حوار

مها حسن لـ”انزياحات”: الرواية هي المرجعية الأدق للإنسان وتحولاته وتناقضاته

مها حسن ريشة رقمية انزياحات
مها حسن ريشة رقمية انزياحات

مها حسن اسم لامع في عالم السرد عربياً وعالمياً، تجربة إبداعية مغايرة، مغامرة متجاوزة. أفقها الإنسان وأرضها الحرية. عربية الجغرافيا، سورية الوطن، كردية الجذر، فرنسية الإقامة.

واحدة من أهم التجارب التي تنتمي لعالم الرواية بشكل عام، والرواية العربية بشكل خاص. تجارب مثيرة، صاخبة، كثيفة المحتوى، فارقة في الطرح، محيرة في خيالاتها ولغتها وشخصياتها وأفكارها، وحضورها المحرك للجمود في الوعي والثقافة والسلوك والتاريخ والرؤية.

تجربة سردية عمرها قرابة ثلاثة عقود، لكن إبداعها يختلف تماماً عن نتاج هذا الجنس الأدبي عربياً منذ نعومة أظافره؛ لأن صاحبة هذه التجربة لا تعرف المحاكاة ولا التكرار ولا التأطير، وكأنها ترسم ملامح هذا الجنس الإبداعي في كل عمل لها من جديد، وتخلق تصورات مبتكرة لشكل الرواية كجنس أدبي، وكموضوع سردي، وكأسلوب كتابة مغاير، اسمه وصفته ولونه وطعمه “مها حسن”.

وحين تقف بحضرة تجربة وشخصية إبداعية تحمل هذه السمات لمحاورتها، وتلمس هواجسها والبحث عن إجابات مغلقة لأسئلة مفتوحة رسمتها في مجمل أعمالها، فإن الأمر يحتاج إلى جرأة ومغامرة، وهما الصفتان البارزتان اللتان ترتبطان باسم مها حسن كمبدعة سردية استثنائية.

تتشرف “انزياحات” باستضافتك وإجراء هذا الحوار معك كمبدعة استثنائية يتلهف القارئ العربي للتعرف على تجربتك عن كثب، وفي خلجات وعيه تساؤلات جمة يرغب في معرفة إجاباتها على لسانك. مهما كان قارئاً لأعمالك، فإنه يشعر بالفراغ الذهني تجاه روائية تثير أعمالها ضجة نقدية وقرائية مع كل عمل سردي يصدر لها، مما دفعنا إلى طرح هذه الأسئلة على سيادتك، وكلنا أمل وثقة بتكرمك بالرد عليها.

حاورها: فتحي أبو النصر

الكتابة الروائية مختبر إنساني متجدد ومتناقض، يمنحني اكتشافات ومتعة لا تنتهي، حيث تعكس الرواية التفاصيل الدقيقة لتحولات الإنسان وتناقضاته التي تعجز العلوم عن الإحاطة بها.

بعد مضي قرابة ثلاثة عقود على تجربتك السردية الإبداعية وقد أصبح اسمك ساطعاً في عالم السرد، كيف تنظرين للرواية كجنس إبداعي ارتبط باسمكِ وموهبتكِ وحياتكِ؟ وما الذي تمثله الرواية للإنسان المعاصر؟

أعتقد أن الرواية هي الأرشيف النفسي والاجتماعي للإنسان الفرد أولاً، وللشعوب تالياً. إن الرواية باشتغالها على التفاصيل الإنسانية الدقيقة، وخوضها في داخل تفكير الفرد، هي المرجعية الأدق للإنسان وتحولاته وتناقضاته التي لا يستطيع العلم الإحاطة بها. بالنسبة لي، اشتغالي في الكتابة الروائية هو مختبر إنساني متجدد ومتطور بل ومتناقض، في كل معادلة يقدم لي اكتشافاً مختلفاً ومتعة لا تنتهي.

أشعر بتقاطعات مع أندريه بروتون وكافكا، وأؤمن بأن البشر سلسلة متواصلة من المشاعر والأفكار، وأن الموت لا ينهي التواصل بينهم.

كيف تولدت العلاقة الحميمية بينكِ وبين الرواية؟ وهل وجدتِ نفسكِ فيها؟ وهل استوعبت كل همومكِ وهواجسكِ الفكرية والنفسية والاجتماعية والتاريخية؟

بدأت علاقتي بالرواية عبر الحوار المتخيل مع شخصيات غير موجودة في الحياة، أو في حياتي الشخصية. ولا تزال هذه العلاقة قائمة وتُلهمني. فأنا مثلاً أتحاور مع أشخاص أحبهم، لكنني لم أعش في زمنهم، وأعتبر أن وجودي في الحياة مرتبط بهم. أندريه بروتون مثلاً مات في السنة السابقة لولادتي، لهذا أشعر بتقاطعات سيرة معه، وكذلك أشعر أن معاناة كافكا في زمنه لا تنفصل عن معاناتي. أنا مؤمنة بأن البشر هم سلسلة معرفية من المشاعر والأفكار، وأن الموت لا ينهي التواصل بينهم. لهذا ذهبت إلى تدوين عوالمي الخيالية اللامتناهية، والتي تبدو ككهف سري مليء بالشخوص والحكايات والأفكار. وجدت نفسي في الرواية لأنها صديقة وفية، تنتظرني عند كل مأزق يومي عابر، أو لدى كل فشل في حياتي. لهذا أعوّل على الكتابة أكثر مما أعوّل على حياتي اليومية العادية، حيث لا أجد فيها خلاصي الشخصي فقط، بل خلاص البشرية عبر المحبة والتسامح والتفاهم وإعادة تقديم الحياة من وجهات نظر مختلفة.

 

يرى النقاد أن مها حسن ممن أضفن إلى جنس الرواية العربية مضامين ذات خصوصية أنثوية قلما غامر في طرقها الروائيون الذكور. كيف تفسرين هذا الرأي؟

ربما لأنني أعتقد بأن عالم المرأة مكتظ بالتفاصيل. لننظر إلى جداتنا وأمهاتنا وجاراتنا وقريباتنا، هناك اهتمام مدهش بتفاصيل جمالية وروحانية لا تخطر بسهولة في عقول الرجال الذين يميلون إلى الجانب العقلاني الصارم. أنا لا أعمم بالتأكيد، وأؤمن بأن هناك رجالاً مبدعين بالفطرة، لكنني مؤمنة بأن التاريخ ظلم الرجل حين وضعه في خانة المسؤولية المباشرة، فحيّد عالمه النفسي والعاطفي، وأظهر علاقته بالخيال والتفاصيل الجمالية كأنها نقاط هشاشة، بينما مُنحت المرأة الحق المطلق بتسلّم راية الروحانية والاهتمام بالقسم الداخلي من المنزل ـ التربية ـ الحياة. وهذه ربما إحدى المزايا النادرة التي أنقذت عبرها النساء عوالمهن. خذ مثال شهرزاد التي كانت مهددة بالقتل، لكنها نجت عبر الخيال. حكايات شهرزاد التي أجلّت موتها من ليلة لأخرى، مليئة بالتفاصيل، تلك التفاصيل المدهشة هي التي خلقت المتعة لدى شهريار، وشغف الانتظار، ولذة الاكتشاف.

أمي ماتت إثر قصف بيتنا في حلب، كانت شاهدة على الحرب بعيداً عن الأجندات السياسية التي تهمل معاناة الناس.

اشتغلت مها حسن كروائية في غالبية أعمالها الصادرة في السنوات الأخيرة على رصد وتوثيق الحرب الدائرة في سوريا مستخدمة السرد ككاميرا لتسليط الضوء على معاناة الناس هناك، كما في “عمتِ صباحاً أيتها الحرب”. كيف تشكلت لديك هواجس وتصورات هذا العمل السردي الهام؟ وماذا كان بودكِ أن تعريه في ثناياها؟

ماتت أمي إثر القصف الذي طال بيتنا. كانت تعيش وحدها في حلب، وأنا في باريس، عاجزة حتى عن حضور دفنها. أمي كانت صلتي اليومية بقصص الناس أثناء الحرب، ولم تكن أمي فقط هي تلك المرأة التي تجمعني بها علاقة بيولوجية، بل كانت إحدى الشاهدات على الحرب كما هي بعيداً عن الأجندات السياسية التي تهمل معاناة الناس وتعتبرهم وقوداً لإنجاح مشاريعها وتطلعاتها العسكرية والسياسية. أمي تشبه كثيراً من الأمهات السوريات بفطرتها وطيبتها وحبها للناس والحياة. ولأنني لم أحتمل صدمة تلاشي بيتنا الذي أمضيت فيه سنوات طفولتي وشبابي وكل ذكرياتي خلال أكثر من ثلاثين سنة، ولم أحتمل تبخّر أمي ومغادرتها الحياة، أردت أن أرد لها الاعتبار، ولجميع الأمهات اللواتي أخذت الحرب منهن الحياة، لأكتب هذه الرواية، التي تنتهي بعبارة تقولها أمي في كل صباح، محاولة اتقاء شر الحرب، عبر التودد لها: “عمتِ صباحاً أيتها الحرب.”

 

في روايتكِ “مقام الكرد” شكلت الموسيقى أفقاً مهيمناً، حيث صرحتِ في مطلعها بالقول: “يعيش الكرد بالموسيقى والحب”. هل بإمكاننا معرفة ماهية هذا السر الرابط بين الكرد والموسيقى؟ وكيف استطعتِ توظيفه في هذه الرواية؟

ارتبطت صورة الكرد عموماً بالسياسة والقتال، بسبب حرمانهم من إقامة دولتهم وتخلي الحلفاء عنهم بعد استغلالهم والاستفادة منهم. ولكن الصورة الخلفية للموضوع الكردي برأيي هي “الاحتفاء”. حين نرى أعياد النوروز والدبكات والموسيقى والملابس الملونة، نشعر بميل هذا الشعب للفرح. هذا ما أردت الاشتغال عليه في روايتي، أي تقديم صورة الكرد العميقة، كونهم شعوب تبحث عن البهجة والسلام والمحبة. واكتشفت عبر اختبار ذائقتي الموسيقية، وأنا لا أملك أية ثقافة موسيقية بالمقامات والنوتات، أن كل أغنية تسحرني هي من مقام الكرد “الذي تقشعر له الأبدان” كما وصفته في روايتي. من هنا وظّفت المقام الموسيقي في روايتي لأنسج رواية موسيقية، أصنع فيها علاقة إنسانية عميقة بين الفرد والموسيقى، حيث تحرّك الموسيقى الذاكرة، وحيث تساهم في تصوير الماضي لأحدنا، فيتعرف على نفسه أكثر عبر فهم مشاعره.

غلاف رواية مقام الكرد.

بعض العرب والكرد خضعوا لتاريخ مصنوع من الكراهية بين الشعوب، لإعلاء راية الحرب والاقتتال

هل يمثل صراع الهوية الكردية/العربية هاجساً مضمراً في تجربتك؟ وكيف يبدو هذا الصراع من وجهة نظركِ؟ وما مدى إخلاصكِ في سبيل تحقيق تغيير مسار هذا الصراع؟ وما هو حلمكِ بخصوصه؟

لا أبداً، أنا لا أعيش أي صراع من هذا النوع، ولا أؤمن به. إن الصراع هو عملية سياسية تخفي خلفها فهماً خاطئاً لجوهر الإنسان العربي والكردي معاً، وهو عبارة عن أجندات. للأسف هناك بعض العرب والكرد الذين يخضعون لتاريخ مصنوع ومشغول عليه من الكراهية بين الشعوب، لإعلاء راية الحرب والاقتتال. الناس في جذورهم متشابهون ويميلون للسلام والتعايش، لكن هذه الثقافة غير مرحّب بها سياسياً لأنها تتعارض مع المشاريع السياسية القائمة على الكراهية والتعصب ورفض الاختلاف.

أعمل على تفكيك الهوية، لأنني أؤمن بأن الهويات ليست ثابتة، بل متعددة ومتغيرة

ولدتُ بحمل لغتين أم: العربية والكردية، وأحاول ترجمة عوالمي الكردية باللغة العربية

مسألة الهوية لها عدة صور في أعمالكِ سواء كقضية لمجتمع أو فرد أو لثقافة أو لانتماء، مما يعني أنكِ تناضلين سردياً في سبيل تعديل قوة الهوية المهيمنة وإبراز أو انتصار الهويات المضطهدة أو الأقلية. ما هو تفسيركِ لهذه الظاهرة البارزة في تجربة مها حسن؟

إن حروب البشرية كلها قائمة على أسباب هوياتية، إذا صحت اللفظة. الجميع يحاول إثبات حقه في جغرافيا ما، وتقوم الكوارث بين البشر ليثبت طرف أحقيته ضد طرف آخر. لهذا فأنا مهووسة بالعمل على تفكيك الهوية، لأن الهويات ليست ثابتة وليست واحدة. وأنا أؤمن بالتنوع، وكوني مولودة من دم كردي، أحمل موروثات روحانية من جدتي الكردية التي ورّثتني السرد، وكذلك من جدتي العربية التي وضعت أمي في العالم، وكانت تتقن العربية أكثر من الكردية. فقد جئت إلى الحياة أحمل لغتي الأم: العربية والكردية معاً. أنا اليوم أتقن الكتابة بالعربية، لأنها اللغة الرسمية في سوريا، البلد الذي وُلدت فيه، لكن عوالمي النفسية والعاطفية كردية. لهذا فكأنني أترجم عالمي الكردي باللغة العربية، وهذا مثال فقط على أن الهوية مركبة لدى جميع البشر، ولا يجب أن تخضع للحروب والتنافس، بل إلى التحليل والفهم والتكامل. أما تركيزي على الهويات المضطهدة والأقليات، فهذا باعتقادي أحد مصادر ثراء الكتابة أو إثرائها، عبر الدخول في مناطق جديدة وغير مألوفة وحساسة، للانتصار لمعاناة الفرد في أضيق زاوية ممكن اللحاق بها والتعبير عنها.

رواية ‘نساء حلب’ تستعرض التاريخ السوري عبر مائة عام من خلال قصص النساء اللاتي يروين حكاياتهن الشخصية.

لرواية “نساء حلب” كواليس خاصة، كونها الرواية التي ظهرت لكِ باللغة الفرنسية. هل كان استغلالكِ لكتابتها بالفرنسية أثراً كبيراً في تحرركِ من القيود والتابوهات التي تعيقكِ في رواياتكِ الأخرى المكتوبة بالعربية؟ نحب أن نطلع على كل التفاصيل المخفية المتعلقة بهذا العمل.

كزلزال شخصي وقع في حياتي، علمت بالصدفة أن جدتي لأمي، التي عاشت معنا سنوات طويلة وكانت تعاني من رهاب الطهارة والوضوء والصلاة، وتتجادل معنا نحن أحفادها إذا انتهكنا أي تفصيل صغير يتعلق بالنظافة، كانت أرمنية الأصل. هربت وهي طفلة في الخامسة من عمرها من مجازر الأرمن في تركيا، حيث حُرق بيت أهلها مع أبويها وأخيها الرضيع، ونجت بمساعدة جيرانها الذين أخذوها إلى سوريا، حيث تبنتها عائلة مسلمة وأعطتها اسماً عربياً، فتغيرت هويتها كلياً، وأصبحت شخصاً آخر.

رواية نساء حلب بالفرنسية.. الرواية التي ترفض مها حسن ترجمتها الى العربية!

هزتني حكاية جدتي التي عاشت حياة امرأة أخرى، وتزوجت دون أوراق رسمية من جدي الذي لم يعلن وفاة زوجته رسمياً، فحلت هذه الصغيرة محلها وأخذت اسمها رسمياً، لتصبح شخصاً ثالثاً.

وجدت في هذه الحكاية حالة روائية مدهشة، ورغبت بقوة في إعادة الاعتبار لجدتي، التي بفضلها جاءت إلى العالم جدتي لأمي، ابنتها التي أنجبت أمي، التي أنجبتني. اكتشفت أننا نساء كثيرات: جدتي وبناتها السبع ونحن الحفيدات الكثيرات، ننحدر من امرأة مجهولة النسب، أرمنية مُنحت الهوية العربية المسلمة، لنعيش تاريخاً غريباً. ثم تأتي الحرب لاحقاً، لتأخذ أختي الصغيرة إلى تركيا، حيث تتزوج من تركي وتنجب طفلة تركية.

هذه الرواية جعلتني أفتح باب التاريخ السوري لمدة مائة عام، منذ مجازر الأرمن وحتى الحرب في سوريا، لأتحدث عن التاريخ السياسي والاجتماعي من خلال حكايات النساء اللواتي يروين قصصهن الشخصية بالتوازي مع قصص البلد.

كيف تلقى القارئ الغربي هذه الرواية، وهل تمكنتِ من إيصال رسالتكِ المنشودة إليه؟

دون مبالغة، هذه الرواية الوحيدة التي كتبتها بالفرنسية قدّمت لي قراءً يزيدون عن عدد قرائي بالعربية لخمس عشرة رواية كتبتها بالعربية. لقد فتحت لي الحوارات مع الجمهور الفرنسي أبواباً ونوافذ في ذهني لم أكن أعرفها عن نفسي. كان كل شخص ينسب كتابتي إلى مصدر ما، مقارناً إياي بكاتبة إيرانية، أو كاتب كندي، أو كاتبة باكستانية، مما جعلني أكتشف ملامح كونية في كتابتي المغمسة بآلام النساء المنتشرات في العالم: كرديات، عربيات، فرنسيات، مسلمات، يهوديات، مسيحيات.

عند قدومي لفرنسا، اختبرت آلام المنفى وجمالياته، لكن الحرب فرضت منفى قسرياً على كثير من السوريين

في رواية “مترو حلب” يظهر حنين خاص إلى الجغرافيا التي جاءت منها مها حسن، حنين مصحوب بالألم والاغتراب النفسي والواقعي. كيف تحول هذا الهاجس من شعور وإحساس إلى رواية؟

لا أعتقد أنه حنين إلى الجغرافيا بقدر ما هو تماهٍ مع آلام السوريين في المنفى القسري. عندما جئت إلى فرنسا قبل عشرين عاماً، اختبرتُ آلام المنفى وجمالياته أيضاً، لكن منفاي آنذاك كان منفى اختيارياً، بل أسميه “وردياً”. أسست خلال سنوات سريعة علاقات وصداقات، وكتبتُ وعُرفتُ وانشهرتُ. ثم جاءت الحرب لتقذف بكثير من السوريين في منفى لا يريدونه، هربوا إليه خوفاً من الموت. لهذا تحدثت في هذه الرواية عن حالة الرفض الداخلي للعيش في جغرافيا مفروضة على الأبطال، وخاصة سارة، البطلة الرئيسية للرواية، التي تثمل وتأخذ المترو في باريس، حالمة أنها ستجد نفسها في المحطة القادمة في حلب. أما أنا، فإنني متمسكة بحياتي الفرنسية وأشعر بالانتماء إليها، وأعتقد أن حلمي بالتواجد في حلب هو كابوس أخاف منه حتى بمجرد التفكير أنه سيداهمني في الليل والوحدة والبرد.

الذاكرة هي الكهف السري لإنتاج الكتابة، حيث أسترجع التفاصيل المنسية التي تشكل واقعاً ملهمًا لي

تشكل الذاكرة مخزوناً سردياً تنطلقين منه في كتابة الرواية. إلى أي مستوى تتكئين على هذا المخزون في خلق عالم روائي يجمع بين الخيال والواقع؟

الذاكرة هي الكهف السري السحري لإنتاج الكتابة. في “نساء حلب” حفرت في طفولتي المنسية، بل وذهبت إلى ما قبل ولادتي بمساعدة أمي وعماتي وخالاتي وجاراتي، ليروين لي حياة أهلي التي مهدت لحياتي. اليوم، أشعر كطفلة حصلت على “مرحى” من معلمتها التي تحبها عندما أتذكر تفصيلاً عشته ونسيته ووجدت أنه مؤثر عليّ حالياً. أنا أعشق رواية “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، أو “عشت لأروي” لماركيز. هذا النوع من الكتب يجعل الواقع هو الخيال الساحر الملهم، ويحيد الواقع الممل المتكرر.

الحرية هي الفارق الأكبر بين الرواية العربية والفرنسية، لذا كتبتُ ‘نساء حلب’ بالفرنسية ورفضت ترجمتها.

لننتقل إلى أسئلة عامة: من خلال إقامتك في المنفى وإجادتك للغة الفرنسية وقراءتك بها، كيف تقارنين بين الرواية العربية والرواية الفرنسية، وما مدى التشابه والاختلاف بينهما؟

المقارنة مستحيلة. الحرية هي الفارق الكبير، لهذا كتبتُ “نساء حلب” بالفرنسية، وأرفض ترجمتها إلى العربية، لأنني كتبتها دون تابو ودون تفكير في القارئ الذي سيحاكمني. لذلك، الحديث عن تقنيات الكتابة الغربية وتطور مستوى السرد وكل القضايا التنظيرية المتعلقة بالكتابة مرتبط بمستوى حرية الكاتب في تجاوز أي خوف في المضمون وفي الشكل. لهذا فإن الرواية الفرنسية تقف في صف، والعربية في صف آخر، اللهم إلا بعض الكتابات الفرانكفونية، حيث تتسلل الحرية إلى روح وعقل الكتّاب الفرنسيين المنحدرين من أصول عربية، ليعبروا عن عوالمهم، محاطين بروح الحرية الغربية التي لا تجعل منهم خطّائين مذنبين مضطرين للتبرير وربما للاعتذار.

الرواية العربية تعاني من فقر البيئة الثقافية والاجتماعية الآمنة، ما يعيقها عن الوصول إلى العالمية

هل الرواية العربية المعاصرة رواية عالمية أم أنها ما زالت بعيدة عن هذا المستوى؟ أم أنك تؤمنين بخصوصية كل لغة سردية وتعتبرينها عالمية مهما كتبت بأي لغة؟

الرواية العربية المعاصرة تعاني من فقر البيئة الثقافية والاجتماعية الآمنة لتصبح عالمية. نحن لدينا كتّاب مهمون، لكنهم يمارسون الرقابة الذاتية على أنفسهم، لأن الكتابة بحرية تعني أولاً رفض الناشر للكتاب، والناشر أيضاً يخضع لشروط التوزيع والصدام مع المؤسسات الثقافية الرسمية. أنا أؤمن بخصوصية كل لغة سردية وأعتبرها عالمية، لكن العائق الذي يقف أمام الرواية العربية في الوصول إلى العالمية هو الذهنية العربية المؤسساتية المقيدة بتاريخ من الاستبداد والافتقار إلى النزاهة والخبرة في الحكم على الإبداع.

14. هل هناك قفزة حقيقية للرواية السورية مثلاً تجاوزت فيها نظيرتها في مصر أو في الخليج العربي؟

لا أعتقد ولا أؤمن بمعايير نجاح وفق جغرافيا. أؤمن بالبيئة العامة المنتجة للإبداع. ولكن ربما خصوصية الوضع السوري في السنوات الأخيرة، حيث الحرب والنزوح والمآسي الكبيرة المفصلية التي عاشها السوريون عموماً والكتّاب خصوصاً، فتحت أبواب التجريب لدى الرواية السورية، لكنها لم تشكل قفزة برأيي.

الإبداع يتطلب مزج الطفولة بالنضج، فضول الأطفال وسذاجتهم وحريتهم، مع حكمة الكبار لخلق عمل فني متكامل

15. لو وقفنا معكِ وجهاً لوجه وسألناكِ ما الذي يميز رواياتك؟ أهو الموضوع أم الأسلوب أم اللغة الجريئة أم الموهبة المختلفة؟

كل هذه الأشياء معاً. الإبداع وصفة معقدة، من أهم مكوناتها: مزج الطفولة بالنضج. العمل الإبداعي يحتاج لفضول الأطفال وسذاجتهم وحريتهم في عدم الخوف من طرح أسئلة غبية، وإلى حكمة الكبار الذين يحولون ذلك الشغف والتلقائية إلى عمل له منطقه الخاص. لهذا، فإن ما يميزني باعتقادي هو صدقي الروائي. أنا أصدق الحكايات التي أشتغل عليها وأسردها، وأتماهى مع أبطالي، حتى أنني أنادي المقربين لي بأسماء شخصياتي أثناء كتابتي لرواية ما، كأنني أعيش حقاً داخل الكتابة.

أطمح لكتابة كتاب عن أدب الأقليات يحاكم النظرة الغربية الاستعلائية في تصنيف الأدب.

17. يا حبذا لو تعرفينا على مشاريعكِ السردية المقبلة. وما هي المواضيع التي تأملين خوضها في المستقبل؟

لدي مشاريع كثيرة، لا أعرف إذا كانت الحياة ستساعدني على إنجازها. أهم كتاب أحلم بالعمل عليه، ويحتاج إلى تفرغ، هو ما يشبه اشتغال جيل دولوز وفيلكس غواتاري في كتاب “من أجل أدب أقلوي”، حيث أتطرق فيه إلى مفهوم كتابة الأقليات، لكن بطريقة روائية، تحاكم النظرة الغربية الاستعلائية في تصنيف الأدب وتجنيسه.

 

18. سؤال يشغلكِ ولم نتمكن من طرحه عليكِ، وتودين الرد عليه أو قضية تلح عليكِ ولم نبلغها. لكِ كامل الحرية في ختم هذا الحوار الشيق بكل ما ترغبين قوله.

خالص الشكر والتقدير،،