حوار

عبدالكريم كاصد: لا أريد أن أعرف الشعر… أريده أن يعرفني

في حوار مع فتحي أبو النصر

عبدالكريم كاصد
عبدالكريم كاصد (ألحوار المتمدن)

1- مجموعتك الصادرة العام 1989 بعد تجاوزك الخمسينات بقليل (دقات لا يبلغها الضوء) اتممتها بالمقطوعة التالية تحت عنوان (حكمة الخاتمة):

يصعد بالدهشة إلى أوجها ويتماهى مع البعيد..

جيدا يغري بالالتحام معه:-

غامضا حد البساطة /بسيطا حد الغموض

“في الحقائب وجد ذاته “!

وفي الشعر:- “يستعيد العالم بفوضاه ليحدق فيه ويعيد ترتيبه ثانيةً”

انه المتحقق في الشعر بوصفة حياة بكاملها الشاعر الكبير عبدالكريم كاصد

أثناء زيارة ل صنعاء كان لنا معه هذا الحوار

فيما يظل كاهنا لفراشة السر

لم أكن أدري إنّ ما قطعته ذاهباً

كان طريق الإياب

وأن أحلامي ورائي

وأنني لم أكن غير ظلٍّ يمشي

لرجل واقف

هذا النص أستاذ عبدالكريم أجده مفتتحاً لحوارنا:

منذ لثغتك الأولى في العراق وحتى لحظتك الآن وأنت على مشارف الستينات متشوقا له بعد أن هربت بتشعبات ومناف وفقدانات وأمكنة وشخوص ومسالك شتى إضافة إلى تحولات عديدة على صعيدي الوعي والمعنى إنسانيا ومعرفياً: إلى أين يمضي عبالكريم كاصد؟

إلى أين يمضي الشاعر فيك وقد جعلته حقائبه يستدعي امرؤ القيس صارخاً: ” قفا نبك ”

كاصد: لو كنت أعرف أين يمضي بي الشاعر لتوقفت، ربما عن كتابة الشعر، ولكن طريق الشعر كطريق في غابة محفوف بالمفاجآت والأسرار، والمسرات… حتى في أحزان الشعر ثمة فرح مقيم.. فرح الاكتشاف.. اكتشاف الطريق الذي لم يسلكه الشاعر من قبل.

قد أعرف أنّ ما قطعته ذاهباً كان طريق الإياب، وأن أحلامي ورائي، وأنني ظلّ يمشي لرجل واقف، وأنني.. وأنني.. ولكن أنّى لي أن أعرف ماذا سأكتب غداً. قد أكتشف الشعر في أقرب الأشياء إليّ وأبعدها عني.. قد أكتشفه في نفسي وفي العالم حولي.. في أبسط التجارب وأعقدها.. لمحة في الشارع، حادثة عابرة، عينين خاطفتين، انحناءة إنسان، جمل صبور في شارع إسفلتي، حائط يكاد ينقض، طائر يقلب المصحف في الهواء في جامع. في كل شئ يكمن الشعر في المتخيل والواقعي، في العاديّ والمجهول أما هؤلاء الذين يريدون أن نحدده بتجارب معينة باطنية كانت أم ظاهرية فهم واهمون، لأن الشعر لا يحدد أبداً. أقول في قصيدة:

لا أريد أن أعرف الشعر

أريده أن يعرفني

أمام الشعر أجدني غير معرف أبداً. عندما كنت في صنعاء لم يطرأ في ذهني أن أكتب عنها شعراً، ولكنني فجأة وجدتني أمام حالة استعدتُ فيها كلّ شئ. كانت الأشياء تتقدم نحوي وتشير إليّ وتعرفّني من خلال تعرفي عليها… تلك الأشياء الضائعة المهملة في الظل الغائمة تماماً.. أجدها فجأة وقد تجسّدت واكتسبت ملامحها التي أضاءت ملامحي.. كنت ظلاّ يسير بين أشياء مبعثرة وها أنا أراها وألمسها وأتعرف بها على نفسي. أين كانت هذه الأشياء والمخلوقات؟ وأين كنت؟ هل أنا الشاعر أم أنا شخص آخر؟.. هل الذي مرّ في السوق وقابل الأحياء هو الشاعر ذاته؟ من أين جاء الانطباع الأخير… هل هو الانطباع الأول؟ وإذا كان هو نفسه فكيف اغتنى بتفصيلات الشعر؟ كيف انبثق الشاعر فيّ؟ ومن هو الحقيقيّ أنا أم هو بما استجدّ من ملاحظات وتفصيلات ووضوح وإبهام؟…

في العام يلتقي كلّ شئ وفي التفصيل وحده يكمن الاختلاف.

نقرأ عن مدن في الشعر فلا نميز ملامحها وعن أشخاص فلا نبصرهم.. لِمَ نكتب الشعر إذن؟ إن لم يشيع فينا بهجة الاكتشاف والألفة أيضاً مع ماهو غريب والغرابة في ما هو مألوف لدينا.

وهذا لايمكن أن يحققه الشعر عبر الاحساسات المبعثرة، أو الأفكار المتناثرة، بل عبر التجربة الشعرية التي يتواجد فيها الإحساس والفكر في وحدة عليا.. الإحساس بالعالم والتفكير به لا عبر العقل المتأمل وحده، وإنما عبر جسد الشاعر وروحه معاً.

في الشعر أستعيد العالم بفوضاه لأحدّق فيه وأعيد ترتيبه ثانيةً. وحين أرتبه يتقدم مني بوجه آخر وملامح أخرى أليفاً وغريباً في آن واحد. إنه يصير عالمي.. عالمي الشخصي.. ومن هنا تأتي بهجة الشعر وفرادته.

في الحفائب استحضرت عالما شاسعاً.. عالماً لا يمكن تحديده، لم أكن لأستحضره لولا أن تبزغ في مخيلتي الحقائب وهي تسافر وتحتج. لقد أسرت ذلك العالم عالم السفر في (الحقائب) وتتبعته فكانت الحقائب هي إشارتي إلى ذلك العالم ونبوءتي الأولى لما سيؤول إليه مصيري.. لقد وجدت ذاتي في الحقائب ولولاها لبقيتْ بقعة في نفسي مجهولة لن أكتشفها أبداً.

مرةً كنت جالساً مع صديق لي في المقهى بلندن نتحدّث عن الشعر وقد جرّنا الحديث إلى موضوع كتابة النصوص القديمة بلغة حديثة وكان قد صدر آنذاك كتاب ل (تيد هيوز) يعيد فيه كتابة قصائد الشاعر الروماني أوفيد فتساءلت أوتساءل صديقي لم لا نجرب كتابة بعض قصائدنا القديمة بلغة شعرية حديثة أليس في ذلك تجربة طريفة؟

إثرها وجدتني أتغنى بمعلقة أمرئ القيس في لغة أخرى:

قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ

عفَتْهُ الرياح

وطافت بأرجائه الموحشات الظباء

كأنيَ يومَ الرحيل لدى شجرِ الحيّ ناقفُ حنظلْ

يقول صحابي: ” تجملْ ”

وأنىّ

ودمعي شفائي

وهذي الديار أنيسي

بل وجدتني أترنم مشغوفاً بنصي الحديث الذي لولا التساؤل العابر في المقهى لما كان له وجود إطلاقاً:

…. إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء.. ضامرة الخصر

هفهافةً

(يصمت الحجل حين تميلين)

مصقولة أنتِ عند الترائب كالدرّ أبيض أصفر غذّاك ماءٌ نميرٌ بلا كدرٍ

وتصدّين عن عارضٍ واضحٍ

وتردّين عن ناظرٍ من نواظر وحشٍ بوجرةَ

جيدك، جيد المهاة، هو الحَلْي دون حُلِيٍّ

إذا ما برزتِ

وشعرك عذقٌ تدلّى

أثيث

غدائره السود تتلعُ

مثنىَ ومرسلْ

وخصرك يا للّطيف الجديل

وساقك يا للنخيل المذلّل

لقد كان السؤال الشرارة التي انبثقت منها القصيدة، وقد تنبعث من كلمة عابرة أو سخرية مريرة أو سطر في كتاب أو قصيدة أخرى، وقد يكون مبعثه هذا العالم المضطرب بتفصيلاته.. غير الآبه لما يمر به شعراً أو غير شعر.. الخالي ظاهرياً من المعنى حتى يستنطقه الشاعر.. كاشفاً عن جوهره الأعمق وراء ظاهر لا يثير انتباهاً.

2- ترى كيف تفند انتقال القصيدة العربية من التلقين والمنبرية إلى المعرفي الأطزج في حداثته ومخيلته؟ ثمّ إلى مَ تحيل الأسباب الموضوعية في هذا الانتقال؟ وكيف تتقرا مستقبلية قصيدة اليوميّ والمألوف عربياً؟

كاصد:هل انتقلت القصيدة حقا من التلقين والمنبرية إلى المعرفي؟ ألا ترى التلقين والمنبرية في كثير من القصائد التي تنكرهما؟ إذا كانت المنبرية ظاهرة في قصيدة الماضي فإنها الآن قد تكون حاضرة في القصيدة في خفاء ومكر… في زاوية التناول، في طريقة المعالجة، في تسطح المعرفة أو غيابها، في فوضى المخيلة عندما تكون لعباً لا خلقاً. إن المنبرية لها خفاؤها وتجليها لا بسبب دهاء القصيدة المفقودة بل بدهاء الشاعر ورطانته، في ثقافة أصبحت سوقاً حيث لا لذة للنص ولا متعة في القراءة، بل مقايضة لا تعير اهتماما لما هو خارجها.. سوق تفتقد متعة الأسواق، تجتاحها قبائل ترطن بلغاتها و تتبادل المديح.

من يستطيع أن يثبت أن في (النهر والموت) و(أنشودة المطر) منبرية أكبر مما يكتب الآن؟ من يستطيع أن يقول أن شكل القصيدة جواز لمرورها؟

قد يكسر الشاعر المألوف بالرجوع إلى الشكل القديم نفسه. لم لا؟ حين تكون الأشكال المستجدة منهكة من التكرار.

ما ينصب الآن مثالاً للشعر هو نماذجه الرديئة.

ما هو المعرفي في الشعر؟

هل المقصود به الأفكار؟ كيف لنا إذن أن نتثبت منها حين تتقدّم إلينا بأقنعتها وأشكالها واستعاراتها؟ أليس في الأحاسيس العميقة في الشعر ما يعادل الفكر ويتجاوزه. وهذا يقودنا إلى اليومي والمألوف الذي قد لا يتضمن أفكاراً كبيرة ولكنه يتضمن بلاشك رؤيا جديدة وهذا ما يتطلّبه الشعر. الأفكار العظيمة لا تصنع شعراً (إذا افترضنا أن ثمة أفكاراً عظيمة!) لكن الرؤى الجديدة تصنع شعراً.

وأقول قد تصنع شعراً إذا بقيت في حدود الواقع ولم تسقط في النبوءات ومفارقة موضوعها.

ثمة رؤى واقعية ذات أفق شاسع ونبوءات ليس وراءها غير جدارٍ أصم.

ثمة شعر يثير رؤى ورؤ ى لا تثير شعراً.

لا يزال شعر بليك البسيط يثير فينا رؤى وتفسيرات لا حدّ لها بينما انطفأت رؤاه الكبيرة التي لم تعد تثير شيئاً حتى لو كتبت عنها عشرات الكتب لأنها أفكار.. أفكار لا أفق لها… تنبؤات مفارقة ليس لها حرارة جسد الواقع ونبضه.

وما يقال عن بليك يمكن أن يقال عن خليل حاوي ورؤاه الكبيرة التي انطفأت دون أن تخلف غير رمادها، بينما ظلّ ديوانه الأول الصغير (نهر الرماد)متوهجاً حتى الآن.

إنها المفارقة حقّاً أن يتخذ الشاعر دور النبيّ بينما ينكر النبيّ دور الشاعر.

هل اللجوء إلى اليوميّ والمألوف في الواقع، كسر لليوميّ والمألوف في الشعر؟

هل اللجوء إلى اليوميّ والمألوف توجه خارج الفكر؟ أ هو إنكار للغرابة؟ أم رؤيا فنية يكمن خلفها موقف فلسفي في الواقع والفن؟

إنّ الحديث عن العام دوماً، في الواقع أو في الفن، هو أيسر السبل لكن من الصعب التحديد… هل نتذكر ابن الرومي؟:

يسهل القول إنها أحسن الأشياء طرّاً ويصعب التحديدُ

في التحديد أرق واكتشاف وإشارة لا تهويم وغمغمة والتواء.

أ ليس المألوف يعني أن نتحدّث عما هو خاص محدد، دون استطرادات أو حشو لكن تناول المألوف يظلّ عاديّاً كموضوعه إن لم يستضئ بروح الشاعر التي تضيئها من جهة أخرى الالتماعة الخفية في هذا المألوف… غرابته التي لم تتكشف إلا لعيني الشاعر وهو يتوقف فجأة لا لكي يتابع طريقة بل لكي يدخل موضوعه وكأنه غايته القصوى ونهاية رحلته التي لا تنتهي أبداً.. إنها النهاية المتخيلة ولا أعتقد أن ثمة نهاية للشاعر، عطفاً على سؤالك الأول، حتى بانتهائه وغيابه التام، لأن للشعر روحاً قادرة على التناسخ أبداً.. في أشكال عديدة.. ألا نكتشف كل يوم قراءة جديدة لأبي تمام والمتنبي وبدر شاكر السياب ومبدعين آخرين.. نكتشف في شكل القصيدة الأخير أشكالاً لا نهائية لم نفكر بها من قبل.. أشكالا تبعث فينا المتعة والرغبة في القراءة من جديد.. حيث التكرار ليس عادةً بل ابتكاراً.

أنا أرى أن ما أضر بقصيدتنا العربية هو شعريتها أي بلاغتها في الاندياح وتراكم الصور والأفكار دون مركز ثابت.

فكأننا أمام سيرك لاشعر. قد يسر السيرك القارئ ولكنه يظلّ سيركاً.

بالشعر تغتني الأفكارلا العكس. مهما قدمت من أفكار كبيرة فإنها لن تصنع شعراً عظيماً.

إن شعر اليومي والمألوف ليس نظرية ولا مدرسة أدبية وإنما هو اتجاه قد تجده عند شعراء مختلفين جدّاً… يجمعهم شئ واحد هو اكتشاف الواقع غير المكتشف.. اكتشاف ما هو مهمل، منسيّ، أحداثاً أو شخوصاً أو أشياء.

وهذا منحىً في الفلسفة المعاصرة ذاتها فما بالك في الشعر؟ غير إنه اتجاه لا يجعل من القصيدة قصيدة حقّا إن لم تسعفه نار الشعر التي لن تضئ أبداً إلا للمسافر الحقيقي في عالم الشعر.

ما يغيب عن الذهن إن هذا النمط من الشعر في تناوله للواقع لا يعني بأيّ حال من الأحوال إنه شعر واقعي فهو لا يعكس الواقع بل يستبدله بواقع آخر.. بلغة أخرى لم تكن موجودة من قبل إلاّ عناصر مبعثرة ذات دلالات مبعثرة لا تكوّن عالماً محدّداً.. من هنا تأتي الدهشة التي تولدها القصيدة.. قصيدة اليوميّ والمألوف وعدم وضوحها أحياناً، فهي ليست بالضرورة واضحة لأنّ عناصرها واضحة ما دامت اللغة التي تنعكس فيها هي ليست بالضرورة لغة الوعي تماماً إذ ثمة جانب نفسي غامض غير واعٍ يحتم اختيارنا لهذا الموضوع أو ذاك.. لهذه العناصر أو تلك.

3- ما هو ملاحظ على تجربتك الشعرية توهجها الثري تعبيريا إذ تحتفي بالمهمش وهو الوجيع والحميم في آن.. عند أيّ مفترق أو نقطة التقاء تهتك صرامة الثيمات في نصك لصالح البساطة مشتبكاً مع حيواتك المعاشة؟

أقصد متى، كيف ولماذا ينزلك النص من عليائك فتعبران الشارع العام معاً وتتنفسان من رئة واحدة؟

كاصد: ثمة نقطة حقّاً.. نقطة التقاء.. مجرّد نقطة تنبعث منها القصيدة. في هذه النقطة يلتقي الشاعر العابر بموضوعه فتتسع اللحظة فجأةً لتصبح أبديةً وتتوقف الرحلة وكأنها إقامة دائمة، غير أنّ رحلة الشاعر لن تتوقف أبداً، نزهةً كانت أم عذاباً في هذا المنفى الواسع حيث المهمش هو الشائع، وإن شئت التحديد، هو صورة الشاعر في عبوره، ومثاله الفنيّ في عزلته التي هي ليست عزلة بل توحّداً بالموضوع لحظة الكتابة وافتراقاً عنه ولا يكون ذلك إلاّ عبر ما يملأ روحه من حميمية ووجع.

ليس ثمة مرجع للشاعر في تناوله المهمش ولا تقليد… لكي يذهب في تقصيه مقلّدا أو مراجعاً. من هنا صعوبة التناول وسقوطه في عادية حياة الشارع اليومية إن لم تكتشف شيئاً يخرق هذه العاديّة ويحيلها إلى نموذج نفسها خارج المألوف.

ما أكثر الشعراء الذين يزورون مدناً وبلداناً ولا يرونها، ويلتقون بشراً ولا يرونهم. وأن رأوا كلّ ذلك تحدّثوا عنه في خطاب عام خطاب هو الكلام العاديّ نفسه متمثلا في الخطاب.

سأورد لك أبسط نص كتبته في حياتي وليكن من تجربتي العابرة في صنعاء:

قبل رحيلي بيوم واحد من صنعاء اقترح حافظ السائق والصديق الذي رافقني أن نذهب إلى المتنزه المطل على صنعاء ليواصل تناول القات وليريني المدينة من هناك. كان حزيناً يقطف القات وكأنه يقطفه من شجرةٍ، واشتدّ حزنه حين كنّا نصغي إلى السنيدار وهو يغني (يا غصن صنعاء اليمن). إنها لحظة لا أنساها أبداً كنّا نتقاسمها جميعاً: أنا وحافظ والسنيدار، وحين كتبتُ:

حين غنّى السنيدار:

” يا غصن صنعاء ”

ألفيتُه واجماً

يقطف القات من غصنه

ويردّد:

” ياغصن صنعاء

يا غصن صنعاء ”

كنتُ أتصور أن ّهذه الأبيات مطلع قصيدة ولكن فجأة تذكرت لازمة السنيدار (آه.. آه… آه) ,واستعادة حافظ وترديده لها وإذا بالقصيدة تنتهي عند: آه التي هي لازمة الثلاثة: أنا وحافظ والسنيدار:

حين غنّى السنيدار:

” يا غصن صنعاء ”

ألفيتُه واجماً

يقطف القات من غصنه

ويردّد:

” ياغصن صنعاء

يا غصن صنعاء ”

آهْ

وجدتُ بعد ذلك أنّ أيّ شرحٍ سيفسد القصيدة فاكتفيت بهذه النهاية.

لم يضر شعرنا العربيّ بساطته بل تعقيده الفارغ وبلادة الأحاسيس والتظاهر بفكر غير موجود.

ذلك شأني في قصائد أخرى ولتكنْ من تجربتي في اليمن أيضاً:

حين وصلت إلى عدن قبل ربع قرن كنت ألتقي في الفندق الذي أقيم فيه برجل مجنون هادئ وديع لا يتكلّم أبداً ويسير باستقامةٍ دائما دون أن يلتفت إلى المارة. كان هذا ضابطاً بحريّا. كيف أصل إليه؟ كيف أنفذ إلى أعماقه المستحيلة؟ أيّ تفصيل سأورده لكي يختصره وهو الصامت الذي لا ينطق أبداً؟

رميت كلّ ما كتبتُ عنه واكتفيت بهذين البيتين البسيطين جداً:

كان ضابطاً بحريّاً

وانحسر عنه البحر

4- هذا يؤدي بالتالي إلى حزمة من الأسئلة ولتعذرني في الإسهاب: اشتغالك العميق على لملمة الشعر من عيون وملامح وذكريات الشخوص تجلى في البدء عميقاً في ديوانك (الشاهدة) الصادر العام 1981 قبل أن يتوالى هذا الاشتغال أكثر وأكثر في دواوينك اللاحقة.. آخذاً منحاه الأمكنة أيضاً.. ماهي نظرة عبدالكريم كاصد إلى هذه الممارسة التي وصمت بها شعريته؟ وإلى أيّ حد تؤمن بالمتغيرات التي حصلت على الشعر من نوع أدبيّ متميز إلى نص مفتوح على فضاءات شاسعة لا محددة أو محدودة؟ وأيضا كيف تتعامل مع المنحى السردي الذي وصمت به معظم نصوصك كذلك من ناحية رؤيوية؟

كاصد: منذ ديواني الأول الحقائب وأنا أسعى أن اشتغل على ماذكرت بصواب من (لملمة الشعر من عيون وملامح وذكريات الشخوص) جاعلاً من النص لا خاتمة لتجربة ولا بدءاً لتجريب، بل سعيا متواصلا لاستيعاب ما يحيط بي من أشياء وبشر وعلاقات وموت وحياة. لقد شهدت صحارى جريت عبرها وسجوناً مفتوحة على العراء والرمل وبلدان شتى وعشت متعة الصداقة والحب وبكيت كثيراً على من فقدتهم أحياء وميّتين، وانعكس كل ذلك على روحي فلم انشغل يوما بغير ما انشغلت… نصوص تتخذ أشكالها مفتوحة ومغلقة كالحياة، لذلك اختلطت الأوزان في قصائدي وامتزج النثر بالشعر وعادت روحي المبعثرة أحيانا إلى قفصها لكي تلملم أطرافها، في أشكال شعرية استعرتها من الشعر الشعبيّ وهي المواويل التي نسميها الزهيريات… لا شكل نهائياً لديّ ولا حماس لشكل معين وأرى أنّ الشعر لا نهائيّ كالحياة مفتوحاً على فضاءات شاسعة، وهو حتى في انغلاق أشكاله أحياناً ليس مغلقا تماما بقدر ماهو ساع إلى أسر فضاء لا بدّ من أسره في لا نهائيته وتمرده على الشكل.

كيف يتسنى للشعر أن يجمع فضاءا لانهائيا بدون هذا الأسر؟ لكنني أود أن أضيف أن تحول الشعر إلى نص مفتوح لا يعني أبداً غياب الشكل في القصيدة فأنا أرى أنه كلما تحددت القصيدة كلما اتسع فضاؤها… أما الشعر الضارب في استطراداته وتداعياته فهو ليس سوى شعر مترهل غير قادر على الوقوف على قدمين ثابتتين… إنه اندياح يكرر نفسه حسب.

في مجموعتي الأخيرة استعرت الأشكال الشعبية لكتابة القصيدة… أشكال تبدو مغلقة لأسر ما هو مفتوح عصي على الإمساك، لا يمكن أسره أبدا بدون شبكة هذا الشكل:

أطلقتُ في الحلم يوماً كلّ أفراسي

تعدو وتعدو وتعدو وسط أعراسي

حتّى انتهيتُ إلى بابٍ وحراسِ

صحتُ الطريق فردّوا: ما وراء البابْ

غيرُ الظلام وغيرُ الريح، صحتُ: البابْ

يرتجُّ في الريح، صاحوا ثمّ غاب البابْ

في ظلمةٍ لم تزل ترتجّ في راسي

في هذه القصيدة ليس الخرق في موضوعها وحده ولا في شكل الزهيريّ حيث التدوير والقافية المكرورة (الباب)، وإنما في هذا العالم – الكابوس بفضائه الشاسع وأفراسه التي تعدو وسط أعراس المتكلم. ثمّ فجأةً هذا الباب المفضي إلى فضاء من ظلام وريح وهو يصطفق في الخارج ليغيب في ظلمة لا نهائيةٍ.. طلمة ترتج في الرأس.. أهو باب أم فضاء آخر؟ ثمة استدارة هنا وعودة – إذا شئت – إلى بداية القصيدة (أبصرتُ في الحلم..) إلى (أنا المتكلم) التي تعيش هذا العالم الكابوس المتكرر إلى ما لا نهاية.

ما الحداثة أن لم تكن خرقاً للمألوف… خرقاً لما يكتب الآن من تكرار ممل للأساليب.

وفي الوقت الذي أكتب فيه هذا النمط من الشعر أكتب أيضاً نمطاً آخر هو هذا:

قالت الأشجار

وقد سالت ظلالُها كالحبر:

” منْ يكتبنا على الطريق؟ ”

**

قال الحكيم:

” السعادةُ أن تدخلَ بحرَ الناس

وتصير سمكةً ”

قال الآخر:

” صغيرةً أم كبيرةً؟ ”

قال الحكيم:

” تلك هي المسألة ”

***

حين رأى الملك شعبَهُ عارياً

قال: ” ما أجملَ الشعبَ في أثوابه الزاهيهْ!”

***

قال العابر:

” في الغابة المسكونة بالوحوش

نمنا بسلام ”

قال المقيم:

” في مدننا الآهلةِ بالبشر

لم نأمن الوحوش ”

***

قال العاشق لمعشوقته:

” سأقودك إلى غابةٍ من فضّةٍ

وعشبٍ من الذهب

لنقيم هناك ”

قالت المعشوقة:” وكيف نأمن الوحوش؟ ”

قال العاشق:

” بالذهب والفضّة يا حبيبتي ”

***

كان أبي يقول:

” رصاصةٌ واحدةٌ لا تصنع غيرَ ميْتٍ واحد

وفكرةٌ واحدةٌ تصنع آلافاً من الناس ”

وحين مات أبي متشبّثاً بفكرته الواحدة

التي أطلقها كالرصاص على الناس

لم يسر في جنازته أحد

***

وقد أكتب النثر والشعر في النص الواحد، لا النثر الشعريّ بل النثر كمفهوم نقيض للشعر وهنا سأورد نصاً لكسر رتابة الحوار ولتعذرني في الإسهاب أيضاً:

حلم

في طريقٍ صحراويّ مهجورٍ يحجبهُ عن الأفق تلٌ من الرمل قال لي أبي الذي مات منذ زمنٍ:” لقد دفنتُها في (الصفيريّة) و (البقيع). لم أسمع بهذين الموضعين من قبل. قلتُ لنفسي:”كيف يدفنها في موضعين؟ وبأيّة وسيلةٍ سأبلغ قبرها؟ أ لم أدفنها في مقبرة (كنسل كرين) في لندن من قبل؟”

أحسستُ كأني أشهد موت زوجتي ثانيةً، فغمرني حزنٌ لم يفارقني طوال اليوم التالي للحلم. ولم يخفّف منه انتقالي في الحلم إلى غرفةٍ واسعةٍ وُضِعتْ فرشُها على خزانةٍ عاليةٍ. كان على الخزانة أيضاً جثّتان وقد لُفّتْ كلّ واحدةٍ بكفنٍ أبيض نظيفٍ، فاطمأنتْ نفسي.

قلت لمحدثي الذي كان زوجتي ربّما: ” أوه.. الآن اطمأننتُ. أنتِ إذن لستِ مدفونةً في (الصفيريّة) و(البقيع).

ثم ّفكّرت كم يتعب الجثتين نقلُهما مع الفرش كلّ مرّةٍ! قلتُ لندفنهما إذن! لعلّ في ذلك راحةً لهما! ثمّ أفقتُ وقد لازمني الحلم ولم يفارقني حتّى الآن:

في رمال البقيع

حملتُ الغزالةَ ميّتةً

قلتُ: أحملُها

علّني في الطريق أصادف ساحرةً

ساحراً

من قبائل غابرةٍ

عرباً رحّلاًً

ملكاً بثياب الرعاة

نبيّاً ضارباً في الفلاة

إلهاً قادماً من ظلام الأساطير

وحشاً

لأسألهم كي يعيدوا ليَ الميْت

لكنّني

حين باغتني الفجرُ

واستوحشتني الطريقُ

وأقبلت الريحُ

ألفيتني ضائعاً في البقيع

أصيحُ وأجري وراء الغزالةِ

هاربةً في الرمال

5- عطفاً على الترجمة.. فإن من أشهر ترجماتك الشعرية (قصاصات) لليونانيّ يانيس ريتسوس وهو الشاعر الذي أثر في الشعراء العرب المعاصرين كثيراً.. نريد أن نعرف ماهية التوحد الإبداعي الذي حكمك في ترجمتك لريتسوس؟… ثم ماهي الأسباب الخاصة برأيك لحصول مثل هذا التأثير الريتسوسي على القصيدة العربية الحديثة؟

كاصد: كتبتُ في مقدمة (قصاصات): ” أحداث يومية… ولكن ثمة شئ يثقب الحدث، يسمّره، ويحيله تاريخاً يتوجّه صوبنا بامتداداته رغم كثافة الحدث وحدوده في الواقع.

إن لكلمات ريتسوس صلابة الحجر وسيولة الماء، عرضية الحدث وعمق التاريخ.. وهذا ما يدهشنا في شعره. إنّ كلماته ليست جسوراً لضفة أخرى نعبرها ولا نرى الماء، إنها الجسر والنهر والضفة الأخرى، كلمات ذات جلدٍ آخر.. كلمات تكسر قشرة اللغة متقدّمة بأشيائها وحيواتها كما يتقدّم الواقع بأشيائه وحيواته ولكن بلا غطاء، عاريةً إلاّ من حقيقتها الفظة أحياناً… حقيقتها التي تنتصب جدارا في الواقع حيث الشعر يتنفس بجهدٍ مدثّراً بالغطاء.

في هذه الأوراق لم تعد اللغة شاغلاً لنا على الأقلّ بل بما تفضي به رغم خفاء الصنعة المدرّبة في ما تقوله وتشير إليه بهمارة نادرة “.

لعلّ هذا المقطع من المقّدمة يفسّر ماهية التوحّد الإبداعي الثريّ الذي حكمني في ترجمتي لريتسوس.

عندما ترجمت (قصاصات) أرسلتها إلى دار الفارابي في أوائل الثمانينات للطبع وقد وقعت عقداً معها، لكن جاءت الحرب الأهلية اللبنانية فلم يطبع الكتاب إلا بعد سنوات إذ صدر سنة 1987 عن دار بابل – دمشق.

يروي لي الصديق سمير سعد أنه أراد أن يسافر إلى اليونان وأن يلتقي بريتسوس فطلب من دار الفارابي المخطوطة لكي يقرأها قبل أن يلتقي بريتسوس. وعندما التقاه وحدّثه عن(قصاصات) أجابه ريتسوس بأن ترجمة العنوان إلى العربية أدق من ترجمته إلى الفرنسية (أوراق)، فهو لا يقصد أوراقا بل قصاصات أي قصائد بسيطة والتماعات، وهذا ما أدركته عند قراءتي الديوان منذ اللحطة الأولى، فلم ألتزم بالترجمة الفرنسية التي حدست خطأها.

لعلّ تأثير ريتسوس على القصيدة العربية الحديثة يرجع إلى ما ذكرناه سابقاً ألا وهو افتقاد الشاعر الحديث إلى الموروث الذي يسعفه في رؤيته للواقع عبر نماذج حديثة، فكما نعرف فإنّ أغلب تجارب الروّاد الشعرية يقيت في إطار ما هو عام في التجربة مقتربة من النص دون التأكيد على تفصيلاته الغائبة في الكثير من القصائد، لذلك عندما تترجم ريتسوس أو إليوت في (الأرض الخراب) وغيرهم من الشعراء فإن الشاعر العربي يجد في نماذجهم ما يقربه من سعيه في اكتشاف الوسيلة التي تقربه من الواقع، دون أن يعني ذلك استعارة هذه الوسيلة، بل الاستفادة منه أي من زاوية تناولها لموضوعها. فالواقع لا يستنفد أبداً… إنه منبع لا ينضب للشعر. والشعراء الذين اعتمدوا الواقع مصدراً لشعرهم واصلوا مسيرتهم بنجاح أكبر من أولئك اعتمدوا النبوءة والمخيلة مصادر لشعرهم لأنّ النبوءة كما قلت لا تقيّم جودة القصيدة، والمخيلة فقيرة من دون تفصيلات الواقع.

6- واقع النقد العربي المتدهور إلى مَ تعزو تراجعه أمام النص الإبداعي المعاصر وهو يزداد توهجاً؟ ثم كيف تنظر إلى هذه العلاقة اللا متصالحة ما بين الجانبين؟

كاصد: لم يعد النقد لدينا نصاً.. منذ أن صار تعليقاً يخلو من لذة الكشف وكشفا يخلو من لذة النص فهو ليس ذلك النص القادر على اكتشاف التماثل في الاختلاف أو الاختلاف في التماثل، ولاهو ذلك النص القادر بلغته أن يخلق نصاً ابداعياً آخر، أما ادعاؤه بالعلمية فهو محض ادعاء.. وليس له من العلمية سوى جفاف كلماته، وفقر معانيه، أما مقولاته عن النبر والإيقاع فقد تحولت إلى عمليات حسابية لا علاقة لها بالإبداع. يمكنك أن تأخذ أي تعليق نقدي وتستبدل باستشهاداته استشهادات أخرى دون الإضرار به. وما يبدو عميقاً في التنظيرات سرعان ما يتسطح في التطبيق. ثمة هوة بين النصوص والتنظيرات، وحتّى هذه تبدو تجميع مناهج يفتقر إلى المنهجية. إنّه نقد لا يتعامل مع النص وإنما مع الأسماء حتّى لو كانت هذه الأسماء لا حضور لها شعريّاً، ومع فرضياته القابلة للتطبيق حتّى على النصوص الرديئة. إن معظمه مؤدلج رغم رفضه الأدلجة أو هو في أحسن أحواله شلليّ يسهم فيه بشكل حماسيّ أغلب محرري الصفحات الثقافية من الشعراء الرديئين.

7- في ظلّ حاضر الثقافة العربية المتخم بالهزيمة، أدعوك لتخيل الثقافة العربية مستقبلاً. هل يا ترى ستكون خصبة بحق أم إنها ستأتي نكوصية أكثر من الآن ولماذا؟

ثمّ كيف تتقرّى آفاق الثقافة العراقية اليوم أي بعد سقوط النظام السابق الذي جعل من الفعل الثقافي أداة فاشية في الغالب؟

وأيضاً… ما هي رؤيتك لما اصطلح على تسميته بأدب الداخل وأدب الخارج عراقيا إبّان فترة حكم صدّام حسين؟

كاصد: ليس حاضر الثقافة مسرّاً على الإطلاق.. ثمة مثقفون تنويريون (مركزيون) يصطفون الآن مع الإرهاب وهم الذي قضوا حياتهم في محاربة الفكر الظلاميّ، وماركسيون لا يختلفون في موقفهم من العولمة عن الظلاميين إلاّ بشئ واحد هو قدرة الظلاميين في الاستفادة من وسائل العولمة وعجز الماركسيين الذين يشبهون في صراخهم أئمة المساجد.

من جهة أخرى لا أفهم أن يكتب تنويريّ مجلّدين مكرسين للدفاع عن سلمان رشدي متهما كلّ من يخالفه بعدم قراءتها، معتذراً عن عدم فهمه للأدب باستعانته بزوجته خريجة الأدب الإنجليزي. لا أفهم أن يكتب تراثي تنويري عن النساء بالرجوع إلى محمد عبده في اجتهاداته، محملا النص الديني أوهامه عن النص.. أو أن يكتب تنويري آخر بين صفحة وأخرى مبديا استغرابه من وجود ملحد واحد على وجه البسيطة… لا أفهم أن يحتشد ناقد بكل ثقافته الحداثوية لتناول نص تقليدي يفتقد أبسط مقومات الشعر.. لا أفهم هذا حقا في ثقافة يكتب(مركزيوها) نصوص إنشاء لطلاب (هامشيين) تقدم على إنها نماذج تقتدى، لكنني مع ذلك لست يائساً لأنّ عزلتنا وعدم تجاوبنا مع التطور الحاصل في العالم يعني انقراضنا. لا يمكن أن يستمر الوضع العربي على ما هو عليه الآن… لا يمكن أن يهاجر من جديد ملايين الناس من بلد تعداد سكانه لا يتجاوز العشرين مليونا كما حدث في عراقنا الذي ابيدت فيه قوميات كاملة وامتلأت رحابه بالمقابر… لا يمكن لأجيالنا القادمة أن تقبل ذلك.. هذه الأجيال التي انفتحت على آفاق لا يمكن حجبها حتى بقوة الأنظمة.

أمّا آفاق الثورة الثقافية في العراق فهي مرهونة بظروف عديدة، ولكن ما هو مهم الآن هو أنها تخلصت من أكبر عقبة أمام تطورها ألا وهي نظام صدام المتخلف البغيض. أمّا أدب الداخل والخارج فهي من الثنائيات التي يعزف عليها عرب الربابة وكأنهم بلغوا بتصنيفهم هذا ما لم يبلغه بيكون في التصنيف.

8- في السياق ذاته كذلك.. ما هو تعليقك على الانهيار الحاصل والملموس للمراكز الثقافية عربيا لصالح بزوغ مراكز أخرى كالمغرب وبعض دول الخليج إذ استطاعت بطروحاتها وصادراتها الثقافية عموماً كسر وهم المركزية؟

كاصد: قد يكون للتراكم الثقافي أثر كبير في نشوء هذا المركز أو ذاك، فأن تكون القاهرة مركزاً ليس ذلك مصادفة إنه وليد ظروف موضوعية وذاتية جعلت القاهرة أو دمشق أو بغداد مراكز ثقافية ولكن حركة الواقع والفكر ليست دائماً باتجاه متطور واحد. ليس ثمة قوانين ثابته في الواقع.

ماهو مركز الآن قد يغدو هامشا في ما بعد، ولاسيما في ظلّ هذه الثورة التكنولوجية الهائلة والعولمة بغض النظر عن موقفك منها سلباً أو إيجاباً.

إن للثقافة في المجتمعات العربية سماتها الخاصة فهي واحدة بقدر ما هي متنوعة جدّا. ولعل من أبرز سمات هذا التوحيد اللغة نفسها، وإرثها الثقافيّ لذلك فإن من الصعب في ظلّ هذا الواقع أن يكون ثمة ثبات لمراكزهذه الثقافة ولعلّ في استقرار دول الخليج والمغرب مايفسر انبثاق هذه المراكز بعد أن شهدت المراكز السابقة الكثير من الفوضى وعدم الاستقرار.

لكن من جهة أخرى ثمة مفكرون وكتاب وشعراء يكسرون هذا الوهم بنشاطاتهم الفردية بعيداً عن المركز والهامش.

وفي الأخير أتساءل أثمة مركز حقّاً يمكن الحديث عنه الآن، بعد أن تبعثرت حركة الثقافة العربية وتشتتت في المنافي… ما ذا تسمي التشتت مركزاً أم هامشاً؟

لا أعتقد أن في مجتمعاتنا الرجراجة ثمة مركزاً مطلقاً أو هامشاً مطلقاً وإنما هناك تداخل فما هو هامش قد يصبح مركزاً وما هو مركز قد يكون هامشاً، وحتّى هذه الكينونة ليست نهائية إنما هي متحولة على الدوام.

في المركز ثمة نصوص هامشية، وفي الهامش قد تجد مركزاً ما. ولعلّ ثقافتنا المولعة بالثنائيات هي التي ترسخ هذا الفارق الحاد على مستويات عدة: أدب خارج، أدب داخل، أدب عاصمة، أدب محافظات وكأن ثمة ثبات في هذه المجتمعات المتحولة المتشظية وكأن السياب ابن محافظة البصرة ينبغي أن يكون هامشياً والبياتي ابن العاصمة ينبغي أن يكون مركزاً.

استدلالات لا معنى لها، وتصنيف هو خرق للتصنيف.

إنّ في هذا الطرد إذا صحّ التعبير رغبة في إخفاء المركز لهامشيته المحتملة التي يخشى انبثاقها.

وقد يمارس المركز والهامش لعبتهما ليس في الأمكنة وحدها بل وفي الثقافة نفسها حين يحتل شاعر ما مركزاً لسبب وظيفي أو مراتبي بينما يكون شعره هامشياً. ولكي نتجاوز المركز والهامش علينا أن ننظر إليهما متجاورين في مكان واحد، عندئذٍ سنكتشف أن ثقافتنا هي ثقافة مركز وهامش في آن واحد مما يسهل انتقالهما من مكان إلى آخر بسهولة كبيرة في هذا الوطن العربي الذي يكاد أن يكون 90% من أدبائه من الريف، وما يقرب من ثلث سكانه من الأميين.

لقد ركز (المركزيون) هذه التناقضات حتى حسبناها شيئا مفروغاً منه… شيئا راسخاً لايمكن نقضه ولكن يمكن في عرفهم نقله إلى مكان آخر يحتله (مركزيون) آخرون يقابلهم (هامشيون) آخرون وهكذا تمتدّ السلسلة لتشمل أمكنة وأجيالاًومواقع وسلطات وألقاباً.

9- رغم ما حدث من تشظٍ مريع للشعارات الشيوعية، إلا إن هناك من لا يزال يرى فيها ثمة بريق. ياترى ما الذي يقوله عبدالكريم كاصد الشيوعي في هذا المنحى؟.. بمعنى هل لا زال منغلقاً على حلمه القديم أم إنه انفصل عنه كيما لا تتراكم الخيبات أكثر.

كاصد: أجل لقد تراكمت الخيبات ولكن ماكان حلما قد يظلّ حلما بأشكال أخرى تتوارثه أجيال وأجيال فالبشر كالأفراد يبدو أنهم لا يستطيعون العيش بلا أحلام حتى لو انكسرت وقد تضؤل أحلامهم وقد تتلاشى ولكنها ستولد من جديد.

أهي لعنة أم لعبة؟ عبث أم منطق؟ سمه ما شئت غير أن الإنسان سيواصل أحلامه كلما افتقد واقعاً ونأى عن ماضيه. وأعتقد أن من غير الإنصاف اعتبار الكثير من الشعراء والمفكرين، شيوعيين وماركسيين، أسرى حلم منغلق قديم.

لقد عاش معظمهم – وهنا أقصد المبدعين منهم – صراعاً قاتلاً مع العالم وأحزابهم وأنفسهم وكان حصيلة ذلك انتحار بعضهم. وجنون بعضهم الآخر، وعذاب البقية منهم. لقد كانت نبوءاتهم اليائسة أقوى من أحلامهم. أما كتب الماركسيين والشيوعيين التي انتقدت النظرية والتطبيق معاً فهي لا حصر لها.

ولو رجعت إلى مجموعتي الشعرية (وردة البيكاجي) الذي صدرت قبل خمس وعشرين سنة والتي كتبتها إثر إقامتي بعدن عاما كاملا، في بداية الثمانينات، لوجدت أنني لم أكن ذلك المنغلق على حلم قديم، ولا المبشر بالجنة، وإنما كنت ذلك الشاعر المحدّق في واقعي وتفصيلاته بعيداً عن الأوهام – أنا المسكون بالأوهام – حتّى أنني عُوتبت كثيرا من قبل الأخوة اليمنيين وقتها لخشونة ما رصدته من واقع آنذاك، في زيارة لي إلى عدن في منتصف الثمانينات، بينما هنأني البعض على ما تضمنه الديوان من صدق تناول ونبوءة هي لم تكن نبوءة في الحقيقة بقدر ما كانت إخلاصا للتجربة المعاشة وابتعاداً عن الأوهام ومن بين هؤلاء صديقي الشاعر على المقري في إشاراته إلى قصائدي التي احتواها الديوان ومن بينها (ليل عدني).

من جهة أخرى كانت قصائد المجموعة موضع توجس لدى بعض العراقيين واحتفاء من قبل البعض الآخرالذين وجدوا فيها صورة لعذاباتهم في المنفى.

سأورد مقطعين من هذا الديوان نفسه كُتبا سنة 1976 لكي أدلّل على ما قلت. الأول هو:

لماذا تُرى يحمل الوردَ أمواتُنا حين يأتون

نجلس بينهمو صامتين

ونُطرق إذ يبدأون الحديثً

وننسى

عندما يحتوينا الطريق

أننا الميّتون

والثاني هو:

يا للعذاب

كلُّ رحلتي

عربةٌ محطومة الأخشاب

وفرسٌ ميّتةٌ

وقدمان تعرجان في الطريق..

قدمان للإياب

يا للعذاب

وإذا ما كان هناك تغنٍ بوهم ما فهوالتغني بوهم بهجةٍ حاضرة:

عدن الجميلة العينين

تنتصب الآن كالساعة الرمليّة

وتسير في زفّة من الأحجار

أو التغني بوهم بهجة تختلط بالمرارة لدى المنفيّ:

القوارب عند السياج

تغادر في الضوء

مطليةً بالضباب

القوارب تأتي وتذهب في ظلمة الليل

تأتي وتذهب في ظلمة الروح

بيني وبين القوارب همهمةٌ

ضوء سيجارةٍ أطفئتْ

وظلال تغادرُ

أيُّ هواءٍ خفيف..!

يلامسني الآن

يحملني قارباً في الضبابْ

10- ترى هل يمكن القول إنّ هناك حركة تحديث جديدة تتبركن الآن في خضم تحولات الثقافة العربية القائمة خصوصاً مع احتدام الأدباء والمفكرين الشباب ضدّ ما اصطلح على تسميتهم بالرموز أو الرواد، مجترحين في ذلك خلق أسلوبهم الخاص ومضامينهم الأكثر جدّة ومغامراتية؟ فيما هنالك من يرى أن الشعرية العربية صارت تواجه اليوم محكّاً مصيرياً لاختيار ذاتها ولغتها وكذا قدرتها التخييلية من جديد، على ضوء من الالتباسات العميقة التي حصلت في بنيات التخيل وطرائق الرؤيا خلال الخمسين عاماً الأخيرة. كيف تنظر أنت إلى ذلك مع التبدّل الحاصل للمرجعيات الكتابية بالنسبة للجيل الجديد و اختلاف مؤثراته المعرفية إلخ؟

* كاصد: أرى أن ثمة تماثلاً في الكثير من هذا المختلف الذي طرحته. ثمة ما نسميه بالرموز. كثيرا ما نراهم متآلفين جدا مع ما هو مختلف عنهم لا لتأكيد (ذواتهم) بل لتأكيد (مواقعهم).

بين فترة وأخرى يطلع علينا (هؤلاء) بحماس منقطع النظير لتنصيب بعض (أولئك) ورثة لهم، مثلما يورث القادة العرب أبناءهم.

هنا نعود إلى المركز والهامش واختلاطهما، وما يتخللهما من أوهام وتثبيت مواقع واحتياج أحدهما للآخر.

من جهة أخرى أجد أنّ من الصعب القول بخصوصية الأسلوب وجدّة المضامين عند الأدباء والمفكرين الشباب في واقع تتداخل فيه الأجيال والتجارب ويمارس فيه عسف واضح وخفيّ إزاء تجارب عديدة من أجيالٍ مختلفة ويجد فيه المبدع، شاباً أم كهلاً عوائق شتّى في طبع مؤلفاته وتوصيلها في ساحة أدبية تكاد تكون مغلقة، على اتساعها، لبعض الأصوات. يضاف إلى ذلك جهلنا بتجارب بعضنا بعضاً، فالكثير لا يعرفون إلاّ ما هو عام في تجربة أيّ بلدٍ عربيّ ويجهلون التفاصيل، ولكنني أرى أيضاً أنّ ثمة تجارب تطالعنا لشعراء شباب أو شعراء لم نسمع بهم من قبل هي مهمة جدّاً وأغنى بكثير مما هو متداول أو معروف في الوسط الثقافيّ. أمّا إنّ الشعرية صارت تواجه محكّاً مصيريّاً لاختيار ذاتها ولغتها فأنا أعتقد أنّنا لسنا في حرب أو تحت وطأة قدر إغريقيّ، مثلما أعتقد أنّ الشعر لابدّ أن يحفر مجراه على السطح أو في الأعماق مادام هناك أناس وتاريخ حافل بالشعر وأجيال انفتحت على آفاق ثقافية شتى، ومادام الواقع عاجزاً عن تقديم دفاعاته العملية للإنسان الذي لم يبق له سوى مخيلته ولغته أمام المصير الذي أشرتَ إليه:

في بيتنا القديم

بيت الشعر

مازال الأجداد يغطون في النوم

بينما يتواثب أحفادهم

في الحقول القريبة

لاهين مع الشمس

كنتُ على الشرفة المطلة على النهر

أسمع ضجيجهم وأضحك

غيرَ آبهٍ لشخير الأجداد

(قصيدة غير منشورة بعنوان ” بيت الشعر “)

11- أخيراً ما هي المشاريع الجديدة التي تشتغل عليها الآن؟

* كاصد: صدر لي كتابان هذا العام: مجموعة شعرية بعنوان (زهيريات) ومجموعة قصصية (المجانين لا يتعبون) ولدي عشرات الكتب التي تنتظر الطبع من بينها ترجمات لأجمل النماذج من الشعر العالمي.

* نشر في الحوار المتمدن 2006 / 6 / 18