فتحي أبو النصر : سنواصل الحلم حتى آخر القيامة
– حاوره محمد الشلفي
نوستالجيا-كان الحوار قبل ١٤ عاما
فتحي أبو النصر
– الشعر هو العطر الذي يكلل الجثة
-الطريق الوحيد في الشعر هي التوحد في أبعاد الذات وأقاصيها.
– الملمح الأبرز في تاريخ أحمد عبد المعطي حجازي هو أن يكون جنرالا ثقافيا..هل سمعت بشاعر يترأس لجنة لمنح جائزة شعرية، فيقرر أن يمنحها لنفسه غير هذا الحجازي العجيب!
-قصيدة النثر تلعن الأبوة كما البنوة
-مستقبلية قصيدة النثر هي ما جعلها أعلى من سلطة التابوهات، وأعمق بكثير من سلطة الحشد الجماهيري، مثلما سلطة النقد الرتيب الذي بلا امتياز.
-القهر هو الذي يفرض شروطه علينا جميعا كما تعرف، وهذه الانهيارات هي دأب الخيبة الحلمية في بلد كاليمن تتوسع فيه جراحات المبدعين بلا تضميد يذكر ليبقى التفهة أصحاب حظوة والكائنات الضارية ذات نعيم.
– البردوني هو”الواحد الذي لا يتكرر” كشاعر وكمثقف، وهو قانون أخلاقي في الثقافة اليمنية المعاصرة، سيبقى في رؤوس محبيه كقيمة دائماً، كما ستظل قيمته تنمو وتتطور على مدار الحلم في اليمن.
-بدأنا من اللاشيء، في انزياحات ،وما زلنا نذرع جمالية هذا اللاشيء ربما. التقدير الوحيد الذي لاقته “انزياحات” جاء من صنف الحالمين الأصدقاء هنا وهناك، كما وصلتنا تشجيعات نعتز بها جدا من قراء لا نعرفهم. ذلك كله لا يكفي بالتأكيد، أعرف، خصوصا في ظل المعوقات المادية الرهيبة، لكنا لن نتنازل عن حقنا في مناصرة إنسانيتنا على الأقل. وما نريده أولا وأخيرا هو إدانة الأوصياء.. إدانة الرداءة والاستخفاف، مراهنين على العقل وعلى الجديد المتنوع، كما على تطورات المفاهيم الجديدة للفن والأدب والفكر، ضداً من التجريف الروحي والإبداعي.
* لو كنت وزيراً للثقافة ستكون أولويتي إعادة السياق المفقود للحلم بإبداع غير مستلب عبر مصالحة هذا الإبداع بحلم الكرامة للمبدعين أولا من خلال إعطائهم منح تفرغ إبداعية ممولة من قبل الدولة كي يتخففوا من قهر الحاجة وضغط هذا الزمن البشع جدا، إذ من غير اللائق مثلا أن ما يتمتع به شيخ واحد للأسف يفتقده عشرات من الأدباء والفنانين والمثقفين.
*قوة التأثير الثقافية في اليمن هي للأفراد بالطبع، وليس للمؤسسة الضحلة المثقلة بأوزارها.
* يعتريني العواء ، يعتريني ذئب الأحلام المرجأة.
***
كأفضل من يتعامل مع “نسيانات أقل قسوة”، و”موسيقى تطعن من الخلف”؛ يخرج الشاعر فتحي أبو النصر حاملا بهاء الشعر. وحين يقول عنه “أيها الـ… اللعنة ثم اللعنة عليك، ما أرعبك وما أشهاك!”، نعرف قدسية البهاء الذي يعتقده عنه “ما أقدسه حيث يؤجج الكائنات بالثبات على التجاوز”.
لكنه في الحوار التالي يشبّه الشعر بالعطر الذي يكلل الجثة.
وفي الحوار أيضا استمرار لما تدأب له “النداء” من فتح لذاكرة الصمت إلى أبعد مدى، يجيب الشاعر على سبب انطواء المبدعين في اليمن وانكفائهم على ذواتهم، ويسخر من وضع ثقافي عام لا تتسع له ذاكرته السيئة! كما يتحدث عن مجلة “انزياحات” الثقافية التي تبنى إصدارها بمجهود فردي منذ 4 أعداد لا أكثر.
ولد فتحي أبو النصر عام 1976، له مجموعتان شعريتان “نسيانات أقل قسوة” ٢٠٠٤و”موسيقى طعنتني من الخلف”٢٠٠٨.
*قلت ذات مرة إن ما يدفع لنشر ديوان شعري/ كتاب هو الإحساس أن ورَماً ما يجب التخلص منه، كيف يمكن للشعر أن يعذب صاحبه؟
– مع ذلك ليس لنا أن نتأفف من بعض. كلانا نحتاج إلى آفاق جديدة عند اعتقادنا بلوغ ذروة الأقاصي أو حتى لحظة السكون صفر.. وأما الشعر فإنه أشبه بالعطر الذي يكلل الجثة، الجثة التي تدأب على الشعر رغم الارتطامات الحلمية القاسية، ومع ذلك تزعم قدرتها الوهمية على التحرر من عبئه الإضافي الدؤوب، ذلك العبء الخرافي الرائع رغم مجاله الحيوي الموحش في الاغتراب عموماً.. على أن اندفاعات النشر التي قصدتها لبتر ما يشبه الورم الروحي، تأتي كمحاولات ضرورية للتخلص من ثقل رهق منطقة الرمادي وفظيع التباساتها، أو لتسمها فقدانات سامية من أجل التجاوز، أو كمحاولات مذعورة ولائقة للتطهر، أو كقطع لوصل، أو كحيرة العارف، أو حتى محض تسريبات يائسة لوجع ذلك العبء الجمالي الحميم الذي ينهشنا بدون رفق أو شفقة
.
* بين مجموعتك الأولى “نسيانات أقل قسوة” والثانية “موسيقى طعنتني من الخلف”، هل تغيرت وظيفة الشعر والطريق التي تؤدي بك إليه؟
– الطريق هي الطريق، هي التوحد في أبعاد الذات وأقاصيها، وهي اللهفة التي تنزع وحسب قصد التوجه إلى مرامي التكوين والمعنى، أو إلى صيرورة ذلك الحنين حيث التذهين الفني للماحول والذات، لكن التوغل في غيبوبتها أو مفاجآتها محفوف بالتيقظ الحاد والمغامرة المستمرة، إذ مع كل خطوة تتبلور مستجدات حياتية وجمالية بالطبع. والأهم أن هذه الطريق لا تقيم في صندوق مربع التصورات، وإنما بفسحة حثيثة وحيوية. إنها طريق تتفرع من طريق لتقود إلى طريق وهكذا. إنها طريق مربكة يا صديقي، طريق خلاص يشرد عابريه كثيراً، طريق لتصنيف المنفلت، طريق اللوعة، لوعة الهيام الشقي أقصد، فيما يبدو الهائم هنا مثل منتبه متوتر في السهو واللهاث إنسانيا وفنيا.
أما وظيفة الشعر، فما من وظيفة منمطة له.. أعني أنني أفهم وظيفة الشعر في ما لا يتوقعه الشعر نفسه. ليست نسيانا ولا ذاكرة، ليست رحيلا ولا مجيئا، ليست عطشا أو ارتواء فقط، لكن ربما هي مزيج ملغز وبهيج من ذلك كله. أو حتى خارج نطاق الأضداد برمتها!
لذلك أقول إن كان للشعر وظيفة باعتقادي فهي أن يكون بخصوصية متواشجة مع خصوصيته فقط، وداخل كل تجربة على حدة، أن تكون وظيفته عدم انغلاقه على وظيفة محددة سلفاً، أن تكون مفعمة بالحرية ومرهونة بعدم الانخضاع للراهني من الناحيتين المعرفية والذوقية.
فوق ما سبق، يتحقق الشعر بجموحه الحر في المعلوم واللامعلوم، وهو احتشادنا بالمعنى واللامعنى كذلك، كما أن كل قصيدة هي تاريخ جديد للشعر، وعبره نعاند المآزق، ويبوح لنا الصمت أيضا، ليبدو الغموض في وظيفته كامنا في معنى أن تتجلى هذه الوظيفة أكثر في محنة غيابها وحضورها في آن.
إنها السلاسة الصعبة بالتأكيد، بتأملاتها المتماسكة في واقع اللاانضباط هذا، مع كل الأحاسيس المتشظية داخل الرؤى والوعي، ولأجل المعرفي أولاً وأخيراً.
ما زالت قصيدة النثر تثير جدلا واسعا في الأوساط الأدبية العربية بشكل عام، سماها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي “القصيدة الخرساء” معنونا به كتابه الصادر منذ أشهر، وينشغل كتاب القصيدة بالهجوم والدفاع، عن الكتابة والإبداع، هل استدرجوا إلى ورطة إثبات الشرعية؟
– حجازي، من ذلك النوع اللزج المستخف، اندفع في حداثته المزعومة إلى أحضان السلطة بشكل مقزز، ولم يكن أمينا لبداياته كمجايليه صلاح عبدالصبور وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر مثلا.. الملمح الأبرز في تاريخه هو أن يكون جنرالا ثقافيا فقط. حقق ذلك بجدارة بالغة للأسف، إذ استغل منصبه كرئيس للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، كي يمارس ساديته على قصيدة النثر وشعرائها، مسترسلا في تجريحهم وتحجيمهم.. ببساطة أكثر إنه اعتيادي جدا ولم يقدم أي اختراق ملفت على الصعيد الفني، كما أنه أشد ضآلة من أن يستحق الرد عليه أو الانشغال بترهاته، لأنه زاخر بالسطحي والضجيج، وليس في منجزه أية استثنائية سوى أنه آل كقوالب الأسمنت لا سحر فيه. الحاصل أنه استمر منذ عقود قاحلا تماما عن الإبداع، فيما صرامته الستينية لا تستحق أن تقابل سوى بالاستخفاف فقط، وحتى على الصعيد الأخلاقي: هل سمعت بشاعر يترأس لجنة لمنح جائزة شعرية، فيقرر أن يمنحها لنفسه غير هذا الحجازي العجيب!
إن قصيدة النثر تلعن الأبوة كما البنوة، وقد انتزعت بجمالياتها اللامحدودة جسارة الوجود بتفوق، في حين أن ما تحتاجه وما تولده في آن هو تلك الحساسية الشعرية الفائقة، ذات القيمة الشعرية التي يصعب على الضحالة اختراقها. كما أن انحيازها لعنادها هو الذي يجعلها ثرية، ما مكنها كثيرا من تجاوز هواجس إثبات الشرعية التي تشير إليها في سؤالك، حتى إن شعراء قصيدة النثر هم من مضوا بالشعر العربي المعاصر إلى آفاق غير هشة من التجريب، ولا تستنفد بسهولة كقصيدة التفعيلة التي جاء منها حجازي (وأشير هنا إلى أنه قد جاء من أسوأ نماذجها تحديداً –أي تلك النماذج التي تلاشت سريعا).
صحيح أن لا طمأنينة في الأدب، لكن قصيدة النثر لا تمضي إلى غير رجعة، لأنها ضد الثبات ومع التحولات، وهي لا تتقوقع ذهنياً، لأنها مع الجوهري المعقد، لذلك فإنها من قادتنا إلى حيث النص المفتوح مثلا، النص غير المسترخي والقادم من قلب القطيعة والتطور. ولأن قصيدة النثر قائمة على نوازع اللافقهي في الشعر، فإن هذا ما يستفز حجازي وأمثاله من الذين لا يستطيعون استيعابها في اللاتبعية ومتواليات تمردها غير العقيم وهي تقوم على تثوير المخيلة وجرأة الجمال وتحرير الحس الخ، إذ إن مستقبلية قصيدة النثر هي ما جعلها أعلى من سلطة التابوهات، وأعمق بكثير من سلطة الحشد الجماهيري، مثلما سلطة النقد الرتيب الذي بلا امتياز
.
> لو تحدثنا عن الساحة الشعرية اليمنية اليوم، ثمة مبدعون لا نختلف في ذلك، لكن يبدو أنهم فقدوا القدرة على الاستمرار، والمقاومة، وأصبحوا انطوائيين يحرصون على البقاء في الداخل ينتظرون فيما هم المُنتظرون. لماذا برأيك؟ هل على المبدع أن يكون كذلك؟
– هنالك من هو في الوحشة بالطبع، حيث داهمته فجيعة الفقدانات والخذلانات، ولم يقوَ.. هذا انطواء نبيل لاشك من أرواح شفيفة. وهنالك مبدعون يعيدون اكتشاف ذواتهم ربما، لكن حضورهم المعنوي بيننا غير قابل للخفوت.. في السياق هنالك من أخذتهم الحافة المادية والنفسية ليصبحوا على وشك هاوية الجنون أو الانتحار، فهل نرمي باللوم عليهم؟ لا أظن. إن القهر هو الذي يفرض شروطه علينا جميعا كما تعرف، وهذه الانهيارات هي دأب الخيبة الحلمية في بلد كاليمن تتوسع فيه جراحات المبدعين بلا تضميد يذكر ليبقى التفهة أصحاب حظوة والكائنات الضارية ذات نعيم.
أعرف عموما من كان محاربا وحالما باسلا من أجل رؤى ثقافية جليلة لا تشعرك بالغثيان، لكنه ما زال يكتب في عزلته ويتابع الجديد، ويتفاعل من موقعه الذي اختاره للحفاظ على الذات ناصعة بغير تشوه، أو لنقل بأقل الخسائر الروحية والنفسية.. موقعه كأعزل ونزيه وبقدرات لم تستسلم للخرابات والاستلابات. مثل هؤلاء هم أكثر حساسية ورفضاً لما يجرح الذات الإبداعية ويودي بكرامتها، كما أنهم يجيدون قرع الأجراس الحلمية ولو من بعيد، وهم أيضا أشد مواءمة مع لحظة الصفو المؤثرة.. ثم من يستطيع أن يتعالى على هذه العزلة بشكل نهائي يا صديقي؟ كلنا آيلون إليها كملاذ لابد منه للبال القلق في ظل انتشار التشيؤات، صدقني، ونحن بدون احترامنا لها كما لو أننا بجدوى جمالية رخيصة غير ثمينة الجوهر، فالعزلة توحد، وهي كميلاد آخر، كما أنها بهذا المعنى، تظل ككينونة منبعثة، وعبق جرح، ولعنة للتطهر، واقتحام مختلف وعميق!
> تبنيت مؤخرا إصدار مجلة ثقافية “انزياحات”، وأنت تعرف جيدا معاناة الثقافة في اليمن. ما الذي يريد رئيس تحرير “انزياحات” قوله/ فعله؟ وما الذي تتوقع أن تكون عليه “أنزياحات” بعد سنوات من الآن؟ وماذا أيضا عن الصعوبات التي تواجهك في إصدار هذه المجلة؟ أقصد ما الدعم الذي تحظى به معنويا أو ماديا؟
– بدأنا من اللاشيء، وما زلنا نذرع جمالية هذا اللاشيء ربما. التقدير الوحيد الذي لاقته “انزياحات” جاء من صنف الحالمين الأصدقاء هنا وهناك، كما وصلتنا تشجيعات نعتز بها جدا من قراء لا نعرفهم. ذلك كله لا يكفي بالتأكيد، أعرف، خصوصا في ظل المعوقات المادية الرهيبة، لكنا لن نتنازل عن حقنا في مناصرة إنسانيتنا على الأقل. وما نريده أولا وأخيرا هو إدانة الأوصياء.. إدانة الرداءة والاستخفاف، مراهنين على العقل وعلى الجديد المتنوع، كما على تطورات المفاهيم الجديدة للفن والأدب والفكر، ضداً من التجريف الروحي والإبداعي. لذلك سنواصل الحلم حتى آخر القيامة، سنواصل الحلم ونعري هذا الواقع الملعون الأشد من مؤسف، حيث ضحالة كثير مؤسسات تمجد ركاكتها، وطغيان الكيفية الجوفاء في عديد مطبوعات ثقافية لا تمت للأدب والفكر والفن بأية صلة محترمة، أو حتى تنتمي ولو قليلا للشغف النزيه
.
> لو كنت وزيرا للثقافة، ماذا ستكون أولويتك؟
– سؤالك عجيب يا صديقي، ولكني سأجيب: إعادة السياق المفقود للحلم بإبداع غير مستلب عبر مصالحة هذا الإبداع بحلم الكرامة للمبدعين أولا من خلال إعطائهم منح تفرغ إبداعية ممولة من قبل الدولة كي يتخففوا من قهر الحاجة وضغط هذا الزمن البشع جدا، إذ من غير اللائق مثلا أن ما يتمتع به شيخ واحد للأسف يفتقده عشرات من الأدباء والفنانين والمثقفين
.
> ما الحدث الثقافي المهم الذي مر هذا العام وتعتبره في مقدمة الأحداث الثقافية، وتعتقد أن علينا الاهتمام به أكثر؟
– أرجو أن تعذرني على ذاكرتي السيئة للناحية الرسمية يا صديقي. أما الفردية فهناك مثلاً افتتاح آمنة النصيري لمرسم “كون”، واستمرار صدور مجلة “صيف”، وعدم انغلاق موقع “عناوين ثقافية”، وأيضا مقاومة أروى عبده عثمان بشأن بقاء بيت الموروث الشعبي لا اندثاره.
ولأن قوة التأثير الثقافية في اليمن هي للأفراد بالطبع، وليس للمؤسسة الضحلة المثقلة بأوزارها، فيكفيني ابتهاجا على سبيل المثال أن أحمد قاسم دماج وأبو بكر السقاف وعبدالباري طاهر ومحمد المساح ونبيلة الزبير وحبيب سروري وأحمد زين وريما قاسم وعبدالوهاب المقالح لا يزالون بيننا..
كما يكفيني ابتهاجا كمثال أيضا أن علي المقري، ووجدي الأهدل، وجمال حسن، ومحمد ناجي أحمد، وعلوي السقاف، وهند هيثم، ومحمد عبدالوهاب الشيباني، ومحمد المنصور، وطه الجند، وسمير عبدالفتاح، ونبيل سبيع، ومبارك سالمين، ومحمد عبدالوكيل جازم، ومحيي الدين جرمة، ومحمد سعيد سيف، ومحمد أحمد عثمان، وماجد المذحجي، وأحمد الزراعي، وبشرى المقطري، وجميل منصور حاجب، وعمرو الإرياني، ما يزالون يكتبون وقلوبهم ملطخة بالجمال والإبداع، في حين تأتي نصوصهم في مقدمة الأحداث الثقافية، بالرغم من كل المتاعب الحلمية واتساع طاقات الوجع والفقد واللاجدوى.
في الذكرى الـ11 لرحيل البردوني (أغسطس الماضي) كيف تقرأ أداءنا تجاهه سواء الرسمي أو كأداءات فردية؟
– إنه “الواحد الذي لا يتكرر” كشاعر وكمثقف، وهو قانون أخلاقي في الثقافة اليمنية المعاصرة، سيبقى في رؤوس محبيه كقيمة دائماً، كما ستظل قيمته تنمو وتتطور على مدار الحلم في اليمن.
البردوني الذي عشق اليمن بنهم، وظل مهجوسا بالديمقراطية والعدالة والتحرر والتقدم، فرض رمزيته الثقافية والإنسانية متشبثا بضميره البديع الآسر، كما كان ضد الانحرافات الوطنية مستنبطاً الدلالات المستقبلية لأخطارها بإحكام. وبالتأكيد سيظل مهيجاً وأثيرا لأنه لم يمت، بل نبش موتنا الجمعي ونفخ فيه الصحو، ثم نجا بحياته المضاعفة بعد أن حاول بلا فائدة إيقاظنا لأننا قد فضلنا الغيبوبة على ما يبدو.
طبعاً جميعنا للأسف -وعلى رأسنا اتحاد الأدباء والكتاب- لم نحسن موقفا حقيقيا من أجل رد الاعتبار لواحد من أعظم شعراء العربية طوال تاريخها، وإجبار النظام على عدم استمرار ممارساته السيئة ضد إرثه الثقافي.. فالنظام ظل يكره البردوني بالطبع، لأنه طالما خلخل مزاعمه وفضحها، مقيماً في حدقات الجياع وحارساً لأحلامهم، وحتى الآن ما زالت دواوينه وكتبه الأخيرة التي كان أنجزها قبل رحيله، مغيبة بحقد، إضافة إلى مذكراته وروايته اللتين لم تخرجا للضوء أيضا. على أن هناك تخوفاً منتشراً من أن يتم تحريف كتبه ومؤلفاته بهدف تشويه مواقفه، إضافة إلى أن كتبه ودواوينه السابقة أصلا قد اختفت غالبيتها من الأسواق، فمنها ما تجده غاليا وبشكل نادر، ولقد عرف عن البردوني أنه كان يدعم مؤلفاته ويطبع منها الكثير، ليحصل عليها الجمهور بسهولة تامة وبشكل رخيص جدا. أما الآن فكأن هناك تغييباً ومحوا متعمدا من أجل إبادة إرثه الثقافي الهام. المؤسف كذلك أن منزله مازال رهنا لصراعات الإرث والأسرة بدلاً من تحويله لمتحف ثقافي كما ادعت الحكومة بذلك سابقا، خصوصا وأنه ثبت مؤخرا أن المنزل كان باسم البردوني ولم يكن باسم أحد، والواضح أن هناك في النظام اليوم من يفضلون عدم حسم هذا الأمر وإبقاءه عالقا. ومن غير اللائق بحقنا جميعا كيمنيين أن تظل شخصيات نافذة في هذا النظام هي من تحوز وتستأثر على مؤلفات البردوني الأخيرة بشكل مجحف ودنيء. إنها جريمة مروعة بحقه وبالذاكرة الثقافية اليمنية عموماً.
على أنه البردوني الذي لا يشابه أبدا، وهو المتأصل في أيامنا القادمات، كما من الصعب محاكاته، بل إنه كان أكثر عطاء وتنوعا وتميزا في كل المجالات التي أبدع فيها، لأنه المؤرخ والناقد والمفكر، وليس الشاعر فقط، رغم أنه المجدد الاستثنائي الفاعل داخل الشكل الكلاسيكي للقصيدة، وهو المأهول بالتفرد الساطع والمثير في عرش الروح الجمعية، فيما ستبقى له أهمية ثقافية قصوى في الضمير الجمعي اليمني بالتأكيد، ليس لأنه صوت خاص فقط، وصاحب مزاج خصوصي جدا، في الفكرة والإبداع والموقف، بل بصفته المدرك الجليل والرائي الثاقب والفنان الإنسانوي الفذ الذي جُبل من طينة صعبة، وتجرع المرارات رافضاً بكل شجاعة وتهكم أية مساومات مع كائنات الخراب والاستلاب
.
> أخيرا.. ما الذي يشغل فتحي أبو النصر أكثر من أي شيء آخر في بلده عن بلده؟
– يعتريني العواء يا صديقي.. صدقني، يعتريني ذئب الأحلام المرجأة.
–
المنجز هو اللامنجز!
فتحي أبو النصر
(رؤيتي لقصيدة النثر )
- * فجأة وجدتني فيها كما فجأة اكتشفتها داخلي.
- *نمارس معا ضدية الضد ونتخلق.
- *المشاغل النقدية تجاهها لازالت متخلفة إلا فيما ندر وفي مجمله مازال النقد مصابا بفوبيا قصيدة النثر. (..)استثني بالطبع تلك المجهودات الفريدة والمائزة اليقدمها -على سبيل المثال- كل من محمد العباس و حاتم الصكر.
- “تسفك قصيدة النثر جراحات المعنى وتداويه وهي للانفصام وللرجاء العصبي كما لفردسات الجحيم ولعدم الشفقة وللمكابدة كما للون الحليب في فم الرضيع ولانهداد الشفق في نظرات العشاق.
- * هكذا أراهن عليها ومهولا من حبي لها فأنني العنها.
- *تفسح قصيدة النثر مجالا لتحققات الذات ولاترتاح في المرتقى ويمكنها أن تحيا في الممات أيضا.
- * من فكرة اللافكرة تبدأ وتبدأ لافكرة الفكرة صغيرة ثم تنفرط كرة الخيط ولافتتها الدائمة غزل الذات ونسجها.
- * إنها جانب السلب في الإيجاب وايجابية السلب. تقوى على تحريك الساكن وكلما نبشتنا وكشفتنا أكثر كانت الأفضل.
- *كمن يؤطر غصته بالريح أرى إلى منجزي فيما الضحك من مفردة منجز يتملكني لان قصيدة النثر كما افهمها ضد المنجزيات أساسا
- * نعم. سأخون نفسي إن طالبت بنظام للفوضى فيما مرة حاولت أن أكون عقلانيا فتيقنت أن قصيدة النثر غير عقلانية أبدا.
- فقط يتوجب الهدم من اجل المواصلة فلاثوابت كتابية ولاعقائد مبرمجة سلفا وهذا هو اللب ما اعرفه وماعلمتني إياه قصيدة النثر.
- * رائعة و علوية وسافلة ومتسخة ومحظوظة بخذلان. تحتمل كل شيء ولا يحتملها أحد.
- * كلما اقتربت لاترى وكلما ابتعدت لمست .
- *كل شيء تم بالنسبة لها وكل شيء لايزال. بلهاء مستخفة ومضاءة بهالة من موسيقى الازرقاق السري.
- *لاتروض إلا بالخشية فيخشى منها شاعرها حتى ولسوف تلتهم كل شيء فيما ستبقى ذلك الرضيع الجميل..لها دقة اللاوعي ووعي اللااتجاه.
(رؤيتي لقصيدة النثر )
فجأة وجدتني فيها كما فجأة اكتشفتها داخلي.
عبرها أستطيع الإمساك بي حين عني أضيع ومعها فقط أكون أرافقني تماما.
تطهو لي أبعادي فأشربها كإكسير.
في الزحام تكون وحيدتي والجميع نيام يمكنها أن توقظني أيضا.
نمارس معا ضدية الضد ونتخلق.
أقيمها بلا تحديد.أي بانبساطها فقط.هذا الانبساط يحوي الطلاقة والإصرار وبالغ الإغواء والاندفاع.
المشاغل النقدية تجاهها لازالت متخلفة إلا فيما ندر وفي مجمله مازال النقد مصابا بفوبيا قصيدة النثر. انه ضد فتوحاتها في الغالب.يتقاعس في ولوج أدغال جماليتها المتقدمة وكما يمتلك أقفاصا لإذعان حريتها فانه المخلص للمكرورات مستعيدا بخبث لجماليات بائدة منعدمة النهوض ألان.
إنها الذائقة النقدية المخبولة اليعاني وعيها من القحط والمغاير يستفزها.استثني بالطبع تلك المجهودات الفريدة والمائزة اليقدمها -على سبيل المثال- كل من محمد العباس و حاتم الصكر.
أطروحاتهما الاستقرائية لقصيدة النثر مجبولة إذ لا تسهو عن الجديد المتحفز كما تطلق العنان لفتنته مدعومة برقي الحس و النضج المعرفي وشكيمة الاقتحام.
فيما قصيدة النثر جديرة بهذه الحياة أو لأقل أن الحياة جديرة بها.لكن شاعرها مهووس وبقدر ماهو في القوة بقدر ماهو في الذعر.
تسفك قصيدة النثر جراحات المعنى وتداويه وهي للانفصام وللرجاء العصبي كما لفردسات الجحيم ولعدم الشفقة وللمكابدة كما للون الحليب في فم الرضيع ولانهداد الشفق في نظرات العشاق.
إنها لاتعني بالتسميات فنحن من عنينا بتسميتها.لي أن أسميها صيادة العمق أو ثمرة الشعرية البشرية لكني بذلك سوف أعمل ضدي و ضدها.
نعم.لندعها كما هي أي باستطاعتها الخلاقة الخاصة فلا نأبه لمقذوفات النقد السيئة في الغالب ولا بالتسميات ولنكتب فقط.اقصد ولندع قصيدة النثر تكتبنا.
هكذا أراهن عليها ومهولا من حبي لها فأنني العنها.
أحبها لأنها تغوص أعمقا فأعمق والعنها لأنها غير مسقوفة ولا حدا لها فيما لاترحم وطأة اندفاع شاعرها فيها.
إنها تتسلط عليه.تعلقه من ياقة مخيلته وتقذفه إلى شهق أبعادها وأسرع فأسرع يظل لايصل.
ترى هل في هذا تكمن عظمتها وهي الرجيمة؟.
إنني اشعر بلمسة جمرتها ألان صارخا في صمتي وأنا اكتب عنها بينما يأخذني مجرى الهلع الرائع.
إنني خدر بشفافيتها اللاذعة وارجف لكنها وحدها العناء الذي يقلل من عنائي وكل التداعي المتساقط من حولي يعاود علوه كحلم وأنا في سبيلها.
إنها فوضوية نبيلة فلندعها في رقتها تلك.غير رسمية وغير جامدة.ترفض و تخفق وتحقق نزواتنا وعبثيتنا وعدم تمهلنا في استكناه الخلاص.
تفسح قصيدة النثر مجالا لتحققات الذات ولاترتاح في المرتقى ويمكنها أن تحيا في الممات أيضا.
تأخذ بيد تاريخ اللحظة وتستوي على عرش الزمن.توقظها الجزئيات و تنام على الكليات.
لكأن تفاصيلها هي الأكوان وهي بذلك سعادتي غير النسبية التي تمكنني من التمشي في طول الإدراك وعرضه.
من فكرة اللافكرة تبدأ وتبدأ لافكرة الفكرة صغيرة ثم تنفرط كرة الخيط ولافتتها الدائمة غزل الذات ونسجها.
إنها جانب السلب في الإيجاب وايجابية السلب. تقوى على تحريك الساكن وكلما نبشتنا وكشفتنا أكثر كانت الأفضل.
كمن يؤطر غصته بالريح أرى إلى منجزي فيما الضحك من مفردة منجز يتملكني لان قصيدة النثر كما افهمها ضد المنجزيات أساسا ذلك أن منجز شاعرها الذي يتوجب هو الذي لم ينجز بعد.
اقصد اللامنجز كتحقق مباح وحقيقي للإنجاز.اللامنجز كاستمرار لايحصى في الإنجاز. اللامنجز كاقتحام لما لازال محصنا من الإنجاز. اللامنجز كهواء مفتوح بلا غطاء الإنجاز. اللامنجز كضراوة باهرة لاجتراح الإنجاز.
نعم. سأخون نفسي إن طالبت بنظام للفوضى فيما مرة حاولت أن أكون عقلانيا فتيقنت أن قصيدة النثر غير عقلانية أبدا.
فقط يتوجب الهدم من اجل المواصلة فلاثوابت كتابية ولاعقائد مبرمجة سلفا وهذا هو اللب ما اعرفه وماعلمتني إياه قصيدة النثر.
وفيما الاستهتار باليقينيات والمروق صيغتان لن تجعلنا نشك بنا تأتي قصيدة النثر اشد بهجة حين حزنها يشتد وهي شديدة الوجع جراء حنانها الشديد.
رائعة و علوية وسافلة ومتسخة ومحظوظة بخذلان. تحتمل كل شيء ولا يحتملها أحد.
كلما اقتربت لاترى وكلما ابتعدت لمست.
بارعة المزاج غير بائتة الحس تترنح وتمتع و كذلك هو خارجها يأتي داخلها حين تلقي بنفسها داخل الخارج دائما.
إنها المطلق دون تنقيح إذ ينبثق من شوائب النسبي.الوحشة الأثيرية والغروب شروقا كحب وحطام الشروق في الغروب أيضا. عارية ترتدينا وصيغتها الذهاب في الأصل.
كل شيء تم بالنسبة لها وكل شيء لايزال. بلهاء مستخفة ومضاءة بهالة من موسيقى الازرقاق السري.
إنها اللقطة المستدقة للمخفي وللمجهول في الكائنات والأشياء وبالأمس حضرت للغد وبالغد ستحضر للأمس وبالآن ستصالحهما معا فيصفق الزمن لضياعه الأنيق بين جروفها.
يقرأها الجميع ولا يقرؤنها ففيها الاكتفاء وفيها الماقبل.
لاتروض إلا بالخشية فيخشى منها شاعرها حتى ولسوف تلتهم كل شيء فيما ستبقى ذلك الرضيع الجميل.
لها دقة اللاوعي ووعي اللااتجاه.
ثاقبة ونافذة.
ملآى بالفراغ وفارغة بالامتلاء.
عاجزة وتستطيع.
تتلوى نسيانا وآهاتها الذاكرة.
شاحبة توهجنا.
متناقضة جدا وتضبطنا بثبات الكينونة.
مقيمة في اللاجدوى وعابرة في الزوال.
تتغذى على اللحم النيئ لشاعرها.
تتعدى الإشكال وبحيوية تتجاوز.
مثل ملاك غير ممجد هي ومثل شيطان غير مخذول.
بيتي سخريتها و شعرها المنكوش مظهري في العدم ونظراتها القاسية والحزينة ضميري ورأسها الشامخ إصابتي المنكسة في الوجود.
متواضعة لاتنسلخ عن كبريائها وتجس اليأس أملا.
انفعالية بلا تقاديس.
بريئة فاسقة.لاتبلى وتترك علاماتها أولا بأول.
إنها معجزة الغموض ببساطة وضوحها.عليك أن تحددها كأنك تحدد التصاقك بذاتك كيما تتضمن فيك بثبات.
مجنونة غير مهلهلة ومصونة بلا نشاز.
عزيزة على كثير من معاناة شاعرها ووحدها من تقبر أضرحته إذ يبتسم
مخبولة فائرة تلقي نظرة أخيرة على النظرة الأخيرة.
لاتداهن وإنما تفضح.
أسلوبها اللا أسلوبي لايقاوم.
تستفز المكرور وفي أحشائها معبد للشياطين الذي يخبئون في قلوبهم ملائكة حائرين.
كأنها المحرقة الجماعية للذات وهي الجديرة الوحيدة بإنقاذ هذه الذات من الذات و بالذات فقط.
ليست رتيبة و تتجدد باستمرار.
خلاقة جذابة نضطر للاعتراف بين يديها غير منفصلين عنا ومنفردة وحشية تحيط باللغز ومن المستحيل إرضاؤها.
اليوم تقف قصيدة النثر على فرادة الساحة بتركيبها الماورائي الحاذق.
فيما في أعماق كل الأعماق تكمن قصيدة النثر. حالمة ساخطة مباغتة على الدوام.متألقة المرونة.تسدد حساب الذات للذات و لبلوغ القادم تكابد.القادم الذي هو عنوانها الديمومي.
قصائد ونصوص من المجموعة الثانية “موسيقى. .طعنتني من الخلف” 2008
فتحي أبو النصر
1
لاحاجة لي لضحكاتكم
أنا أكثر من أن ابكي
تحت جلدي تنام ذئبة ولا تحلم
من الآن وصاعداً لن اهتم بالإنسان
سأهتم بالحيوان فقط
ذنوبي ستستضيفني
سأكتب للكلاب المسعورة آخر قصائدي
آن الأوان لأسحق الزمن أيضاً
سأسخر من النجوم والتهم ظلي المعاق
سأوخز ضمير الغيمة لأنها بلا ضمير
كل ليلة سأدوسني سبع مرات
عند بوابة غرفتي لن أنسى أن ادلل النمل والعب الغميضة مع الفئران
ومن النافذة سأرمي بكل أغاني فيروز
سأغزو عماي ..
ساستمتع بنكهة الرطوبة داخلي
سأسري في ارتعاشة بعيدة
سأدوس الأعشاب التي كنت أدللها
لن اطمئن سوى لشهوتي
سأفزع تفاهة الإسفلت والمقاهي ولن ألوح للعابرين
سأتحسسني بلا عطر في الضغينة وسأترقرق وانداح بلا كوابح في لعناتكم
ولأنني سأحتفي بفنائي:
لن استمع لموسيقى المخبول ياني بعد الآن
فيما المأثورات التي مرغتني في الوحل 12ساعة كاملة سأحرقها بلا شك
نوازعُ هيجل
قزحيات اناييس نن
النيران اللطيفة لبول تسيلان
أعراف انطو نين ارثو
موضوعية كازانتزاكيس
السن الناعم لجان دمو
شراك بوذا
غرائز محمد شكري
و..
سآطاردني في جناح ذبابة جائعة
سأحدث براميل القمامة عن روعة أن يكون الشاعر نتناً
كالوحش سأنشب مخالبي في لحمي
سأمنح التشرد فتات القلب
سأكف عن الأهل والخيال
سأمارس الجنس مع الشحاتات الصغيرات منحازاً إلى الأعداء
آه من الذين لم يدركوا حنان القسوة بعد
لي عينان بلا عشق
روح بلا جنسية لاتتنازل عن مطارقها وعراك منطق تلطخ بحيلة مكشرة
حد الإعياء لن أخسرني ..
أنا نهاية البراءة مهووساً
لن يعنيني مطر يتساقط في الخارج ولن يهمني “حس رقيق ”
كل الاتفاقيات المبرمة بينكم وبيني سأنقضها
سأمجد الدمامل
سأطفئ الرومانسية في المنفضة
سأعين كراهيتكم ضدي
لن اعتذر لرضيع دسته البارحة
سأسرح للخنافس هيامها وللصراصير سأعد كؤوس الشاي
سأكون أكثر بهجة وأنا أقرأ قصائدي على الحنفيات الناشفة ووجنات الغبار
..صديقي العاشق الذي كاد أن يختنق بتناهيده قبل قليل طردته من رحمتي
وكل ما أستطيعه الآن
أن أتذكر لحناً قديماً و أصفره بدون سبب!
2
“سيموت كثيراً “..
سيموت متعثراً بجثته
سيموت ليس حائراً
سيموت في رؤياه
سيموت بترف كالهواجس
سيموت عمودياً وأفقياً
سيموت بالقرب من ضحكة عينيه المنتصبتين.
سيموت كجملة مختصرة.سيموت قبل مطلع النهار وبعد مغيب الشمس بقليل .سيموت قادما .سيموت ناعماً وبقسوة سيموت وهو ينحر الأغنية بينما ينتحر فيه المغني .سيموت كممر .سيموت أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً وسادساً وسابعاً .
سيموت من الخلف ومن الأمام أيضاً
سيموت بعد بكاء أصابعه على مصير العمى في باقة الورد الأخيرة .
سيموت عارياً ..
سيموت معي
سيموت قرب الرائحة
سيموت بلا اسمه
سيموت بالشهقة الحمراء
سيموت في الشمال
سيموت في الجنوب .
سيموت وهو يغوي قصيدة جديدة.سيموت شارداً.سيموت قبل أن ينظف الغبار من حنجرة مواعيده القادمة.سيموت صوب الشبق تماما.سيموت بلاغيمة تحت أجفانه وبلا حنطة في اليد اليسرى. سيموت هنا .سيموت هناك.
سيموت ضاحكاً ..
سيموت كفأس منسي وحزين
سيموت وهو لم يصالح الإطارات بعد
سيموت بلا أسلاف أو أحفاد
سيموت من اجل كل الذي لم يعرفه
سيموت في الأسرار المقشرة
سيموت كدودة قز أحيانا وأحيانا كما سيجارة أو مخلب.
3
مخيلتي تصطك..
صورٌ تجمعني مع كائناتٍ لا أعرفها.
أنفلتُ في غيابي،
وكنتُ وجدتُ القصيدةَ في برميلَ قمامةٍ،
فتشنجتُ في ضجري وسخرتُ مني..
وتعددتْ أشكالُها في سيرتي.
لَكَمْ أريدُ أن ألتهمَ النجمةَ التي تحرسُ القمرَ الآن.
كل شيءٍ طليقٌ في أنفاسي،
فماذا يعملُ رسول حمزاتوف في جيبِ قميصي المعلقِ
ولمن أرفعُ هذه الكأس،
وما الذي يرتابُ بي هكذا؟
على الدوامِ يحضرُ حنيني،
وخسارتي أقوى من أي نجاح.
أنا فتحي أبو النصر..
أحيانًا أكونُ فأرًا لطيفًا وأحيانًا أكونُ تنينًا
أو نورسًا أو دولفينًا أو كنغرًا
أو كلبًا مقصوصَ الذيل،
لكنني فتحي (ابن زعفران) الذي ينصبُ لنفسهِ الكمائن.
يعرفني الجُندُ وخطباءُ المساجدِ
والشحاذون والموسيقيون
والأصدقاءُ الخاسرون والشعراءُ
إذ يبكونَ فيدركونَ ما هو المعنى.
أنا الذي أسعلُ الآنَ.. صدقوني أحبكم.
داخلي وخارجي أحبّ؛
مغمضًا ومحدقًا في الغرباءِ الكثيفين
في العزلةِ وكلامِ المقهى
عندما يطلبون مني التأويلَ أو يمارسون النميمةَ عليّ
بمكرٍ يشبهُ براءتي في القصيدةِ- وقتَ أركّبُ لها أجنحةً
لتحطَّ على صدورِ مَن سيغدرون بها-
يمكنني أن أحبَّ أيضًا
بوعيٍ وبلا وعي
بلا سببٍ وبنتائجَ كثيرةٍ
بلا تباهٍ
وكوليدٍ يموتُ أو كميّتٍ يلِد
حين أجوعُ وحين أخافُ
كما ندمٍ أو كطفلٍ يجري ويتعثر
كما ضوءٍ أعزلَ أو بسمةٍ مغلقةٍ على نفسها
مع ورودِ الحديقةِ ووردِ المزهريةِ الذابلِ
في الحُمّى وحين أتناولُ الأسبرين
في نومي وحين أحاولُ أن أنامَ فلا أستطيع
بمنظرِ البالوناتِ والطائراتِ الورقيةِ
وبمنظرِ المسافرينَ حين يلوِّحون
بساديةٍ وبمازوشية
بهدوءٍ وباندفاعٍ وبأنانيةٍ وبسموٍّ
مع كرسيٍّ وحيدٍ وفي زحامِ الشوارع
بعقيدةٍ وبدونها
بكفرٍ وبإيمانٍ
بكلماتِ بوذا الأخيرةِ، ومتتبعًا لأخبارِ الحروب
في مذاقِ الولائمِ كما في الخبزِ الجاف
في صوتِ الأذانِ وبدونِ دليلٍ في صوتِ المؤجر
في الشائعةِ المنتشرةِ وفي الصمت
مع الكتبِ القديمةِ وفي “الماسينجر”
حينَ أعرفُ بأنني لا أعرفُ
وفي شؤونِ الميتافيزيقا ضدَّ الديكتاتورِ
ومع عدمِ التزامي بالوطنِ وبالشعب
في تقديمي للعزاءاتِ وحينَ أمارسُ الاستمناء.
بإحساسٍ وبدونِ إحساسٍ
بلهفةٍ وبشراسةٍ وبشفقةٍ وببكاءٍ
حينَ أصحو في السادسةِ صباحًا وحينَ أقررُ النومَ لأيامٍ
بإفلاسي وحينَ أضاعفُ من شراءِ كروتِ التعبئةِ للموبايل
عندما أتمعّنُ في الخرائبِ أو أنجو في الرقصةِ التالية
كعجلةٍ لكلِّ القطاراتٍ وعندما أصلُ متأخرًا كعادتي
بشكلٍ معقدٍ وبمثابرةٍ على العطاءِ وبيأسٍ فادحٍ
حينَ أتذكرُ تاريخَ اليومِ أو أنسى أيامَ الأسبوع
بكلِّ أزمةِ الحضارةِ الحديثةِ وبسلاسةِ طفلٍ بدائيّ أرعنُ في بسمته.
متوترًا وخائفًا وشفافًا
أجدُ الحبَّ داخلي..
ويمكنني على الدوامِ أن أجدَهُ على بعدِ عشرةِ أمتارٍ أيضًا
أنا نظرتُكم السريةُ إليكم.
الدروبُ بناتي والسحرةُ أبنائي
ووحشةٌ وثنيةٌ تمكّنني من هذه السعادةِ الغريبةِ.
أحببتُ مرةً لوحةً تشكيليةً
ومرةً حافلةً عامةً
ومرةً طشتَ غسيلٍ
ومرةً شجرةَ زيزفونَ
ومرةً غرفةً على السطح
وأنا مصابٌ في كاحلي يمكنني أن أعبُرَ الوحلَ بحبّ
وحينَ أسجنُ نفسي إلى نفسي أتحررُ مني بحبّ
وعندما يصفعني جنديٌّ في مظاهرةٍ يمكنني أن أردَّها له بحبّ.
مثل اللهِ المتعبِ مثلي ليس لي إلا أن أحبّ.
روح الجدع
فتحي أبو النصر
الإهداء إلى الشاعر المصري الكبير أسامة حداد
فجأة، الهاتف يرّن بصوت القاهرة، يحمل صدى النيل، وأعماق الحارات المبتلة بأحلام لا تنام.
الشاعر الكبير أسامة حداد على الطرف الآخر، صوته مليء بالشغف والأسئلة التي تلامس عظام الروح.
بين كل كلمة وأخرى، كان يرمي أسامة في هواء عدن قطعة من قلبه، يسألني عن قصيدة النثر، عن الملعونين أمثالنا، عن الحالمين.
“أين تنتهي القصيدة وتبدأ الحكاية؟” يسألني بنبرة جدية،
وأنا، كعادتي، أضحك في داخلي وأجيبه:
“يا أسامة، نحن لا نكتب القصيدة، القصيدة تكتبنا.
هي روحنا المغذاة بالحب والجنون، بالعطر المتصاعد من طين الأرض، بالأمل المعلق بين سماءين.
نحن الشعراء، لا نهرب منها، بل نجعلها تلاحقنا حتى آخر نفس.”
أسامة يهز رأسه، وإن كنت لا أراه، لكني أشعر بذلك.
“يا صديقي، أريد قصيدة تختلط بالسرد كما تختلط الحكايات في ليالي الشتاء،
قصيدة تنتمي لروح الجدع الذي يشبهنا؛
الذي يجمعنا نحن الملاعين،
نحن الهائمين في فضاء الكلمات والحلم.”
كان أسامة يسألني عن الديوان العدني كأنه أم.. والديوان العدني قصائد نثر مغذاة بالسرد
صمت قليلاً، ثم كتبت:
“إلى كل شاعر، الجدع هو نحن… هو أنت، هو أنا،
هو كل من يحترق ليضيء عالمًا صغيرًا،
هو ذلك الذي يهيم بلا خريطة،
يبحث عن الحب في الأزقة،
ويزرع أحلامه بين النجوم التي لا تغيب.”
أسامة ضحك أخيرا وقال:
“تماما، هذه روحنا المشتركة،
وهذه هي قصيدتنا،
التي لن تنتهي أبدا.”