متواضعة فعلا. للأمر علاقة بكل من وضع المدينة المربية ووضع الطبقة الوسطى المتعلمة ومستوى الحريات العامة فى بلادنا. وكذلك مفعول التقاء انقطاعنا عن التراكم القديم في ثقافتنا الكلاسيكية. مع ضعف التراكم الإبداع في ثقافتنا الحديثة. وكذلك ذهنية الاكتفاء الإسلامي (أغنانا الله بالإسلام عن كل شيء آخر..). وأخيرا ايضا اللغة العربية التي يبدو لي أنها في وضعها الحالي لا تتيح انفتاحا واسعا على المحسوس والخبرة والتجارب الشخصية.

فى المحصلة تفقد ثقافتنا القدرة على تزويد العرب بعالم مختلف. نحتاج إلى صنع عالم كي نعلمه وكي نقدر على «الاستبصار» فيه.

 

– متى سينتج العقل العربي المعرفة كما ينبغي؟

حين يواجه أغلاله بشجاعة. الغل الديني والغل السياسي تحديدا. لا يزال الدين: الإسلام. هو إطار المعنى الأساسي في ثقافتنا. ويخيل لي انه لا يتشكل إطار جديد ومتجدد للمعنى دون اشتباك متعددة الجبهات فكري ونفسي وسياسي واجتماعي وأخلاقي، مع الدين. لعلنا في حاجة على هذا المستوى إلى ضرب من القطيعة أو الانفصال المحرر الذى من شأنه أن يعيد كسب الدين ذاته كثقافة وروح إنسانية. هذا أساسي. و«النهضة» هي المحصلة المأمولة لهذا الاشتباك – على مدى أقصر وأقرب وأكثر إلحاحا يلزم أن نواجه أغلالنا السياسية باسم العدل والحرية. أوضاعنا الراهنة بشعة لأنها جارة جدا وتعسفية جدا. وأسلم أن من شأن قدر اكبر من العدالة ومن الحرية أن يسهلا تحدي «العقل العربي» لأغلاله الدينية.

وذو أهمية حاسمة الآن وفي كل وقت تنويع المرجعيات الثقافية المحتملة لتفكيرنا وعدم الانحصار فى مرجعية واحدة. كلما كان اطلاعنا أوسع على الثقافة الغربية الحديثة كان ذلك لمصلحة ترقي ثقافتنا وقدرتنا على إنتاج المعارف. لكن مهم أيضا أن نتعرف على ثقافات أخرى. الغرب ليس العالم. وأفترض أنه يمكن للصين والهند. لروسيا والبرازيل لتركيا ولإيران ولأفريقيا… أن تعلمنا أشياء عظيمة.

– بالتحديد ما هي الرؤية الفكرية التي لم يحسمها بعد ياسين الحاج صالع؟

لا أعرف أن كنت حسمت شيئا. هناك قضايا كبيرة يتعين أن تناقش وتوضح وتعالج: الدين. الدولة. العالم المعاصر ومركزه الغربي. هذه القضايا اهتمت بها إيديولوجياتنا الكبرى المعاصرة: القومية والديمقراطية والعلمانية: التي يمكن أن تكون منطلقات لمعارف أكثر انضباطا أو مواضيع لعلوم إنسانية مهمة: علوم الدين بما فيها فلسفة الدين وعلم الاجتماع الديني وتاريخ الدين… وعلوم الدولة التاريخية والاجتماعية والفلسفية والقانونية أيضاً وعلم العالم المعاصر والعلاقات الدولية وما إليها.

لكن بالفعل هناك قضية تؤرقني حاليا: هل إن أحوالنا المعاصرة تتغير كما تتغير أحوال غيرنا عبر دمقرطة نظم الحكم واتساع مجال المشاركة السياسية والحريات العامة… أم أن هناك بعدا تأسيسيا ضروريا، يطال الثقافة والدين واللغة. ويضاف إلى البعد السياسي من أجل إقلاع عملية التغيير؛ أشعر بالحاجة إلى شيء على المستوى الثقافي. شيء يتصل بالدين بخاصة. من أجل أن يقوم التغير السياسي على أسس صلبة. فى الوقت نفسه أنا ناقد للثقافوية التي تفسر أوضاعنا المعاصرة بحال الثقافة. والدين بخاصة وترهن تغيرها بتغير ثقافي وديني.

هذه إن شئت «رؤية فكرية» غير محسومة عندي. ما أنا ميال إلى “حسمه” هو أن العلاقة بين تقدمنا والدمقرطة المأمولة وبين العمل الثقافي التأسيسي ليست ديني أو نهضة ثقافية. لكن ترتيب أوضاع الدين ونهوض الثقافة يجعلان تقدمنا أكثر صلابة وأكثر إبداعية ذاتهما وبصرف النظر عن انعكاساتهما المحتملة على تقدمنا العام. الاجتماعي والسياسي.

 التخلف المادي والذهني الذي جعلنا نصنم السائد في الأدب والفكر والفن.. إلى ماذا تعزي أسبابه الرئيسية؟

هل “نصنم السائد في الأدب والفكر والفن”؟ وما هو هذا السائد؟ أخشى أنه ليس لدينا سائد في هذه المجالات. وما لدينا من سائد هو من طبيعة دينية اعتقادية. متشكك حيال الثقافة والإبداع. ومضيق لقاعدتهما البشرية. إن كان لنا أن ننتج أدبا وفكرا وفنا فالأمر يمر في تقديري عبر الاشتباك مع النظرة الدينية للعالم. أقول هذا وأنا لست ممن يعادون الدين أو يكنون انفعالا موتورا ضده. جوهر الأمر أن مثال السيادة والعبدية (أو العبودية) في ثقافتنا هو المثال الديني. فلا سبيل لتكون تصورات جديدة للسيادة والتبعية دون منازعة هذا المثال أو الصراع معه. وفى الجوهر أيضا أن مثال الإبداع هو الخلق الإلهي. فهل يتكون تصور جديد للإبداع دون اشتباك مع هذا المثال؟

سألاحظ أنه خارج هذا “السائد”. هناك منطق السوق يتحكم أكثر بالنتاج الثقافي العربي. الفني خصوصا لكن الأدبي والفكري كذلك: وقلما يقاومه المثقفون أو يطرحون على أنفسهم مهمة مقاومته. أما الحكومات فيبدو أنها ترتاح إليه. ولعلها تعتبره إلهاء ضروريا للعامة الذين تحتقرهم وتخشى تمرداتهم وعنفهم.

– على ماذا يراهن المثقف الحقيقي اليوم ومسؤوليته قد دخلت في طور الالتباس حتى صارت عبئاً عليه في كثير أحيان؟

ريما على النقد. وعلى تحطيم الأصنام بما فيها صنم “المثقف الحقيقي”. وعلى الصبر والتهكم. وعلى ما أسميه “اليأس البناء”، أعنى فصل الثقافة عن المنفعة و”الحل” وعدم توقع ثمرات عاجلة للعمل الثقافي.

هل تبقى شيء من المثاليات في ظل الانهدامات المريعة التي جرت داخل الوعي العربي في مختلف مراحله؟

دعنا نميز ببن مثاليات السلوك العملي المرغوبة أو حتى الواجبة دوماء وبين مثاليات التفكير سواء تفسير العالم بالأفكار أو رسم مشاريع خيالية في الذهن وإرادة تطبيقها في الواقع. ورأيي أننا! أعنى المثقفين الذين أظن أن سؤالك يحيل إليهم. أقل مثالية مما ينبغي على المستوى الأول. كثيرون مناء وربما أكثرنا، لا يقولون لا لمال مغر أو لسلطة قادرة أو لهوية موروقة. يدعون إلى كل ما هو قيم في العالم، لكن صدقيتهم محدودة، في بالي وأنا أقول ذلك بعض أشهر المثقفين السوريين. وقد يكون هذا الضعف غير المشرف هو مبعث المثالية بالمعنى الثاني. يعتصم مثقفون بمجردات ومثل عليا برانية (من وجهة نظر العمل الاجتماعي في بلدانهم) لأنهم في واقع الحال راكنون إلى ما هو واقع، وإلى أسوأ وجوه ما هو واقع. ريما يبحثون عن شيء من توازن في ذلك. وربما يكون الاعتصام بمثل برانية وسيلتهم لاتهام الواقع بالجمود. بدل مراجعة منظوراتهم الذاتية وقيمهم المجردة.

إن كان هذا حال المثقفين فمن غير المحتمل أن يكون حال الوعي الدربي مبرأ من “الانهدامات المريعة “. نحن في رأيي فاقدون اليوم لمثل جاذبة. مثل شخصية أو “قدوات حسنة “. ومثل مجردة أو أفكار منشطة وطوباويات ملهمة. لكن مرتبطة بتطلعات العدل والحرية عندنا وبصراعاتنا الفعلية.

كيف يمكن للوعي العربي أن يقاوم شرور الانحطاط المتدافعة عليه جراء أفكاره المرسخة؟

مرة أخرى بأن يقاوم أغلاله. لن ينقذ وعينا شرفه دون أن يحطم أغلاله أو “أفكاره المرسخة”. أيضا بأن يدافع عن العدل بأي ثمن. ولو مقابل التضحية ب”الاستقرار” أو “الوحدة الوطنية”. لو بثمن “الفتنة”. شعاري الشخصي: العدل ولو انهار العالم! وأرى أن ثقافتنا ستكون أكثر تعافيا بقدر ما تعلي من قيمة العدل على الاستقرار والوحدة والصمود وما إليها.

 

ما الذى جعل الثقافة هامشية أو مهمشة.. ثقافة الإبداع والتنوير. لا ثقافة الرداءة والعتمة.. الثقافة الفريدة التي تسارع الأفكار.. لا الثقافة بمفهومها الديماغوجي المستهلك؟

فى الأساس ربما نوعية القيم المهيمنة فى مجتمعاتنا المعاصرة. قيم السلطة والمال والقرابة والتدين. مقابلها تندحر قيم العمل والعلم والكفاءة والتفكير النقدي. ثقافة الإبداع تنتمى إلى عالم القيم الأخيرة وتقديري أن لاستقرار نظم الحكم في البلدان العربية، طوال عقود دوراً هائلاً في التخريب السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي.

هذه النظم لا تؤمن بشيء ولا حرمة لديها لغير دوام ما هذا يجعل محكوميها مصدر الخطر الأول. ولطول استقرارها في الحكم فقد نما لديها غرور هائل وفسدت أخلاقيات كوادرها، وتحولوا من “أولاد بلد” إلى طغم شرهة وعنيفة ومتحجرة القلب ومعدومة الضمير تمعن تفكيكا ولمجتمعاتها ونهبا للموارد الوطنية والطبيعية لبلدانها. هذا أسوأ من احتلال أجنبي.. من أين تأتي ثقافة الإبداع والتنوير؟ وكيف لها أن تزدهر في شروط كهذه؟ زوال هذه السلطات، ولو بثمن باهظ على المدى القريب. هو شيء أنحاز إليه. أعتقد أن الثقافة والفكر يتنشطان بعد كل تغير سياسي.

 

– مصادرة الحريات الأساسية للجماهير إلى أين ستؤدي بحقوق الإنسان الفرد؟

“إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم”! لا تصان حقوق الإفراد في إطار لا يصون حريات الجمهور العام. أعني بالطبع الفرد المسؤول الذي يعتبر نفسه فاعلاً أخلاقياً، أما الفرد الأنانى؛ صاحب السلطة أو الثرى الموسر أو الوجيه النافذ فقد بجد في تبيد حريات الجمهور الواسع ما يشعره بالأمان ويبهج فؤاده. وأخشى أن في ثقافتنا المعاصرة تيارا نخبويا غير ضئيل. ينتسب له مثقفون مكرسون هنا وهناك، يرتاح إلى التعامل الغليظ مع الجمهور العام الذي يبدو له مثالا للظلامية والتعصب ويعبر عن ازدراء لما يسميه “الشعبوية”. لا تخفف منه روح أريحية أو تسامح أو دفاع عن لأول مرة في تاريخنا الحديث يجري* مضادة جوهريا للثقافة. واحيانا يجري الكلام على تنوير من قبل أناس على عداء عميق للروح الديمقراطية للتنوير.

 

أخيراً: ما منبعنا في الإقصاء كعرب.. والى أين سيتجه بنا اللاتسامح؟

أتشكك كثراً في نسبة “الإقصاء” واللاتسامح إلى “العرب”. لدينا مشكلات متنوعة غير محلولة على الدولة والسياسة. وعلى مستوى العلاقة مع العالم المعاصر ومركزه الغربي بخاصة. لكن يبدو لي أن في إقامة معادلة بين العرب والإقصاء. أو بين الإسلام والإقصاء، ركون إلى ضرب من التشريط الثقافي الإيديولوجي، بل “الميديولوجي” في الواقع، تتكفل بتثبيته أجهزة جبارة. غربية خاصة، وتجتره بكل بلاهة واتضاع أجهزة متنوعة لدينا.

هذا لا يعني أننا مثال للاستيعاب والتسامح. لكن سمة التشريط المذكور أنه يركز لواء إقصائنا ولا تسامحنا المزعومين في صميم ثقافتنا وفي جوهر دين الإسلام وربما في “العرق العربي”. هذا شيء لا يصح لنا مجاملته والسكوت عنه. بالضبط لأنه متعصب وننتقد الإسلام ذاته لأننا نتطلع إلى التسامح والمساواة، ولكن كذلك لأننا نعتقد أنه لا تعارض جوهريا بين ثقافتنا والتسامح والمساواة والحرية تلك. هذه عقيدتي على كل حال.

بعد قول ذلك هناك صيغ إقصاء متنوعة في اجتماعنا المعاصر تسوغ نفسها بمنطق ديني أو بدواع سياسية لكن تحركها دوماً نوازع التسلط، على الناس ونيل امتيازات على حسابهم. فإذا والإقصاء ظواهر تاريخية، أي مشروطة تاريخية: أمكن لنا تطوير نقد ضارب هويتهم وجدارتهم الإنسانية والحضارية.