حوار

حوار مع الروائي السعودي الكبير حامد بن عقيل 

حامد بن عقيل

من المؤكد أن هناك فراغاً في ذاكرة كل كاتب ..جزء خيالي ، وجزء مقال ، ” العاشق الرواقي ” ، قصة حب وسياسة وفن ، تعرفنا على عالم الروائي والكاتب ؛ الشاعر والناشر السعودي حامد بن عقيل .

نقاش مستفيض مع المؤلف بمناسبة صدور الكتاب باللغة اليونانية .

رابط اللقاء:

Χαμέντ Μπιν Ακίλ: «Είναι βέβαιο ότι υπάρχει κάποιο κενό στη μνήμη κάθε συγγραφέα»

 

  • ما الذي بقي من ملاحم الإغريق؟ وما الذي بقي من مقامات الأدب العربي العباسي؟ وهكذا
  • أليس من الرائع أن نفكر في الهدم والبناء بشكل مستمر لنعبّر لماضينا عن احترامنا الكبير له!
  • *حين كتبت العاشق الرواقي كنتُ قد أنجزتُ كتابين في النقد التطبيقي السيميائي. لم أفترض، بدايةً، أنني بصدد كتابة رواية، بل سيرة للعازف. ومع إيماني بعدم جدوى كتابة السيرة بالعموم، ومع رغبتي في كتابة جزءاً من سيرة الفنان اليمني طاهر حسين، اتجهتُ إلى الاشتغال على ثلاث قصص رأسية متوازية.
  •  أظن أنني أشعر بما يشعر به كتّاب العالم، نحن ننتمي لجماعة متخيّلة، ليست ذات علاقات وشائجية كالعلاقة العائلية، أو أبناء القبيلة، ولا ذات علاقات قانونية كمواطني الدول.
  •  القضية إنسانية، وليست سعودية فحسب، ففي سفر التكوين تهرب ليليث من الجنة كي لا تخضع لآدم، وهي في الآداب السومرية ليليتوذات الارتباط بالرياح والعواصف والمرض والموت، كما أنها الهاربة من جلجامش حين اقتلع شجرة الصفصاف، وهي شيطانة الليل، وهي الحيّة التي أغوت آدم في الجنّة.
  • العاشق الرواقي كُتبت قبل خمسة عشر عاماً، أي في فترة لم أكن، وربما غيري، نحلم بأن نشاهد تغييرات جوهرية وحقيقية. اليوم هنافي السعودية أمير شاب في ظل والده الملك، استطاع أن يُحدث فرقاً شاهقاً. الرهان على التغيير الاجتماعي.
  • ما ورد في الرواقي يتحدث عن الحالات الإنسانية الخاصة، وحشية الإنسان كفرد، وتواطؤ البعض كأفراد، لكن على الصعيد الإنساني العام لا أحد يقرّ الإبادة الجماعية على كل أرض وتحت أي مبرر، فكما أن أشد أنصار القضية الفلسطينية حماسة لقضيتهم لا يقرون الإبادة الجماعية التي حدثت لليهود في معسكرات النازية، فإنني على ثقة أن هناك من اليهود ومن بقية شعوب العالم من لا يقرّ ما يحدث لأطفال غزة وكافة سكانها من إبادة وحشية على يد الآلية الحربية الإسرائيلية. 
  • توجد الحرية ضمن منظومة أخلاقية كاملة، وتنتهي الحريات عندما تهدد حريات الآخرين. هذا في الفضاء العام، أما في السعودية فإننا كنّا نقف أمام أفق اجتماعي مسدود، أفق تم اختطاف الدين فيه وتوظيفه على غير حقيقة ما جاء به الإسلام، والإسلام دين حرية وحب. تغير الأمر منذ عام 2015م، فنحن الآن جديرون بالحب وبالموسيقى.
  • ربما فقد جيلي بعضاً من حياته، كما حدث في العاشق الرواقي، لكنني أشاهد جيل أبنائي يتنفسون بطريقة مختلفة، أعايش هذا على أرض الواقع، وستشاهدونهم أنتم، في أوربا والعالم، من خلال مسارح وموسيقىوسينما وثقافة وأدب السعوديين والسعوديات والذي يتم إنتاجه الآن بشكل يومي، ليقول للعالم كلمته: نحن جزء بنّاء من هذا العالم، وجزء أساسي من رسالته الإنسانية.

………………………………………………………….

نصّ الحوار:

يانيس كوندوس: الكتابة هوس. “أعني الهوس بالكتابة الذي يفلت من أغلال التصنيف”، يقول الراوي/مؤلف كتاب “العاشق الرواقي” في مكان ما لناشره. ‎

-بما أنك تتعامل مع الكتابة من خلال قدرات مختلفة – روائي، كاتب مقالات، شاعر، ناشر – فهل يعتبر ذلك نوعاً من الهوس بالنسبة لك، أو العري/ التنصل من القالب؟

حامد بن عقيل: الاثنان معاً، وإن كان الناشر أكثر وعياً بهذا المأزق من الكاتب. تصلني في شركة جدار للنشر نصوص غير مصنّفة، أعني أجناسياً، وينبغي أن تصنّف، هذا يحدث منذ ما قبل 2008م، وهي السنة التي صدرت فيها الطبعة الأولى للعاشق الرواقي. قبل ذلك كانت لدي هواجسي ككاتب خصوصاً التجنيس الأدبي للكتابة، أظنه يوقعنا في مأزقين متقاطعين تماماً، الأول سابق على عملية الكتابة حين يصبح موجّهاً للمبدع فيدفعه للكتابة ضمن نسق ما، ما يجعل الكتابة مقولبة ومتوقعة، والثاني ما يلي عملية الكتابة إذ يفرض سلطته على المتلقي، يصبح لدينا فن روائي مقولب، وكذلك شعر مقولب. لكن بالنظر إلى الماضي البعيد يمكن أن نتساءل عن مصير الفنون الكتابية التي تم تصنيفها، ما الذي بقي من ملاحم الإغريق؟ وما الذي بقي من مقامات الأدب العربي العباسي؟ وهكذا. تساؤلاتي هذه تفترض أن الإجابة ستكون واضحة بعد مائة عام من موتي حين تختفي الرواية ويأتي فن سردي جديد. لا بد أن يحدث هذا، لأن من شيم الإبداع الإنساني أنه يحاول تجاوز سابقيه، وحين يصل إلى طريق مسدودة سيفكر في فن كتابي جديد. هذا الاستقراء يحدث أيضاً عندما تنظر للكتابة الروائية قبل ثلاثين أو أربعين سنة، تلك الروايات، خاصةالروايات التي نصفها بأنها الروايات الخالدة، أصبحت اليوم أدباً كلاسيكياً، إذا حاول أي كاتب الآن النسج على منوالها سيكون مضحكاً بالتأكيد. ولعل من الأشياء التي أسعدتني حقاً هو ما كتبه أكاديمي سعودي حول رواية العاشق الرواقي عند صدورها لأول مرّة حين وصفها بأنها بذرة التجديد في الرواية السعودية، كتبتُ بعدها روايتين، وجميعها كانت تحاول تجاوز هوس التصنيف، بوعي الناشر في داخلي، وكذلك بقلق الكاتب. أليس من الرائع أن نفكر في الهدم والبناء بشكل مستمر لنعبّر لماضينا عن احترامنا الكبير له، وخصوصاً للجوانب التي كان يطلق عليها حركة الحداثة في كل زمن. نعم، هنالك هوس لديّ، ولا زلتُ غير متيقن مما سينتهي إليه، اليقين الوحيد هو أن كل ما سيبقى خارج التصنيف هو الكتابة.

الناقد يانيس كوندوس

يانيس كوندوس: بناءً على السؤال السابق، فإن الكتاب المعني لا يمكن تصنيفه: جزء منه خيالي، وجزء سياسي وفلسفي. ما الذي يملي هيكله؟ الحاجة إلى التغلب على الحدود/الأختام السردية؟

حامد بن عقيل: حين كتبت العاشق الرواقي كنتُ قد أنجزتُ كتابين في النقد التطبيقي السيميائي. لم أفترض، بدايةً، أنني بصدد كتابة رواية، بل سيرة للعازف. ومع إيماني بعدم جدوى كتابة السيرة بالعموم، ومع رغبتي في كتابة جزءاً من سيرة الفنان اليمني طاهر حسين، اتجهتُ إلى الاشتغال على ثلاث قصص رأسية متوازية، يمكن أن تُقرأ كل قصة منها منفردة، كما أنها تجتمع حول الكاتب. هناك قصص أفقية تنتظم حول القصص الرئيسة الثلاث، ومن خلالها استخدمتُ فن الكولاج الكتابي بحذر شديد. كل هذا تم بلا تصنيف، لكن من الواضح أنه عمل سردي، وقد احتلتُ في كتب سابقة على النمط الكتابي السردي بإيجاد تصنيف جديد هو “سيرة افتراضية”، وأصدرتُ منه ثلاثة كتب. كان يمكن أن تكون رواية العاشق الرواقي هي الجزء الرابع من تلك السلسلة، لكنها تتميز عن سيرة افتراضية بوجود قصص ثلاث متداخلة، في حين كانت السيرة الافتراضية عبارة عن كتابات تخصني وبعض أصدقائي على الشبكة العنكبوتية، وهي مزيج من السرد والتأملات وربما قصائد النثر الموجزة. المرهق في هذا الموضوع أنني كنتُ ناشر الكتاب، صدرت الطبعة الأولى عن شركة جدار للثقافة والنشر في الإسكندرية، والتي يشاركني فيها الشاعر السويدي خلف علي الخلف. أتذكر أن نقاشاً مطوّلاً دار بيننا حول هذه الجزئية تحديداً، تصنيف الكتاب، ولأنه كتابة تجريبية بعمومها، وذات مضمون سردي، فقد انتصر التصنيف الروائي. في نهاية الأمر انتصر الناشر بكامل هوسه بالتصنيف كأداة تسويق رغموميه بضرورة التغلب على القولبة، بينما بقي للكاتب الذي يستجيب، عادة، للحلول التوافقيه، أن يسجّل ضمن مخطوطته رأيه حول تصنيف الكتابات الأدبية، إنه يرفض ما تواطأ عليه مع الناشر ويعلن ذلك داخل الكتاب فقط.

يانيس كوندوس: “الكتّاب، مع الكلمة الأولى التي يكتبونها، ينتقلون من البعد الحقيقي للحياة إلى فراغ الذاكرة”، يعكسهذا حال الراوي/الكاتب. هل يمكن ان توضح لي؟ 

حامد بن عقيل: أظن أنني أشعر بما يشعر به كتّاب العالم، نحن ننتمي لجماعة متخيّلة، ليست ذات علاقات وشائجية كالعلاقة العائلية، أو أبناء القبيلة، ولا ذات علاقات قانونية كمواطني الدول. جماعتنا المتخيّلة ذات علاقات ظنيّة سائلة لا يمكن تحديدها، لهذا فكرتُ مرّة أن أكتب مسرحية كمسرحية “الضفادع”، وأن أستعيد بعض الكتّاب كما استعاد أريستوفان الشاعرين يوريبيدس وإيسخولوس، ولكن ليس لمحاكمتهم، بل لسؤالهم عن الكتابة، بضعةأسئلة قصيرة من قبيل: لماذا تكتب؟ ما الجدوى؟ ما الذي تتوقعه لكتاباتك بعد موتك؟ ربما أستعيد هنري ميللر ونيرودا وبورخيس وكزنتزاكيس وفوكنر ومورافيا ومن العالم العربي عبدالرحمن منيف، وغيرهم. أريدُ أن أفهم منهم طبيعة وعي الكتّاب ببطء اليوم مقابل سرعة انقضاء السنوات، أن أفهم كيف تتحول الذاكرة إلى شاهد انتخابي حول عوالم حقيقية فانية. ماهية أن تتحول كل لحظة آنية إلى الماضي، أن يتحول الأمس إلى تاريخ، ثم يصبح مادةً للكتابة. من المؤكد أن هناك فراغاً ما في الذاكرة لكل كاتب، وأن ذلك الفراغ هو مادته التي يريد أن يستحضرها، أن يحوّلها من لا شيء إلى دليل على حدوث أمر ما، هو ذاته يتحول إلى لا شيء بمرور الزمن.

الروائي السعودي حامد بن عقيل

يانيس كوندوس: ما الذي يجسده أبطال الكتاب – مريم، المعلم، الملك، عازف العود الذي علم نفسه بنفسه، الناشر – سواء بشكل فردي أو فيما يتعلق بالراوي/المؤلف؟

حامد بن عقيل: في الثلاث صفحات الأخيرة من الرواية هناك حديث عن الرواية بعد صدورها، عن تعليقات القراء حولها، وحول شخوصها. عن الوجود النسبي لكل شخصية في شخصية الكاتب، والذي هو شخصية أساسية في الرواية. لا يمكن تجاوز حقيقة أن التجربة الخاصة بالكاتب تؤثر على تصوراته وشخوصه وأحداثه في أي عمل، حتى ولو كان يعمل على إنجاز ديستوبيا أو حتى رواية خيال علمي. لكن في الرواقي تحديداً أقرّ بأن شخصية العازف هي طاهر حسين، الذي تعرفت عليه عام 2006م أي قبل كتابة الرواية بعامين، واستمرينا أصدقاء حتى وفاته العام الماضي 2023م. بقية الشخصيات، حتى شخصية المعلّم، لا بد أن لديهم شيئاً منّي، على الأقل بعض الأفكار والمخاوف والحنين، ربما.

يانيس كوندوس: “مثل امرأة نموذجية أخرى أفلتت من أغلال القهر، ودفعت الثمن الباهظ للتيه الأبدي،”مريم امرأة تنبض بالرغبة الجنسية وضحية للنظام الأبوي. ما مدى تمثيلها لجيل الشباب من النساء السعوديات؟

حامد بن عقيل: ليليث أو ليليت أو ليليتو، هي مريم. أو حتى أكون دقيقاً هنّ مريم، ومريم في المسيحية هي السيدة العذراء، وفي رواية الرواقي العاشق هي ذات اسم ثنائي إذ إنها هنادي أيضاً. أعتقد أنها أكثر الشخصيات التي فكرتُ فيها أثناء كتابة الرواية، الأمر متعلق بليليث سفر التكوين، المرأة المعضلة المتداخلة في الفكر اليهودي القديم، وفي طبعة الملك جميس للكتاب المقدّس، ولدى السومريين، وربما ليلى لدى العرب في نصوصهم الشعرية الأولى. القضية إنسانية، وليست سعودية فحسب، ففي سفر التكوين تهرب ليليث من الجنة كي لا تخضع لآدم، وهي في الآداب السومرية ليليتوذات الارتباط بالرياح والعواصف والمرض والموت، كما أنها الهاربة من جلجامش حين اقتلع شجرة الصفصاف، وهي شيطانة الليل، وهي الحيّة التي أغوت آدم في الجنّة. ليس للأمر علاقة مباشرة بالرغبة الجنسية المتوهجة فحسب، لأنها ترد في الرواية لتصوير الدوافع الأساسية في التكوين الأنثوي، فهمنا نحن لها، وفهمها هي لذاتها، وتناقضها المستمر، وما تواجهه من قمع ومصادرة لا تتوقف. مريم كائن جديد بثمانية عشر ربيعاً، إنها مشرقة ومتوهجة وربيعية واعدة ومتمردة ومتخلية عن تجربتها الإنسانية المتراكمة لترتكب التجربة كل يوم، ولتتمرد كل يوم، ولتجعل من حياتنا حكاية ممتدة تستحق أن تُعاش. والنساء في السعودية جزء من هذا العالم، ولديهن العمق الإنساني ذاته، الرغبات والحب والمخاوف والتضحيات وحتى الإدانة والقمع والحلم بالحرية المطلقة لهن وللمرأة في كل مجتمع إنساني.

يانيس كوندوس: “كم أنا آسف لأولئك الذين يقمعون رغباتهم، والذين يعيشون في وهم ما يسمى التفوق والنقاء الوهمي، ويبقون أسرى كل ما يقوض […] فرحتهم”، يقول المعلم موضحًا. ما مدى قوة “رياح” التجديد التي تهب – اجتماعيا وسياسيا وثقافيا – في المملكة العربية السعودية، الدولة المحافظة؟ وما مدى احتمال حدوث تغيير اجتماعي وسياسي في رأيك؟ ‎ 

حامد بن عقيل: العاشق الرواقي كُتبت قبل خمسة عشر عاماً، أي في فترة لم أكن، وربما غيري، نحلم بأن نشاهد تغييرات جوهرية وحقيقية. اليوم هنافي السعودية أمير شاب في ظل والده الملك، استطاع أن يُحدث فرقاً شاهقاً. الرهان على التغيير الاجتماعي رهان لا يمكن أن ينجح في بلادي، ففي زمن الملك السابق، أتذكر أنه قال لمذيعة إحدى القنوات التلفزيونية الغربية: “لدينا في السعودية نساء يقدن سياراتهن لأنهن بحاجة لذلك” كان ذلك في زمن يطالب الجميع، باستثناء المؤسسة الدينية، بقيادة المرأة للسيارة. لم ينجح أي أحد في التقاط ذلك التصريح من الملك الراحل، وبقي الوضع كما هو، لأن المجتمع يرزح تحت وطأة أربعة عقود من الصحوة التي شوّهت كل شيء باسم الدّين، وألغتْ التعدد، وأدانت الحريّات. لكن مع مجيء الملك الحالي وولي عهده تغير الكثير، بقرار سياسي جريء ورؤية طموحة، أصبحنا نسير ضمن الحضارة الإنسانية بكامل رغبتنا في تمثيل وطننا وتصديره كجزء من النمو والازدهار الإنساني لا بوصفنامنقطعين عن الوجود الإنساني وإرث البشرية الحضاري. دائماً ما يستجيب الناس للقرارات السياسية الشجاعة، خصوصاً تلك التي لا تتعرض لثوابتهم بسوء، لكنها تخلّصهم من كثير من الأوهام والزوائد التي طرأت في ظل مؤسسة دينية متشددة. هذا ما يحدث اليوم في السعودية، فقد قاد الملكالحالي وولي عهده التغيير، وكانت استجابة الشعب مدهشة وتعد بمستقبل مشرق.

يانيس كوندوس: “إن شغف الرجل، وإخلاصه لفكرة، لغرض ما، يكفي لممارسة مثل هذه القوة التعويضية عليه”، يقومالراوي بالاستماع إلى الموسيقي. ما الذي أنت متحمس له شخصيًا، وما الذي تكرسه له؟

حامد بن عقيل: أن نعود إلى مجتمع ما قبل 1979م من القبول والتعددية الاجتماعية والتسامح، قبل ذلك العام كانت لدينا سينما وحفلات موسيقية، ثم تغير كل شيء. كما قلت لك في إجابة السؤال السابق، هذه الرواية كُتبت قبل خمسة عشر عاماً، أي قبل سبع سنوات من تولي الملك سلمان الحكم في السعودية ومجيء ولي عهد ابنه محمد، في ظل هذا الحكم نحن الآن على الطريق الصحيحة. قبل ذلك لم تكن الأمور كما نريد، كانت الموسيقى مدانة. بالنسبة لي كنتُ، ولا زلت، كأفلاطون غالباً ما تكون أحلام يقظتي موسيقى.

يانيس كوندوس: “صناعة النشر، وخاصة في فضائنا العربي، يجب أن أعترف بأنها مريرة للغاية”، يعترف في مكان آخر. ومما تتكون مرارته؟

حامد بن عقيل: تنبع مرارته من أشياء كثيرة، خصوصاً حين قررنا في شركة جدار للنشر اعتماد معايير عالمية في التحرير الكتابي للنصوص، في الوكالات الأدبية، وفي تسويق النشر الإلكتروني. كثير من كتّاب الوطن العربي، ومن مشاهير الكتابة فيه، لا يؤمنون بما يحدث حول صناعة النشر من تطورات، ينظرون إلى نصوصهم على أنها كتابات مقدّسة لا يمكن المساس بها، وأن الكتاب الورقي سيستمر إلى الأبد، كذلك القراء، لديهم ذات القناعات. وكأن اختفاء الصحف الورقية لم يكن درساً لوجوب التحول إلى أفق جديد. أيضاً، لم يصبح النشر في العالم العربي صناعة لعدة اعتبارات، أهمها وجود الرقابة في كافة الدول العربية، وكذلك العلاقة الضبابية السائدة بين المؤلف وبين الناشر.

يانيس كوندوس: يعترف ساخرًا: “لم أكن أحمل نقاد الأدب أو كتاب التقارير الأدبية على وجه الخصوص”. ما هي علاقتك بالنقد الأدبي السعودي – والعربي عموماً -؟وبالتالي مع قرائكم، داخل الوطن العربي وخارجه؟

حامد بن عقيل: النقد الأدبي هو متاهتي الهرمسية، كما يقول أمبرتو إيكو عند وصفه للأثر المفتوح. وهو عملي الخاص الذي أعبّر من خلاله عن امتناني للكتّاب في بلادي وفي الوطن العربي علىكتاباتهم الإبداعية المميزة. لقد كنتُ أنتمي إلى جيل تم إهماله نقدياً من الجيل الذي سبقنا، في ضوء ذلك بدا لي أن جيلي ومن سيليهم، إذا أرادوا الاهتمام النقدي فلن يجدوه إلا من مجايليهم، لهذا كانت تجاربي النقدية الأولى بدءاً من نهاية عام 2001وحتى 2003، عبارة عن مقالات نقدية ومقاربات نشرتها عبر المنتديات الإلكترونية التي كانت رائجة في ذلك الوقت، ثم جاء كتابي الأول فقه الفوضى، ومنه استمر مشروعي النقدي. أيضاً، لعل من أسباب توجهي للنقد هو إيماني بأن النقد العربي في غالبيته يمارس ترجمة النظريات على حساب التطبيقات النقدية، لهذا جرّبت التوجه للتطبيق النقدي على نماذج يمكن أن تطور آليات القراءة والكتابة لدى الكتاب والمتلقين العرب. لدي حتى الآن خمسة كتب نقدية، وجميعها تطبيقات سيميائية وتوظيف لنظريات التلقي في دراسة نصوص مختارة لكتاب سعوديين أو لكتّاب من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أو من الوطن العربي.

يانيس كوندوس: “العالم العربي”، ضحية الاستشراق المانوي، وهو – في”الغرب” – مفهوم “ضبابي”: أحيانًا يكون أسطوريًا، وأحيانًا يُساء فهمه، وأحيانًا يتم التقليل من شأنه عمدًا.

هل تعمل كتب مثل كتابك – وخاصةصدوره في أوروبا – على سد الفجوات الإدراكية والثقافية، وفتح “مسارات” للتواصل؟

حامد بن عقيل: العرض الأول لترجمة الرواقي جاءني في عام 2009م، وكان عرضاً لترجمة الرواية للغة الفرنسية، لكن حدث خلاف بين المترجمة والناشر المقترح حول طريقة تمويل المشروع فتوقف. بالنسبة لي لم أكن متحمساً في ذلك الوقت لترجمة الرواية لسببين؛ الأول له علاقة بالمترجمة وسيرتها الذاتية، وبطريقة تمويل المشروع التي يتوجب ألا أكون طرفاً فيها، والسبب الثاني مخاوف متعلقة بالتلقي، تلقي القراء، وكذلك النقاد لرواية سعودية وبالتالي من الشرق الأسطوري، أو الخاضع للصورة النمطية القصدية التي تقدمه على خلاف ما هو عليه. في المرة الثانية حين جاءني العرض بترجمة الرواية لليونانية كنتُ أتساءل عن مدى معرفتي بالوسط الثقافي اليوناني، وبالتالي حجم توقعاتي للتلقي اليوناني لنص من الشرق الأوسط، لم تكن الرواية هي الأولى من الشرق لكنها الأولى من السعودية التي تمت ترجمتها لليونانية، ربما كانت أسئلتي تصبّ في ماهية العلاقة بين معرفة الكاتب بأدب البلاد التي سيترجم نصه إليها، وبين توقعاته حول التلقي في تلك البلاد، فعلي الرغم من قراءاتي العديدة للآداب الإغريقية والفلسفة اليونانية القديمة، ومعرفتي في العصر الحديث بكتابات كازنتزاكيسوكفافيس وريتسوس وغيرهم، أو حتى في الوقت الراهن لكوستاس فيريس في كوبري الليمون، والذي حررته مترجمة الرواقي بيرسا كومتسي، وهو العمل الذي ربما تقوم جدار بنقله أعماله إلى العربية، كل هذه المعرفة، هل تساعدني على التوقع حيال التلقي لروايتي في وسط أوربي خاضع لإرث كبير من كتابات المستشرقين، وعلى الصعيد العام لذهنية سينمائية اختزالية بدرجة كبيرة لسوء فهم متعمّد أو بعد أسطوري ينطلق من ترجمات ألف ليلة وليلة ولا يتوقف عند ذلك الحد. لعلي، بعد صدور الرواية، أترقب ما يحدث. لا بد من البدء بفعل شيء ما لمعرفة ما سيفضي إليه. سأعتبر أن الخطوة الأولى كانت عبارة عن فتح مسار للتواصل، كما تشير في سؤالك.

يانيس كوندوس: “الناس يفضلون غض الطرف، وغض الطرف عن الوحشية والتعذيب، حتى لو كان ذلك يتعلق بأشخاص آخرين. […] إنهم يفضلون تجنب النظر”، يعلق الراوي/المؤلف 

فهل اللامبالاة تجاه الإبادة الجماعية المستمرة للشعب الفلسطيني في غزة ترجع إلى العمى المتعمد للكثيرين – في الغرب بشكل رئيسي، ولكن أيضاً في العالم العربي؟ كيف موقفكم الأخلاقي تجاه هذه القضية بالذات؟

حامد بن عقيل: لا مبالاة من بالتحديد؟ وردتني أسئلتك بعد إشاعة حول موت نعوم تشومسكي بثلاثة أيام فقط، إنها مفارقة غريبة، هل يرغب الجمهور اليوناني أن يسمع منّي مقدار أسفي عند سماعي عن خبر رحيله الذي لم يثبت لاحقاً، وهو اليهودي الذي كان صهيونياً في يوم ما. في هذا الشأن لا بد من عزل الإعلام المنخرط في تزييف وإنكار فعل المجزرة وكذلك من يقترفونها عن بقية الجماهير في الشرق الأوسط وفي العالم بعمومه. ما ورد في الرواقي يتحدث عن الحالات الإنسانية الخاصة، وحشية الإنسان كفرد، وتواطؤ البعض كأفراد، لكن على الصعيد الإنساني العام لا أحد يقرّ الإبادة الجماعية على كل أرض وتحت أي مبرر، فكما أن أشد أنصار القضية الفلسطينية حماسة لقضيتهم لا يقرون الإبادة الجماعية التي حدثت لليهود في معسكرات النازية، فإنني على ثقة أن هناك من اليهود ومن بقية شعوب العالم من لا يقرّ ما يحدث لأطفال غزة وكافة سكانها من إبادة وحشية على يد الآلية الحربية الإسرائيلية. الموقف الأخلاقي في موضوع كهذا لا يمكن تجزئته، ولا يمكن نقاشه، أرفض، كأي إنسان سوي على هذا الكوكب، أي شكل من أشكال التطرف والإبادة الجماعية والقتل ونهب الثروات ومصادرة الحريات وكل ما من شأنه أن ينتقص من حق شعب أو أقليّة في الوجود الكريم والحياة التطور والازدهار.

يانيس كوندوس: يختتم الراوي/المؤلف: “لا يمكن لأحد أن يحب إلا إذا شعر بالحرية أولاً”. ما مدى إمكانية تحقيق الحرية الشخصية – وقبل كل شيء الجماعية – والتمتع بها في عالم غير حر؟

حامد بن عقيل: توجد الحرية ضمن منظومة أخلاقية كاملة، وتنتهي الحريات عندما تهدد حريات الآخرين. هذا في الفضاء العام، أما في السعودية فإننا كنّا نقف أمام أفق اجتماعي مسدود، أفق تم اختطاف الدين فيه وتوظيفه على غير حقيقة ما جاء به الإسلام، والإسلام دين حرية وحب. تغير الأمر منذ عام 2015م، فنحن الآن جديرون بالحب وبالموسيقى، قادرون على ممارسة الحياة بشكل طبيعي بعد أن عادت الأمور إلى نصابها، وتم تفكيك الذهنية الاجتماعية من خلال إعادة إنتاج الخطاب الديني في ضوء رؤية سياسية موفّقة. ربما فقد جيلي بعضاً من حياته، كما حدث في العاشق الرواقي، لكنني أشاهد جيل أبنائي يتنفسون بطريقة مختلفة، أعايش هذا على أرض الواقع، وستشاهدونهم أنتم، في أوربا والعالم، من خلال مسارح وموسيقىوسينما وثقافة وأدب السعوديين والسعوديات والذي يتم إنتاجه الآن بشكل يومي، ليقول للعالم كلمته: نحن جزء بنّاء من هذا العالم، وجزء أساسي من رسالته الإنسانية، وعمق حضاري يستطيع أن يعبّر عن مخزونه التعددي على كافة الأصعدة بلا خوف.

——–

  • خالص شكري لبيرسا كوموتسي على لطفها واهتمامها بترجمة أسئلتي إلى العربية وإجابات المؤلف إلى اليونانية .
  • كما أشكر ماريا زامبارا ( منشورات الإسكندرية ) على توفيرصورة المؤلف المصاحبة للنص .
  • صدر كتاب حامد بن عقيل ” العاشق الرواقي ” باللغة اليونانية عن دار الإسكندرية للنشر , ترجمة بيرسا كوموتسي .

 

..