حوار

الناقد والإعلامي اليمني الدكتور عمر عبد العزيز:  التعمية أصل أصيل في لغة العرب التي تُضمر أكثر مما تبوح

 

 

 

أنت مدعوٌّ لتقديم من لا يختصره تقديم، نظراً لاتساع وتنوع وغنى حقول الاهتمام والبحث الجمالي والفكري والفني لديه.. ذلك هو د. عمر عبد العزيز، الفنان التشكيلي والقاص و الناقد والباحث في الجماليات، والإعلامي اليمني. صاحب الرصيد الزاخر من الكتب المنجزة، ونخصّ منها: “كتابات أولى في الجمال “، ” مقاربات في التشكيل “، ” ناجي العلي الشاهد والشهيد “، ” الصوفية والتشكيل “، ” زمن الإبداع “.. بالإضافة إلى ترجمته بعض الكتب المهمة من الرومانية إلى العربية، ومنها على سبيل الذكر كتاب ” العبور إلى فلسطين ” لمؤلفه البروفسور إيليا يويا. كما نذكّر بكتب أخرى، للرجل المتعدد، قيد الطبع، وهي تحمل عناوين كلها تشي بعمق المعالجات الجمالية والإبداعية، مثل: ” منازل الشعر “، ” تحولات النص البصري “، ” الاشتباك مع التاريخ “، و” موسيقى الوجود “.. وفي حقل الإعلام الثقافي والسياسي والاسقاطات على الأبعاد الحياتية يكتب د. عبد العزيز الأعمدة في صحف ودوريات عربية عدة ؛ فضلاً عن مساهماته في العديد من القنوات الإذاعية والتلفزيونية، ومشاركاته بالخبرة في تقييم الأداء الإعلامي في دولة الامارات العربية المتحدة. ما سبق رصده كان، حقيقةً، الباعث و المحرِّض على إعداد أسئلة الحوار إعداداً استغرق تقريباً أسبوعين، وقد تأخرت الإجابات فترة خمسة أشهر بسبب بعض الظروف القاهرة. وسوف نجد في إرادة الحرص عند كل من السائل والمجيب الاحترام الكبير الموجّه للقارىء عبر تقديم الوعي والسؤال و الرأي الثقافي، من دون أن تُقدّمَ أو تَرفعَ الإجاباتُ رايةَ الخلاص الثقافي. على أية حال، فإنّ دماثة الروح التي يتميز بها د. عمر عبد العزيز كانت الزاد الضوء الجماليين لنا ؛ فثراء الكلام في الفن والثقافة، والتناقش المباشر والمثمر.. كل ذلك شكّل مخاضاً لولادة الأسئلة ولادة مركّبة وتستند على تشعب الواقع والمحتمل، وعلى القراءة المستبصرة في المنعطف الجمالي والفني والثقافي والسياسي.. الجدي والإشكالي والتهكمي كذلك.. والآن، لنذهب في الحوار:

حاوره: نصر جميل شعث

لنبدأ من دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة، بصفتكم رئيساً لقسم البحوث والدراسات، ومديراً لتحرير مجلة ” الرافد”، ورئيساً للنادي الثقافي العربي بالشارقة ؛ نود منكم جعل القارئ في صورة العمل والأنشطة وأولويات الدائرة الثقافية والتربوية؟

– دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة إطار يهتم بكامل الشأنين الثقافي والإعلامي بالشارقة، والدائرة تتسع لعشرات المؤسسات الثقافية الإعلامية التي تنتشر في ربوع إمارة الشارقة وتنال حظاً وافراً في العناية والرعاية المتميزيتين من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة. فيما يتعلق بي فانا أتولى رئاسة قسم الدراسات والنشر بالدائرة وإدارة تحرير مجلة ” الرافد “، بالإضافة إلى رئاسة مجلس الإدارة بالنادي الثقافي العربي، ومن المُسمى يمكن استنتاج المهام المتعددة الموصولة بالنشر والدراسات وتفعيل نشاطات النادي وإدارة تحرير مجلة الرافد الثقافية الشهرية المؤصلة في المشهد الثقافي العربي كمنبر متميز.

 

مذ بدأنا الشوط.. جوهرنا الحصى بالدم الغالي وفردسنا الرمال ” في هذا البيت للشاعر الراحل عبد الله البردوني نقرأ الإرادة والتحول والبصيرة، ولكن في تقديمه للشاعر، يكتب د. عبد العزيز المقالح في عام 1979: ” أيام البردوني هي أيام اليمن، في بلدٍ ضرير كل ما فيه أعمى أو يدعو إلى العمي ” ما الذي تختزله عبارة المقالح صراحة؟ ولماذا كل ما في اليمن أعمي؟ وما الذي يدعو إلى العمى؟ وهل حدث التغير خلال المسافة الزمنية بين 1979 والآن، لنعلن تجازو يمن 2006 هذه العبارة؟

– الموضوع ذو شقين الأول ذاتي يتعلق بالرائي الكبير عبدالله البردوني الذي كان أعمى البصر قوي البصيرة وشاهداً من شهود الذاكرة المعرفية الموسوعية المتساوقة مع قامات هائلة أمثال المعري وطه حسين، والعمى البردوني بهذا المعنى لم يكن إلا سبباً في انفساح ذاكرته الصوتية والمعرفية التي تنكّبت السير على درب الاختراقات المتتالية للمفاهيم والمعاني والذائقة، وهكذا كان البردوني الذي عرفته شخصياً، وجلست معه غير مرة فكان من الذكاء والمعرفة والموسوعية وإنسيابية التعبير وتلقائية الاستدعاء للرؤى والأفكار إلى درجة تدهش جليسه ومستمعه.

يقول علماء الفيزياء: إن دماغ الإنسان هو المستودع الذي يترجم أحاسيسه المختلفة.. وان كامل أعضاء الجسم لا يمكنها أداء الوظائف المختلفة إلا بارتباط شرطي بالدماغ الشبيه بالكومبيوتر الذي يستوعب المعلومات المختلفة ويعيد تدويرها وفق مقتضيات الأداء الإنساني.

يقولون أيضا أن الدماغ الكبير ليس إلا مستودعاً لما هو متحرك عابر.. فيما الدماغ الصغير أو الأصغر هو مستودع الأسرار العميقة والذكريات البعيدة والومضات المفارقة للشروط التقليدية لإنتاج الشعور والإحساس. ان الدماغ الأصغر ينزاح بقابلياته صوب المنامات والأحلام والذكريات الغائرة في تضاعيف الماضي البعيد والتصرف المفاجىء عند الخطر.. والمشاعر غير القابلة للتفسير. إنه بكلمات أخرى سر أسرار الدماغ الآدمي وهو عند من لا يبصرون بصيرة موازية للبصر أو قدرة استثنائية تجعل الكفيف قادراً على تطوير ملكات وقابليات يصعب تطويرها عند الأسوياء المُوزعين على الحواس الخمس الفاعلة في حياتهم.

من التجربة الملموسة نلاحظ أن بعض الذين افتقدوا نعمة البصر حباهم الله نِعم اخرى، فالشاعرعبدالله البردوني كانت له ذاكرة حديدية تتسع لأدق التفاصيل التي لم يسمعها إلا مرة واحدة، كما كانت لديه مقدرة إستثنائية في تنظيم وتوصيف المعارف الكثيرة والنابعة من مصادر متعددة الى درجة تُذهل سامعه تلك التجارب الإنسانية تظهر أولوية البصيرة على البصر، وكيف أن ملكات الدماغ البشري تتجاوز كثيرا حدود استخداماتها التقليدية، الأمر الذي يؤشّر إلى أهمية العبادات.. التأمل.. السكون، والنظر الهادئ للظواهر، فهذه الأمور بجملتها تسعف الإنسان لتأمل آيات الكون، والنظر الى كنه الوجود فتُخلصه من أدران الأرض وبلاياها وتجعله مُتصالحاً مع نفسه حتى يتصالح مع الوسط المحيط.

أما ماذهب إليه الشاعر الناقد عبدالعزيز المقالح فأنا أؤوّله عطفاً على حال اليمن الذي كحال العرب أجمعين، ترافقاً مع سبات الغفلة والمتاهات، فالوضع الكبيس في الزمنين المجتمعي والسياسي العربي أبلغ من أن يُوصف ويُنعت، فنحن أمة تعيش محنة مزمنة ولأسباب معروفة لا داعي لتكرارها، غير أنني وبالرغم من ذلك أعتبر “التعمية” بالمعنى الإضماري الذي يختزل فقه معرفة ورؤية.. أعتبرها مأثرة من مآثر الثقافة العربية، فالتعمية أصل أصيل في لغة العرب التي تُضمر أكثر مما تبوح.. أقصد أن المُضْمر فيما نكتبه يحيلنا إلى المنطوق الأوسع، وبالتالي فإن أساس العرب المعرفي موصول بالعماء والتعمية، مما يجلعنا نفلسف ظاهرة التخلف باعتبارها المبرر الأكبر والمقدمة الوافية للتطور!!، فليس من عارف إلا وخرج من أضابير الجهل، وليس من ليل إلا ويعقبه نهار. نهار العرب ياعزيزي قادم لا محالة، وكلما زادت الاحتقانات وكثرت البلايا اقتربت ساعة الفرج، والتاريخ كفيل بتبيان ذلك، فللتاريخ دهاء ومكر يعصف بالأوهام.

 كذلك، في تقديمه للبردوني يتصدى د. المقالح لتهمتين اتهمهما الاخوان في البلاد العربية لليمن ؛ التهمة الأولى أن اليمن مازال يعيش عصر الشعر، بمعنى أنه لم يعش للآن عصر الرواية والمسرحية والدراسة الادبية، والتهمة الثانية ما يسمع من هنا وهناك من أن كل يمنى شاعر ؛ لأن الامام وحاشية الإمام وأعداء الإمام كانوا كلهم شعراء أو يتعاطون الشعر. على خلفية التهمتين، كيف تنظرون الآن لحركة الأجناس في اليمن السعيد؟

– هيمنة الشعر سمة عربية شاملة، فالعرب أمة صادرة عن البيان والبديع الموصول بالغنائية اللغوية سواء كانت شعراً أو نثراً، والقرآن الكريم ترجمان خلاق لهذه الحقيقة التي كانت سمة البيان العربي قبل الإسلام، حيث نقرأ زهيراً وعنترة وامرؤ القيس والنابغة شعراً، وأيضا أمية ابن الصلت وكعب الأحبار نثراً، وهكذا.

في اليمن لم يكن الشعر وحيدا في ساحة التعبير، فكتاب القصة القصيرة والرواية حضروا بسخاء منذ عقود خلت، وأمثل لهؤلاء حصراً لا تفصيلاً بأسماء من أمثال زيد مطيع دمّاج ومحمد على لقمان ومحمد عبد الولي وعبدالمجيد القاضي وحسين سالم باصديق وآخرين مما لا يتسع لهم المقال. غير أن الشعر كان سمة التعبير الأميز لارتباطه بفنون الغناء التاريخية، فالشعر اليماني ” الحُميني ” كان مُموسقاً بالضرورة متواصلاً مع البنى اللحنية التراثية، وشعراء الإحياء كانوا متساوقين مع الزمن الشعري العربي، لكن المشكلة تكمن في أن شعراء اليمن كغيرهم من شعراء ” الأطراف” العربية ” لا يُعرفون خارج اليمن، وما زالت هذه المحنة الثقافية قائمة ليس في اليمن فقط بل أيضاً في السودان والمغرب العربي الكبير وكامل الجزيرة العربية.

الخط العربي، العمارة الاسلامية من الكيانات المادية التي ملأها الفن الاسلامي بالمضامين الدينية والروحية ؛ هذا الملاء مرده إلى أن الفن الاسلامي يكره الفراغ، ما يعني أن الفنان المسلم الملتزم لا يترك مساحة فارغة من الموضوع المراد زخرفته أو روحنته بالتشكيل والإعلاء. من هذا المنطلق كيف يمكن التحدث بالطريقة الاسلامية، عن جماليات وفلسفة الفراغ؟

أفهم الفراغ بوصفه إمتلاءً، ولا أجد تناقضاً بين المستويين الظاهرين. مثالي على ذلك فن “التاو” عند الصينيين والذي ينطلق من قراءة للفراغ بوصفه إمتلاءً، فالتاوي الصيني يختزل عناصر موضوعه الفني إلى أبعد الحدود لأنه يرى الفراغ الماثل في الطبيعة باعتباره مُترعاً بالعناصر غير المرئية، وبالتالي فإن مفهوم “الفراغ / الامتلاء” ينزاح بنا إلى فضاء اللامرئي باعتباره الفضاء الأكبر والأكثر اعتماراً وامتلاءً، والحقيقة الفيزيائية المجردة ترينا أن حدود إبصارنا لا يتعدى المرئيات التي نستطيع رصدها عبر عدسة العين وبالتالي فإن ما لا نستطيع رصده عبر عدسة العين أكثر بما لا يقاس مما نراه، فما بالك بالغيوب الأكثر عظماً وهولاً من البكتيريا والكائنات السابحة في الأثير؟.

استتباعا لذلك فإن الفنون الإسلامية التي تعتمد تعبئة الفراغات المرئية لا يمكنها تجاوز جبرية الاعتماد على فراغات موازية حتى عندما يطال الأمر الزخرفة الحروفية والنمنمة والرقش، كما نجد في العمارة المساجدية الإسلامية إعتداداً أساسياً بالفراغ المرئي والوظيفي، فالساحات المفتوحة والأروقة الواسعة والأقواس المتراصة باتجاه الأفق الفراغي، والأبواب المشرعة على الآماد الأربعة. كل هذه الفنون التعبيرية الوظيفية في العمارة الإسلامية تتمحور حول الفراغ ومقتضياته البصرية والعملية والعبادية.

 

خلال عملك في الصحافة الاماراتية كنتَ مسؤولاً عن التقييم اليومي للأداء الصحفي من خلال تقرير المقارنة بين الصحف الثلاث الكبرى في دولة الامارات: الخليج / البيان / الاتحاد، ما يلاحظ في هذا الشأن هو ابتسار المادة الثقافية واهمال توسيعها في الكثير الغالب لكونها لا تساهم في إيرادات هذه الصحيفة أو تلك، إضافةً لزحف الصورة (الإعلان) على الكتلة ( النصّ)، ما هي تعليقاتكم على ملاحظاتنا وما هي توصياتكم الممكنة؟

– تحولت الصحافة اليومية الى” بازار ” اعتيادي للاعلانات، فالإعلان يعلوا ولا يُعلى عليه، وبالتالي فإن الخدمة الصحفية أصبحت مُجيّرة على الإعلام لا العكس، وفي هذا الباب دفعت الصحافة الثقافية الثمن الأفدح لأن السياسي والتجاري والمالي والاستثماري لا تهمه هذه الصحافة، وهؤلاء جميعاً يشكلون ” قدس الأقداس ” في معادلة الحياة العربية المعاصرة مما لا يخفى على أي لبيب.

 

ورد في مراجع أنّ ” كلمة ” مُؤلف” author في أصلها اللاتيني auotor تفيد لقباً أطلقته روما على كل غازٍ أمكنه أن يضيفَ إلى الدولة أراضيَ جديدة “.. لا يستند هذا التعريف على مرجع لغوي بقدر استناده على مرجع سياقي ؛ في ضوء هذا التخفي لخطاب الغزو في بنية الأدب، ألا ترى هذا التعريف السابق مناسبة لاستذكار مقاومة ادوارد سعيد الناقد المتكررة لأشكال الخطاب الذي يتخفى تحت البنى الجمالية والأدبية، لاسيما في كتابه ( العالم / النص / الناقد)؟

– هذا السؤال يجرنا إلى تساؤل حول مصداقية النص وهل هو نابع من الذات الكاتبة فحسب؟ وهل هو محكوم بمسبق ذهني نمطي جاهز؟ وهل النموذج يمثل السياق الحاسم في المعادلة الكتابية؟ وماهو التأليف؟ وهل يتلقى القارئ للنص بوصفه حالة واحدة بذائقة موحدة؟

عندما كتب ” رولان بارت ” مقاله الذي ملأ الدنيا وشغل الناس تحت عنوان ” موت المؤلف ” كان مأخوذا بنظرية التلقي الجمالية.. تلك النظرية التي مهّد لها سابقيه وأصّلها هو في معرض متابعته لتعددية التلقي مما يرفع من مكانة القارئ ويجعله صنواَ للمؤلف أو مؤلفاً يقتفي أثر المؤلف فيما يلغيه عن طريق الهضم والاستيعاب والتداعيات.

إلى ذلك رأى رولان بارت أن المؤلف فيما يكتب إنما يستعيد ذاته عاكسا عوالمه السيكولوجية والنفسية منصاًعا لزمن الإبداع الذي يأتيه فيضاً مخطوفاً بالكلام واللغة، بل أيضا بالمساحة البيضاء التي يكتب فيها، حيث تتحول تقاطعات البياض بالسواد إلى معادل بصري يرتقي إلى مستوى الدلالة. تنطلق الفكرة الجوهرية القائلة بموت المؤلف من أن هذا المؤلف ينصاع لقوانين الكتابة ونواميسها الروحية مما يجعله سارداً محايداً حتى وهو يتوهّم انه يعبر عن قناعاته!.. ولا يمكن الإمساك بمثل هذه الفكرة المتضبّبة الغائمة إلا إذا إستوعبنا المشروع الانقلابي الذي أراده رولان بارت في نظره لفلسفة القراءة والكتابة معاً.. فالقارئ الجديد عليه أن يتخلّص من عبء التماهي التام مع الكاتب المؤلف، لأن ذلك الكاتب المؤلف ليس ساردا لذاته بل لحقائق تفرضها شروط الكتابة وأبعادها.. كما أن على المؤلف أن يتنازل عن مركزيته الواهمة وهو يفترض انه البطل الأوحد في النص. بكلمات أخرى، يريد صاحب الفكرة سحب البساط من فكرة النجم الكاتب الذي يعيد تدوير معطيات الحياة وتفاصيلها كما،ويرى رولان بارت عوضاً عن ذلك الاستعاضة عنها بسلطة النص.. ذلك أن الكتابة ليست شهادة على ما كان أو عملية إثبات وتسجيل وتوثيق لشواهد، بل حالة موصولة بالمستقبل، متجاوزة للانا الساردة ومُشتركة في كتابة النص المقروء. هذا الاستنتاج نجد له توازيا في العديد من المؤلفات القديمة التي تحدثت عن اللمعات والبوارق وومضات الفكرة الجديدة المدهشة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان وتقبع في مكان ما خارج الزمن الفيزيائي وفوق إدراك وإرادة صاحب النص بالمعاني العقلية والمسبقات الذهنية.

رولان بارت وأمثاله من منظري النص الجديد استفادوا من علم جمال الشكل بحثا عن مضامين جديدة.. ولقد استبطنوا ماكان، مُؤكدين تالياً وثالثا على أن فلسفة الكتابة تتموضع في عمق التاريخ الإنساني ولا تحيد عن هذه الديمومة.

 

الفنان الدادائي مارسيل دوشان، أحد فرسان الحركة الدادائية التي ولدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شارك في العام 1920، بمعرض في باريس عرض فيه صورة ن لوحة ” الموناليزا” مضيفاً اليها شارباً ولحية ؛ ألا ترى أنه من جماليات المرافعة والإدانة والمقاومة الآن أن تعرض صورة ” كوندوليزا رايس ” في مقر جامعة الدول العربية مضافاً إليها شارباً ولحية، وذلك تجسيداً لصورة ” الإرهاب” في هذا العالم الدموي؟

– يجوز للفنان أن يختزل موضوعه منتخباً أكثر الأشياء فضاضة أو جمالاً، وله أن يحيل عالم الأنثى الناعم المخملي إلى عالم ” ذكوري ” أكثر قسوة، ويجوز في الفن مالا يجوز عقلاً ومنطقاً، فالفنون رديفة الأوهام والتصوير والتجويز والابتكار والتجريب والاختصار والانتقاء والانتخاب المُمْعن وما إلى ذلك. لا يقول الفنان ما يراه ولا ما يسمعه، بل يقول مايريده وبالكيفية التي تنساب عبر لغة الفن القائم في الوهم والظن وتعدد الدلالات، ولهذا يمكنني أن أصور كونداليدا رايس أو غيرها من البشر بالطريقة التي تومىء بتخريجاتي الذهنية الموصولة بأساس التفاعل مع الآخر الرائي ولقارىء. لكن هذه اللعبة خطرة للغاية ومصائدها من الكثرة والغرابة إلى درجة الاختلاط بالايدولوجيا الأكثر وقاحة وفجاجة، ففي تاريخ التشكيل تحديدا مئات المسميات للفنون التفريعية على المدرسة التأثيرية، وهي تفريعات نبتت كالفطر السام وانتهت بنهاية مجانينها. أنا شخصيا لا أعتد بالفنون المتطيرة حد الكذب والتماهي السلبي مع ايديولوجيا السوق وتجارة الخردوات.

 

انطلاقاً من علم نفس الدول، العدوّ الإسرائيلي عدوّ معقد نفسياً، فضلاً عن أن هذا العدو يقيم كيانه غير الشرعي عبر عقول أرضية قوية لكنها تستند إلى معتقدات وخزعبلات وخرافات.. كيف ترى إلى هذا التناقض في بنية هذا الكيان؟

– السيكوباتيزم الكياني للصهيونية اليهودية مرتبطة بتاريخ اليهودية العالمية التي شاءت أن تضع حواجز بينها والآخر الإنساني فاستوطنت مرابع الخوف المرضي ” الفوبيا ” من الآخر ” الغوييم ” واعتدت بالمال والنفوذ بوصفهما وسيلة الحماية المثالية للنوع اليهودي التائه الهارب من ذاته والآخر، وأخير فاضت تلك الشروع والعادات بخرافات العودة وأرض الحنين والوعد الإلهي المزعوم.

الحالة اليهودية التاريخية ظاهرة تستحق الدرس والتملي المعرفي، وهي حالة تسببت في محنتي الحربين العالميتين من خلال أصحاب الايديولوجيا المتعصبة التي غذتها الدوائر الانتقامية اليهودية ممن تسببوا في ظواهر كالفاشية والهتلرية، كما يفعلون الآن في العالم العربي، حيث تعيد الهتلرية والموسولينية إنتاج سيئاتها بكيفيات متناسبة ومفصلة على مقاسات الزمان والتاريخ والدين!!.