في سطور

محمد أنعم غالب.. الشاعر اليمني الريادي المجهول

الشاعر محمد أنعم غالب (انزياحات)
الشاعر محمد أنعم غالب (انزياحات)

شهدت القصيدة العربية تموجات شتى في الانتقال من النمط الكلاسيكي، مروراً بالنمط الحر، فقصيدة النثر. ومنذ أكثر من نصف قرن على الانعطافة الشعرية المتمثلة بالشعر الحر، ثمة أسماء مهمة توزعت بين العراق وسوريا ولبنان ومصر كان لها شرف الريادة والخوض في الجديد وكسر النسق المعتاد. غير أن أحداً ربما لا يتوقع أن شاعراً يمنياً كان له صوته الخاص في خضم خمسينيات القرن الماضي، هو الراحل المنسي، محمد أنعم غالب “الصليحي”، الذي كتب قصائد ذات نبرة خصوصية خارج مزاج الشعر الكلاسيكي السائد حينها..

يقول الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح في كتابة من “البيت إلى القصيدة –دراسة في الشعر اليمني الجديد”(دار الآداب 1983”): “ان أنعم بدأ رحلته الجديدة مع الشعر في مطلع الخمسينيات والقصيدة الأولى في ديوانه وعنوانها “عند الغسق” تومئ إلى التاريخ 1951 ولم يكن قد مضى على ابتداع هذا النوع من الشعر في بغداد سوى ثلاثة أعوام، وهي فترة قصيرة تؤكد قدرة الشاعر على التقاط صوت الابتكار والدخول في لحظة الريادة في وقت مبكر.
كما تكشف عن إحساس فطري لتقبل النغمة الجديدة والمشاركة في توسيع دائرتها الموسيقية والوصول عبر الفيافي إلى صنعاء التي لم تكن قد أجادت الاستماع إلى القصيدة المستحدثة”.

في أيار/مايو 1998 أقدمت صحيفة “البريد الأدبي” اليمنية المحلية قبل توقفها، وبإشراف ومبادرة من رئيس تحريرها الشاعر عبد الودود سيف، على نشر عدد من قصائد محمد أنعم غالب غير المنشورة تحت عنوان “الساعة السابعة صباحاً” إضافة إلى محاولة التعريف به وبدوره الريادي في تحديث القصيدة اليمنية حيث يعد “مؤسسها” بدون منازع. حينها تساءل الشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي الذي عاش لفترة طويلة في اليمن بالقول: لعل ما يثير التساؤل عن عدم معرفة الأوساط الثقافية العربية لنتاج هذا الشاعر المهم ولدوره التأسيسي في القصيدة العربية الحديثة رغم انه بدأ تجربته في أواخر النصف الثاني من الأربعينيات وتوفرت له كل أسباب الانتشار فهو شخصية سياسية بارزة تقلدت عدة مناصب وزارية وديبلوماسية (في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات).

فما سبب عزوفه عن الشهرة الشعرية؟ بل ما سبب تجاهل النقاد لدوره الريادي؟ أتراه وضع الشعر جانباً لكثرة انشغالاته الوظيفية؟ فجعل من الشعر هواية لا يسعى من ورائها سوى إلى بث مكنونات ذاته في ساعات الوحشة؟ أم انه يشعر بعدم الرضا على ما قدم وهو إحساس يخامر جميع الشعراء وبنسب متفاوتة؟ علماً ان ما قدمه يكفي لجعل اسمه مكتوبا على “يافطة” كبيرة تتصدر حركة الحداثة الشعرية العربية من خلال نصوصه المنشورة في البريد الأدبي التي يرجع أقدمها تتصدر حركة الحداثة الشعرية العربية من خلال نصوصه المنشورة في البريد الأدبي التي يرجع أقدمها إلى عام 1952.

الحاصل أن الديوان الوحيد للراحل سيظل راسخا في وجدان الأجيال رغم النكران الكبير الذي تعرض له والتعمية المقصودة لأدواره من قبل مراكز الهيمنة والنفوذ التقليدية، يعود الديوان إلى عام 1973 وعنوانه “غريب على الطريق” وقد نشره آنذاك اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بمناسبة انعقاد مؤتمره العام الأول. وتميز الشاعر انعم غالب بكونه من الشعراء المقلين، فضلاً عن كونه من المهمومين بشكل أكبر بشؤون التحديث الاقتصادي والتعليمي للجمهورية الوليدة.

ويؤكد الناقد اليمني عبد الودود سيف: “قليلون الذين قرأوا محمد انعم غالب وأقل منهم الذين عرفوا دوره في الشعر اليمني المعاصر عامة، وفي تطويره وتحديثه بوجه خاص”. ويضيف: يبدو أن هناك أسباباً عديدة كرست قطيعتنا “بأنعم” حالت أن يظل خارج دائرة الضوء بحيث لم نحسن فهمه ولم نقو على فهم دوره وأفضت إلى قلة عدد قرائه وفي مقدمة هذه الأسباب تواضع انعم المفرط.

ومجمل قصائد انعم تحكي عن تغريبة اليمني وهجراته التاريخية بفعل ظروف الاستبداد السياسي:

فراقنا طويل
فارقت بيتنا القديم
يقوم فوق تل
وحوله نمت شجيرات “النشم”
وفوق سطحه رصت “قصص” للزهر والريحان
ورتبت مقاعد من الحجر
وعرشت سقيفة وارفة الظلال
تدور في أرجائها “كركرة المداعة”
وعبق البخور
فارقته ولم أزل صغير
ورحلتي تطول
والأخبار لا تسر
الموت يخطف الأحباب
والبن ينفض الأوراق
أعواده تجف، والدخان
يكاد أن يجف من مداخن البيوت
ولم يعد يطرق بابنا ضيوف
وكل عام
أقول لن يطول هذا البين
لكنني مازلت احزم المتاع
لرحلة جديدة
أقول: لن تطول رحلتي
ولن يكون راحلون آخرون
لكن: رسالة بائسة حزينة
تقول أن رحلة جديدة
ينوي بها قريب
الخبز قل
وقد تطول رحلتي
قد لا أعود
والصغار.. آه لو لم يكن لنا صغار
فلتحفظهم السماء
إن الفراق مر.
(“غريب على الطريق” ص27)

على أن اكثر ما يلفت في تجربة أنعم غالب، الذي رحل في ديسمبر 2008 انه كتب القصيدة الحرة من دون العبور إلى ذلك من جسر القصيدة العمودية. بينما الشكل الذي تبناه تراوح بين شكل قصيدة النثر وشكل القصيدة التفعيلية. بل انه سعى إلى مخالفة ما سعت إليه نازك الملائكة حينئذ- بتعبير سيف؛ الذي يشير إلى أن انعم لم يتأثر بأحد، ولا أثر في أحد، وذلك على خلاف من تلاه من الشعراء اليمنيين المجددين.

ومن ناحيته يؤكد المؤرخ عبد الباري طاهر “بأن أنعم نجم، بل علم من أعلام الثقافة والفكر والإبداع، فهو إنسان متعدد المواهب، وهو من رواد وصناع التجربة الشعرية الحديثة، كما هو من دعاة الحرية والفكر العلمي باكراً”. كذلك هو محسوب على اليسار بالمعنى العام، وهو أيضاً رائد من رواد التعليم فقد تبوأ أوائل الستينيات منصب نائب عميد كلية بلقيس في عدن وهي المدرسة الحديثة التي تبناها ودعا إليها رائد الاتجاه الليبرالي احمد محمد نعمان ابرز زعماء حركة الأحرار اليمنيين ضد الحكم الإمامي ومثلت الكلية الاتجاه الأكثر نضجاً وتقدمية في اتجاه الحركة الوطنية للخلاص من العهد الإمامي وقتها.

والشاهد أن صيت انعم ذاع شمالاً وجنوباً، كونه من رواد التحديث، فهو من مواليد محافظة تعز “جنوب غرب” في 15 مارس 1932، بينما له نسب عريق كما يشير طاهر بآل الصليحي –زعماء الدولة الإسماعيلية التي وحدت اليمن لعدة عقود.

وبحسب المقالح فإنه “الشاعر الذي حاول ذات يوم مع بداية الخمسينيات أن يخترق واقع شعرنا المثقل بالتقاليد وان يضع أولى لبنات التجاوز”.

وكان انعم حصل على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة العام 1957، كما نال الماجستير في الاقتصاد في جامعة تكساس العام 1960. تزوج من ابنة المفكر السعودي عبد الله القصيمي الذي عرفه في القاهرة ونشأت بينهما علاقة فريدة من الثقة والاحترام المتبادل. وبعد اندلاع ثورة سبتمبر ضد الحكم الإمامي وقيام الجمهورية العام 1962 تولى أنعم عدة مناصب مرموقة في الستينيات والسبعينيات أبرزها وزير التعليم ووزير الاقتصاد ووزير الاعلام. وفي نفس الوقت اصطدم وبشدة مع بقايا القوى المتخلفة والرجعية داخل قوى الثورة نفسها حتى تمت مضايقته مراراً، كما وأقصي أكثر من مرة.

ومن المهم التذكير باعتراف عبد العزيز المقالح الوارد في كتابه سابق الذكر، والذي جاء فيه: كنت منذ بداية الستينيات حين بدأت محاولاتي في كتابة القصيدة الجديدة متردداً في الدخول إلى هذه التجربة، إلا أن محمد انعم غالب كان دليلي الأقوى إلى تجاوز التردد واختيار الجديد الشعري بشكل صارم وحاسم. ولن يغيب عن ذاكرتي ذلك اليوم في مقهى ريش بالقاهرة في عام 1936، وكنت قد ودعته في صنعاء حزيناً متألماً وأيقنت أن ذلك الألم لابد أن يثمر عملاً أدبياً يرتفع إلى مستوى التعبير عنه، وحين سألته عن حصاد ذلك الظرف الحزين قدم إليّ قصيدة الشمس الأخرى ساخنة الحروف، وهي تمثل الصدمة التي لم يكن يتوقعها في محاولاته التحديثية بعد الثورة:

النجمة في كفي بلا لمعان
هوت النجمة والنور خبا
ضاع السحر
ماذا يبقى في الأفق
بعد أفول النجم
بعد خبو النور
والنجمة في كفي
ميتة لا ومض لها
لا نبض
اغلق شباكك
في وجه الأفق الشرقي
فالزهرة عادت عمياء
بلا عينين.. بلا ومضٍ
والشمس جريحة
الدم غطى النور
و”علي” حل وثاق الزورق
يمم غرباً
عاد يفتش عن شمس اخرى.ص ٥١

من ديوان الوحيد
“غريب على الطريق”