حوار

حوار معن دماج: الواقع تجاوز الأحزاب.. وهناك من يشترون الوقت وآخرون ينتظرون فقط

معن دماج انزياحات
معن دماج انزياحات

في نقد ثقافي اجتماعي سياسي قاس وواقعي، يرى دارس الاجتماع د. معن دماج أن الحركة الحوثية زفرة الإمامة الأخيرة، وذلك نتيجة فشل مشروع الدولة الوطنية.

يقول لـ”انزياحات” إن الحركة الحوثية تعبير مكثف عن كل أدواء المجتمع القديم، وإن طبيعتها وتركيبتها الاجتماعية والفكرية لا تسمح لأحد بأن يحمل مثل هذه الدعوات إلى السلام على محمل الجد، كما يشدد على أن عودة الإمامة بطبعة أكثر تخلفًا وعنفًا لأن أساسها الاجتماعي يبدو قد تلاشى، مستمدة وجودها من فشل الدولة الوطنية وثورة فبراير ومن حبل سري أسود من نظام المعمم الفاشي في الجمهورية الإسلامية.

فإلى الحوار:

تتركز كتاباتك في الهم السياسي والاجتماعي ولديك منظور فلسفي مرموق ومشهود، إلى أي مدى انعكاس الجائحة الحوثية على الدولة والمجتمع برأيك، خصوصًا وهي ترتكز على أسس طائفية لا تقبل التمدن ولا الديمقراطية ولا حتى الجمهورية؟

من الممكن أن نجد في الحركة الحوثية أمرين، أنها تعبير مكثف عن كل أدواء المجتمع القديم – ما حاولت ثورة سبتمبر تجاوزه وفشلت – وتعبير عن ذعر ذلك المجتمع من عمق التحولات الاجتماعية، ما يفسر عنفها وقسوتها ورجعيتها البالغة، لذا سبق لي وصفها بزفرة الإمامة الأخيرة. طبعًا من الممكن اعتبار الحوثي نتيجة فشل مشروع الدولة الوطنية، وهو فشل كان أبرز تجلياته محاولة صناعة سلطنة وسلالة حاكمة كما شاهدنا منذ نهاية الثمانينات وخصوصًا بعد حرب صيف 94. وكونها صعدت إلى السطح بعد ثورة فبراير تعبير عن عودة أدران الماضي مجتمعة ومتحفزة، فهي بالتأكيد تحمل كل سمات الثورة المضادة، وكان والتر بنيامين محقًا أن ظهور الفاشية تعبير ولاحق على فشل الثورة. عادت الإمامة إذن بطبعة أكثر تخلفًا وعنفًا لأن أساسها الاجتماعي يبدو قد تلاشى، مستمدة وجودها من فشل الدولة الوطنية وثورة فبراير ومن حبل سري أسود من نظام المعمم الفاشي في الجمهورية الإسلامية.

نحتاج إلى نقد العقل “الموفمبيكي” وشلة السفارات وجماعة الشرعية كيف فوتوا فرصة التغيير. كيف فرطت القوى السياسية بالعقل وتمسكت بخرافة ووهم إمكانية تغيير العقل الحوثي بينما كانت نواياهم ومشروعهم واضحًا. بل كيف قبلت نخبة المجتمع الحوار مع ميليشيات، ما جعل مشروع الميليشيات هو المهيمن؟

مؤتمر الحوار الوطني كان تعبيرًا عن عدم وجود رابح في الصراع بين النظام وثورة فبراير، فكانت التسوية الممكنة طبعًا بتدخل سعودي وخليجي ودولي. وكثير من تفاصيله تبدو مفهومة بما فيها مشاركة مليشيا الحوثي طالما كان العجز عن الحسم هو السائد. أظن المشكلة كانت أساسًا فيما سمي بحكومة الكفاءات، والتي مثلت خيبة كبيرة للناس ودفعت قطاعات واسعة للعودة إلى أحضان نظام علي صالح. ما حدث لم يكن أمرًا مقضيًا، تضافرت الكثير من العوامل التي أنتجت ما نراه اليوم. أظن أن النقد الواسع لمؤتمر الحوار سببه رفض لمخرجاته وأساسًا لفكرة الفيدرالية والإقليمية، وهو رفض يشمل تيارات حتى متناقضة. والغريب أن نجد من يحتفي بالانفصاليين المكرسين بينما يعتبر الفيدرالية مؤامرة لتفتيت البلد.

طبيعة الحركة الحوثية أنها لا يمكن أن تدخل في تسوية لا تعطيها الهيمنة شبه المطلقة. وأي مشروع سلام معها محكوم بالفشل، وهذا الأمر الذي لا أظن أنه يخفى على السعوديين.

جميع الأطراف السعودية وإيران والحوثيون يشترون الوقت، بينما تكتفي الحكومة ومجلس القيادة بالانتظار.

ما الذي حققه التحالف العربي بعد عشر سنوات من الانقلاب؟ ولمَ لم يغير في مواجهة الميليشيات لغة الحرب والسياسة؟ وهل تتوقع تسوية بين السعوديين والحوثيين مادامت الشرعية فشلت في الحرب وفي السياسة؟ بل على أي أساس ستتم تلك التسوية؟

أولًا وبعيدًا عن التمني وتصور أن التحالف تدخل من أجل إنجاز ما فشل اليمنيون في إنجازه في ثورة فبراير. التحالف تدخل لحل مصالح السعودية ودول الخليج ومخاوفها لا لأي سبب آخر. ومع ذلك كان ذلك التدخل والقوات الحوثية في قصر معاشيق في عدن وطريقها يبدو سالكًا نحو المكلا والغيضة باستثناء بؤر مقاومة أهمها مأرب والضالع وتعز. أتصور أن جزءًا من أسباب الوضع الراهن يعود إلى طبيعة التناقضات بين مشاريع دول التحالف – السعودية والإمارات – وأيضًا وخصوصًا ميل القوة الأساسية في الشرعية للهيمنة ومخاوفها المفهومة سواء من الاستهداف أو الحصول على نصيب أقل مما تريده من السلطة، وأيضًا أن القوى الدولية قد وضعت قيودًا على نوع الدعم والسلاح المقدم للشرعية لأسباب تتعلق بطبيعة تركيب هذه القوات وتداخلها في بعض النقاط مع قوى تصنف إرهابية عن حق أو باطل.

بالنسبة للتسوية بين السعودية والحوثيين فهي كانت قد قطعت شوطًا كبيرًا قبل الحرب الصهيونية على غزة وأحداث البحر الأحمر، حتى لو قال أي ممن يعرف طبيعة الحركة الحوثية إنها لا يمكن أن تدخل في تسوية لا تعطيها الهيمنة شبه المطلقة، وإن أي مشروع سلام معها محكوم بالفشل، وهو الأمر الذي لا أظن أنه يخفى على السعوديين، لكنهم في تقديري لا يريدون غير هدنة طويلة تمكنهم من التقدم في مشاريعهم الاقتصادية التي يقدرون أنها ستنقلهم إلى مستوى آخر حتى على مستوى الاستعداد العسكري، بالتالي جميع الأطراف السعودية وإيران والحوثيون يشترون الوقت، بينما تكتفي الحكومة ومجلس القيادة بالانتظار.

ألا ترى دعوات السلام، ألا تشعرها مفرغة من معناها والإمامة تتربص بالشعب والدولة بل وتفرض إرادتها في استلاب اليمنيين حريتهم وكرامتهم؟

لا علاقة لكل هذه الدعوات بالسلام، هي دعوات للاستسلام. بعضها من ناس يظنون أننا هزمنا ولا داعي لجحود ذلك، وبعضها من أناس يريدون أن يتكيفوا مع ما يظنونه ميزان القوى الجديد، والأسوأ من قبل أناس يبحثون عن مكان ضمن دوائر التمويل الدولية والغربية التي تقدم مثل هذه الدعوات. لكن طبيعة الحركة الحوثية نفسها وتركيبتها الاجتماعية والفكرية لا تسمح لأحد بأن يحمل ميل هذه الدعوات على محمل الجد. صحيح أن الناس تعبت وهي لا ترى ضوءًا في آخر النفق، لكن تضليلهم وتسويق الوهم ليس حلاً.

ماذا تقول لمنظمات تعزف على وتر السلام وهي في الحقيقة تسترزق باسم السلام ليس أكثر، بل يهمها إطالة أمد الحرب وتعليقها من أجل دعومات أكثر لمشاريع سلام جوفاء تنتهي حبرًا وتوصيات على ورق بمجرد عودة المشاركين من عدة دول عربية شاركوا فيها مثل طرشان في زفة حفلات زار باسم السلام دون أي خجل؟

ليس لدي ما أقول. وأظن أصلًا أن أغلب هذه المنظمات تقوم بمراجعة مشاريعها نتيجة ما حصل من القرصنة الحوثية وضرب للسفن التجارية.

 

أزمة الحزب قديمة، والحقيقة أنه فعل كل شيء ليتجنب محاولة تجاوزها، تحول خطابه لما يشبه خطاب المنظمات غير الحكومية!

ألا تلاحظ أن الحزب الاشتراكي اليمني حزب الحركة الوطنية والمفترض أن يكون قائد الشعب تحول إلى لغة المنظمات وكأن هذا هو الممكن والمتاح، بل كيف ترك المجتمع وحيدًا وأعزلًا هكذا؟

أزمة الحزب قديمة، والحقيقة أن قيادة الحزب فعلت كل شيء ليتجنب محاولة تجاوزها، فالتصور السائد داخله كان أن أي نقاش جدي لها سيقضي إلى تشرذمه، لذا استبدل العمل الجدي والنضال الحقيقي وإصلاح الحزب بممارسات شكلية جوهرها السعي إلى التحالفات مع قوى سياسية أخرى بتصورات عامة أو التعويل على القوى الدولية كمعدل لميزان القوى المختل. تحول خطابه لما يشبه خطاب المنظمات غير الحكومية هو في الواقع استمرار لنفس الخط. طبعًا كانت ثورة فبراير قد منحت الحزب نفسًا جديدًا وأعادت المناضلين والناس إلى دواليبه، لكن مع فشل الثورة وصعود الثورة المضادة اختار الحزب الذهاب إلى الهامش وعدم مواجهة العاصفة القادمة، وكان الكونفرنس الأخير تعبيرًا عن كل ذلك.

 

الواقع تجاوز الأحزاب التي تعيش موتًا سريريًا، وما يجعل الحديث عنها مستمرًا هو عدم ظهور تنظيمات جديدة تشكل أفقًا لحل مشاكل المجتمع.

ما يقهر اليمنيين هو اللغة الدبلوماسية للأحزاب والنخب والتحالف والأمم المتحدة تجاه الميليشيات. فهل تعتقد أن الشعب يستطيع تنظيم قواه الحية والجديدة خارج نطاق هذا الاسطبل؟ متى إذن؟ أقصد ما الذي ينقص الشعب ليثق بإمكانية يمن حر ديمقراطي موحد؟

الواقع تجاوز الأحزاب التي تعيش موتًا سريريًا، وما يجعل الحديث عنها مستمرًا هو عدم ظهور تنظيمات جديدة تشكل أفقًا لحل مشاكل المجتمع والناس. ظهرت، طبعًا، تشكيلات هي غالبًا تعبير عن أزمة المجتمع وخصوصًا التيارات قبل الوطنية. المشكلة ليست في خسارة القوى الديمقراطية، بل في تخليها الفعلي عن مشروعها وتذيّلها لمشاريع خصومها.

الثورة كانت تعبيرًا عن وصول النظام القديم إلى القاع أكثر منها تبلور حلول لأزمات المجتمع، كما أن الذي تولى قيادة الثورة تنظيمات وقيادات لا تختلف جوهريًا عن النظام.

كنا تقريبًا إزاء ثورة بدون تنظيم ثوري ولا فكرة الثورة، لذا سرعان ما أمكن وضع اليد عليها من قبل من كان يملك المال والإعلام.

من الذي خان الثورة الضرورية النقية؟ وكيف تحولت إلى ثورة مضادة يغذيها إعلام مضاد يزعم الثورية بينما الشعب الفطن يرى من راكم الثروات على حساب الثورة بالريال السعودي وبالدولار؟

لا أدري من الذي خان وهل توجد خيانة. المسألة أن الثورة كانت تعبيرًا عن وصول النظام القديم إلى القاع أكثر منها تبلور حلول لأزمات المجتمع، والمشكل أن الذي تولى قيادة الثورة تنظيمات وقيادات لا تختلف جوهريًا عن النظام. كنا تقريبًا إزاء ثورة بدون تنظيم ثوري ولا فكرة الثورة، لذا سرعان ما أمكن وضع اليد عليها من قبل من كان يملك المال والإعلام.

لديك مقولة خالدة وشهيرة يرددها محبوك: “حتى قبل أن تطلق طلقة واحدة، كانت الحوثية أسوأ كارثة فكرية واجتماعية وسياسية عرفتها اليمن منذ نصف قرن.” حتى متى سنظل في رحلة التيه رهنًا لهذا الكابوس الفظيع؟

ليس لدي تقدير زمني، لكن كل يوم تبدو كارثية وضعنا أشد وتبدو الحوثية أشد تخلفًا وإجرامًا ولصوصية، ومن الواضح أنها لا تستطيع أن تبقى إلا بقدر متزايد من الجريمة والعنف وأنها وهي تقوض أعداءها إنما تقوض المجتمع برمته في نفس الوقت.

المعرّصون: هناك من رأى في سلوكهم شطارة وأنه يمكن الاستفادة منها. طبعًا حتى هم في النهاية سيدفعون ثمن أوهامهم.

كيف عرّص على الحزب والشعب المقالح والسامعي وعقلان وحاشد؟ كيف حدث كل ذلك؟

ههههه، يبدو سؤالك وكأنه في جلسة حشوش أكثر منه في موقع ثقافي وفكري. عمومًا، أظن أن المشكلة أكبر منهم. لا أحد منهم يمتلك تأثيرًا كبيرًا لا على الحزب ولا على الناس، بل إن توقع سلوكهم كان ممكنًا. المشكلة أن هناك من رأى في سلوكهم شطارة وأنه يمكن الاستفادة منها. طبعًا حتى هم في النهاية سيدفعون ثمن أوهامهم.

فشلنا جميعًا في رؤية أن تلك القوى السياسية قد ماتت وشبعت موتًا وكنا نميل لرؤيتها من خلال تاريخها القديم الثوري والنضالي لا واقعها. أكثر ما يؤلم أن ما حدث قد حدث بعد ثورة شعبية عريضة.

الإمامة تعني التشرذم والعودة للقرون الغابرة بحسب الدكتور أبو بكر السقاف. لكن كيف صارت صنعاء تحت سلطة ولاية الفقيه الإيراني؟ وهل لهذا الحد كانت القوى السياسية والنخب الثقافية في حالة تيه فلم تشم رائحة الجائحة في الطريق؟ ويُحسب لك تحذيراتك المبكرة بينما هناك من كان يصفك بالمبالغة. كيف تعلق؟

لعل المشكلة أننا فشلنا جميعًا في رؤية أن تلك القوى السياسية قد ماتت وشبعت موتًا وكنا نميل لرؤيتها من خلال تاريخها القديم الثوري والنضالي لا واقعها. أكثر ما يؤلم أن ما حدث قد حدث بعد ثورة شعبية عريضة. لكن أهم درس ربما علينا أن نخرج به أن الحركات الاجتماعية بدون تنظيم وبدون مشروع وخصوصًا بدون تحالفات مع قوى متخلفة ورجعية تحت وهم الحاجة إلى إمكانياتها وقواعدها، فإن الفشل وعودة أسوأ أشباح الماضي سيكون النتيجة الماثلة.