كان فيصل ورفاقه يؤمنون ان أي تغيير في الشمال يخدم الجنوب، وكان فيصل على رأس الذين وجهوا عديد حركيين من أبناء الجنوب للدفاع عن الثورة في الشمال بمجرد اندلاعها.”.
أثناء العدوان الثلاثي على مصر كان أحد المتطوعين من الطلاب اليمنيين في المقاومة الشعبية ببور سعيد.”.
ألف فيصل بالمشاركة مع قحطان الشعبي أول رئيس لجنوب اليمن بعد الاستقلال كتيباً هاماً بعنوان «اتحاد الامارات المزيف» كشف فيه مخططات الاستعمار الرامية لإنشاء دولة اتحاد الجنوب العربي’.
يحكي الفنان القدير محمد محسن عطروس صاحب اشهر اغنية قاومت الاستعمار حينها «برع يا استعمار من أرض الاحرار» أنه كتبها بإيعاز خاص وحثيث من فيصل الذي طلبه الى القاهرة بهذا الخصوص”.
الحركي الاول، والقائد الفذ: كان وحدوياً وتوفيقياً ناضجاً ، قاوم ضغط يمين الجبهة ويسارها، وكان يتوخى الإعتدال الفكري في مساره السياسي.
تتملكني غصة لاذعة ونشوة قصوى وأنا اكتب عن فيصل عبداللطيف الشعبي: دماء كثيرة أريقت لمكافحين تاريخيين حالمين ومؤثرين كان يعول عليهم جداً في إحداث نقلة معتبرة في الوعي السياسي للبلد، والسبب: مواقف متطرفة بين رفاق الدرب الواحد اضافة الى عدم إمعان العقل في اختلافاتهم، بينما الحل لمشكلات اليمن لا يكمن أبداً في الاقصاء والعنف.
يعد فيصل عبداللطيف واحداً من أهم الأسماء الريادية الفذة في الكفاح الوطني تعتز بهم الاجيال تماماً. ذهب ضحية للفهم الخاطئ، وفي مرحلة كان الصخب فيها عالياً للأسف. غير أنه لايمكن القفز على التاريخ بالطبع، أو حتى الاحتيال عليه با
ختيار ما يسوغ تحيزاتنا، بل إنه يجب عند استدعاء وقائع التاريخ عدم التحيز على الاطلاق، مع وجوب إنصاف الضحايا بالضرورة، وتقدير ادوارهم الخالدة التي تم نسيانها أو تحييدها.
***
ولد فيصل في وادي شعب الصبيحة العام 39، تلقى تعليمه في مدرسة جبل حديد بمستعمرة عدن، انتقل إلى المدرسة المحسنية في لحج، حتى أكمل الاعدادية فيها، وتم ابتعاثه من سلطنة العبادل اللحجية الى القاهرة، وهناك حصل على البكالوريوس في التجارة والاقتصاد. وبمجرد عودته عمل سكرتيرا لوزير التجارة «حكومة الاتحاد الفدرالي للجنوب العربي» عام 59.
كان والده الشيخ عبداللطيف عبدالقوي ناصر الشعبي من الشخصيات الاجتماعية المعروفة في منطقته، المنطقة التي انجبت لليمن خيارها -كما نعرف- في السياسة والفكر والوطنية. درس والد فيصل في الهند وتركيا، وكان له مساع اصلاحية وتنويرية أيضاً. كانت منطقة شعب جزءاً من اليمن الشمالي عقب انسحاب الاتراك من اليمن في 1919 واستمرت كذلك حتى 1933 أي الى قبل ان يولد فيصل بسنوات. عانت المنطقة من نظام الرهائن الذي اتبعه الأمام ولم يستطع الأهالي التعايش مع سلطته فقاوموا ببسالة ودارت معارك ضارية حتى تحررهم. لكن عبد اللطيف الشعبي اغتيل في ظروف ملتبسة وفيصل صغيراً. وبالتأكيد اثر غياب الأب لاحقاً في حياة فيصل الذي انتهج ذات التنوير الذي انتهجه والده لتضعه الأقدار كي يكون بطل الاستقلال الاستثنائي.
***
كانت الفترة التي قضاها فيصل في مصر هي الأكثر عمقاً في حياته. ويتفق جميع من عرفوه بأنه كان يتمتع بنباهة قوية وبراعة خلابة وقدرة استثنائية في التفكير السياسي. وفي مصر الخمسينيات انخرط في تنظيم حركة القوميين العرب، كما تألق كقائد سياسي جسور فيه، مؤمناً بقضية التحرر من الاستعمار والاستبداد.
هناك كانت شقته خلية نحل للحركيين من عديد بلدان عربية يمارسون فيها قراءاتهم التثقيفية ومناقشة همومهم القومية الواحدة. ولقد ازداد نجم الشاب اليمني الالمعي المتحمس سطوعاً بين رفاقه حينها، كما أنه أثناء العدوان الثلاثي على مصر كان أحد المتطوعين من الطلاب اليمنيين في المقاومة الشعبية ببور سعيد.
عند عودته سرعان ما أسس فرعاً لحركة القوميين العرب في اليمن والجزيرة العربية، وبشكل خاص كانت مهمته الإعداد لثورة الجنوب. لكنه قبل ذلك كان تردد لهذا الغرض على مدينة عدن أثناء العطلات الصيفية، بينما كان يختار اصلب العناصر وأكثرها نضجاً في الوعي السياسي.
***
إنه الحركي الاول والقائد الفذ، في حين ان ابرز قادة الخلايا الأولى للحركة في اقليم اليمن هو من قام بتنظيمهم. كذلك كان فيصل بارعاً في الاستقطاب والتأثير. ولم يكن ديماغوجيا مغلقاً، بقدر ما كان منفتحاً ويثقف نفسه على عديد قراءات فكرية وسياسية متنوعة.
كان وحدوياً ناضجاً. وعلى مستوى الحركة التي دعمت عديد بلدان عربية في ثوراتها انذاك كان فيصل زعيماً عربياً لا يمنياً فقط.كل المنتمين للحركة الدارسين في مصر من ابناء الشمال والجنوب على السواء كانوا بتطلعات واحدة، ومن رفاق مرحلة فيصل الأولى على سبيل المثال: يحيى عبدالرحمن الإرياني وعبدالحافظ قائد وسلطان احمد عمر.
بحكم حلمهم الواحد اصطدم الحركيون العرب تلك الفترة بالانفصال السوري المصري الذي كان قد تملك شغاف قلوبهم نحو الوحدة العربية الكبرى.
كان فيصل ورفاقه يؤمنون ان أي تغيير في الشمال يخدم الجنوب، وكان فيصل على رأس الذين وجهوا عديد حركيين من أبناء الجنوب للدفاع عن الثورة في الشمال بمجرد اندلاعها.
برز فيصل نوعي النباهة تكتيكياً واستراتيجياً ، وشديد الولاء لليمن الحر الموحد وللوطن العربي الحر الموحد. فيما كان هو الحامل الاساس للمشروع النهضوي القومي إلى اليمن والجزيرة العربية حيث امتد نشاطه الحركي الرائد الى عدة بلدان خليجية كالبحرين والكويت.
ألف فيصل بالمشاركة مع قحطان الشعبي أول رئيس لجنوب اليمن بعد الاستقلال كتيباً هاماً بعنوان «اتحاد الامارات المزيف» كشف فيه مخططات الاستعمار الرامية لإنشاء دولة اتحاد الجنوب العربي، واصبح الكتيب واحداً من الكتب التثقيفية الذي اعتمدته قيادة حركة القوميين العرب على كل فروعها.
والثابت ان فيصل عبد اللطيف الشعبي هو رجل الحركة السياسي والتنظيمي الذي كان الاقوى في اليمن، كان النقد سمته الثقافية لا الانقياد المحض، كما كانت له طريقته الديناميكية في استيعاب الوقائع من عدة زوايا انسانية ووطنية وتاريخية وجغرافية ونضالية ماجعله شخصية مرنة غاية في التفهم وراسخة المبدأ في الوقت ذاته.
***
ترأس فيصل قيادة حركة القوميين العرب في الجنوب إذ ترأس قيادتها في الشمال سلطان أحمد عمر، وعندما اندمجت المرتبتان القياديتيان في قيادة موحدة لإقليم اليمن كانت القيادة لفيصل والنائب سلطان.
على ان معظم رفاق فيصل في الحركة والجبهة كانوا يعتبرونه قائدهم الاول رغم فارق السن في مستوى الزعامة لصالح قحطان مثلاً الذي كان أول قائد أعلى في الجنوب بعد الاستقلال «رئيس الجمهورية» إذ كان يتميز بشخصيته الحازمة والعناد والتعامل بأبوية مع الآخرين اضافة الى سياساته التي وصفت بالمحافظة رغم كونه اشتراكياً معتدلاً.
يكبر قحطان فيصل بسنوات وكان والد فيصل الشيخ عبد اللطيف هو من كفله بالرعاية إذ ولد يتيماً. كما تزوج قحطان الشقيقة الوحيدة لفيصل، وكان درس في جبل حديد، ثم في السودان الذي كان يرزح حينئذٍ تحت الاحتلال البريطاني، وفي السودان مارس العمل السياسي فقاد المظاهرات ووزع المنشورات المعادية للاحتلال البريطاني للسودان وتعرض جراء ذلك للاعتقال والضرب مراراً. على انه تخرج كمنهدس زراعي، كما عين في عدن ضابطاً زراعياً بدرجة رفيعة. ويعد قحطان الى جانب فيصل أهم من لعبوا الدور التحضيري الابرز لثورة الجنوب في مراحل الإعداد الأولى.
كان قحطان لاجئاً في القاهرة بعد ان فر من عدن عبر لحج وتعز إثر اكتشاف البريطانيين لنشاطه وكان في الرابطة، وفي القاهرة انضم إلى حركة القوميين العرب على يد فيصل، بعد الانفصال من الرابطة جراء انحرافها عن المبادئ والاهداف القومية واحيائها الدعوة الانفصالية القديمة التي كانت تهدف لإقامة دولة مستقلة بعدن والإمارات ليست يمنية الهوية.
***
كان قحطان يتحمل العبء الذي لايمكن انكاره ايضا في التحضير لثورة الجنوب ، بينما كان يدير الحوارات والمشاورات من مصر رفقة فيصل بمجرد اندلاع الثورة في الشمال ضد الامامة لإقناع عبدالناصر واعلان جبهة قومية تتصدى للكفاح المسلح ضد الاستعمار .
وفي فبراير 63 عادا الى صنعاء حيث انعقد لقاء عام برئاسة قحطان، حضره مئات الشخصيات من أبناء الجنوب من مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم تحت اشراف حركة القوميين العرب وحزب الشعب الاشتراكي، حيث نتج عنه تشكيل لجنة تحضيرية برئاسة قحطان الذي صار له نفوذا اجتماعيا واسعاً من أجل قيادة الكفاح لتحرير الجنوب المحتل، واتفق الجميع على تشكيل جبهة مسلحة، كما عُين قحطان بضغط من الحركيين مستشاراً للرئيس عبدالله السلال لشؤون الجنوب اليمني المحتل.
وللانصاف فقد تحمل قحطان “مع زميل كفاحه ناصر السقاف وعلى مسؤوليتهما الشخصية كتابة ونشر البيان الأول للجبهة القومية، وحينئذ أصدر فيصل بياناً باسم فرع الحركة يبارك ما جاء ببيان الجبهة، وقام قحطان بتمويل قافلة إغاثة للمقاتلين بردفان الذين كانت القوات البريطانية قد نجحت في محاصرتهم وذلك في يناير 1964”
بعدها والعمل التحرري على قدم وساق انتقل بطل ثورة الرابع عشر من أكتوبر الى تعز لفتح مكتب لثوار الجنوب بعد موافقة عبدالناصر، رغم تعنت وتلكؤ غير مبررين من ضباط المخابرات المصرية حينها على فكرة افتتاح المكتب، ولقد كان المصريون بيروقراطيون لا يحبذون أن يكون هناك مكتب خاص بالجبهة ، وأن مكتبهم يتسع للجميع. كان المصريون يتحفظون وهم يرون زخم الشباب الدافق معتبرين عدم وجود مبرر لفتح ملفين لقضية واحدة (ثورة الجنوب)، ملف لديهم وآخر في مكتب الجبهة القومية. يمكن القول تحديدا انه كان لديهم تصوراتهم وحساسيتهم السياسية والاستخبارية الخاصة إزاء ذلك على ضوء أمن مصر القومي في اليمن وباب المندب وعلى ضوء الحرب الباردة والهيمنة السعودية . صحيح انه رغم اهميتهم الكبرى وتضحياتهم التي لاتوصف في المساندة الثورية لليمنيين شمالا وجنوبا الا ان قبضتهم كما اتضح كانت لاتريد للقرار الداخلي ان يكون أكثر استقلالية، وبالتالي انفلاتا . لكن قحطان وفيصل رفضا مقترح المصريين المماطل في تعز، وفتحت الجبهة مكتبها بتأييد شعبي واسع . فيما حضر اجتماع تأسيس الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل في يونيو 1964عشرات رموز وزعامات قبلية واجتماعية شمالاً وجنوباً.
عقبها تفرغ فيصل عبداللطيف للكفاح المسلح في عدن . وعندما انكشف عاد إلى تعز وتعين بعده في قيادة جبهة عدن نور الدين قاسم “أستشهد في 1973 فيما عرف بطائرة الدبلوماسيين “ثم عبدالفتاح اسماعيل.
والشاهد ان الجبهة خاضت ملاحم مشهودة في الارياف والمدن وبالذات عدن. فلقد جابهت كل عملاء السلاطين والاستعمار وقدمت تضحيات كبيرة من الشهداء والمعتقلين والجرحى الذين صنعوا النصر. بينما كانت طليعة الشعب الجنوبي عن حقيقة وفعل ومبدأ بعيدا عن الانتهازية واستغلال الاحداث او تحولاتها لاحقاً.
***
عموماً ثمة مشاكل عرضية وجوهرية حدثت خلال تلك المرحلة قادت الى تباينات حادة بحسب ظروف التباس علاقة الرفاق حينها بين مصر والاتحاد السوفيتي ولاحقاً الحزب اللبناني الشيوعي والصين و نائف حواتمة من ناحية، اضافة الى عبء المتواطئين مع السلاطين والاستخبارات البريطانية داخل الجبهة كذلك.
أول ثمار هذه المشاكل العرضية والجوهرية قرار الدمج القسري للجبهة القومية مع منظمة التحرير الطارئة في الكفاح المسلح ، بتاريخ 13يناير 66 في كيان واحد أطلق عليه (جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل) وفقاً لرغبات المخابرات المصرية التي كانت تسيطر على المنظمة تماماً. وبما ان فيصل وقحطان من أبرز قيادات الجبهة القومية الذين رفضوا مشروع الدمج، فقد اقتيد فيصل بسبب موقفه إلى مقر جهاز المخابرات المصرية بتعز بعد ان اعتقله جيش التحرير الشعبي ثم نقل إلى القاهرة، وهناك ظل يتشبث بما راكمته الجبهة القومية في الواقع ماجعله تحت الإقامة الجبرية “اي الاحتجاز “بمعية قحطان الشعبي وآخرين من قادة الجبهة القومية الرافضين لمشروع الدمج.”حيث قضى 9 شهور لفيصل وسنة ونصف لقحطان”.
وقتذاك كتب وأصدر فيصل كتيبات أخرى اندثرت بسبب المصادرة والمنع الذي طالها عقب رحيله رغم اهميتها التدوينية كـ«أضواء على الثورة في جنوب اليمن المحتل» و«مؤتمر لندن للخيانة». و«كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية» شاركه في تأليفه كل من:علي عبدالعليم، عبدالفتاح اسماعيل وخالد عبدالعزيز.
وتذكيراً ، يحكي الفنان القدير محمد محسن عطروس صاحب اشهر اغنية قاومت الاستعمار حينها «برع يا استعمار من أرض الاحرار» أنه كتبها بإيعاز خاص وحثيث من فيصل الذي طلبه الى القاهرة بهذا الخصوص.
ولقد تمكن فيصل حينها بمساعدة حركة القوميين العرب من الإفلات والسفر إلى بيروت ومنها عاد لليمن. والمؤكد انه بعودته تعززت الجبهة الداخلية للجبهة اكثر وركزت ضرباتها، فيما كانت الجماهير في الجنوب تتظاهر يومياً لتأييد الجبهة القومية كممثل وحيد لتطلعاتها، ما خلخل ممارسات خصوم الجبهة على أكثر من صعيد عسكري وسياسي وتنظيمي.
****
عقب هزيمة العرب في 5 يونيو 67 كادت تنتكس نفسية فيصل عبداللطيف الشعبي، الا أنه بعد اسبوعين فقط ساهم بشدة في انتفاضة طلاب مدرسة الأمن بمساندة ضباط وجنود الأمن والجيش على قوات الاستعمار بحيث خاضوا معارك شرسة بقيادته أسفرت عن الاستيلاء على مدينة كريتر.
وما لم يكن في الحسبان انفجار الاقتتال الأهلي قبيل الاستقلال بين شريكي الكفاح الجبهة القومية ومنظمة التحرير خلال 3-6نوفمبر. وفي 6نوفمبر أعلن الجيش العربي في القوات البريطانية ولاءه للجبهة القومية. ثم في 13 نوفمبر اعلنت بريطانيا استعدادها للتفاوض حول استقلال الجنوب العربي مع الجبهة القومية كممثل وحيد للشعب.
شكلت القيادة العامة للجبهة القومية وفداً برئاسة أمينها العام قحطان للسفر إلى جنيف للتفاوض بشأن الاستقلال، وكان أبرز اعضاء الوفد الى جانبه بشهادة البريطانيين فيصل وعبدالفتاح وسيف الضالعي، بينما ضم كل من خالد محمد عبدالعزيز، ومحمد أحمد البيشي، والعقيد عبدالله صالح عولقي، وعبدالله عقبة (مترجماً)، واحمد علي مسعد (سكرتيراً) إلى جانب هيئة استشارية في مختلف المجالات، ضمت المقدم حسين المنهلي، محمد احمد عقبة، المقدم محمد أحمد السياري، د. محمد عمر الحبشي، ملكة عبداللاه أحمد. أبوبكر سالم قطي، عادل خليفة.
امتدت المفاوضات من 21الى 29 نوفمبر1967 حتى وقع الجانبان على وثيقة الاستقلال. وفي صبيحة اليوم التالي أصدرت القيادة العامة للجبهة قراراً بتعيين أمينها العام رئيساً للجمهورية وقائدا أعلى للقوات المسلحة، كما كلفته بتشكيل حكومة الدولة المستقلة: تولى فيصل عبداللطيف وزارة التجارة والاقتصاد والتخطيط فيها، ثم في 5 ابريل 1969 تولى رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية.
***
انتقل الجنوب اليمني من حكم السلاطين والاستعمار البريطاني إلى مرحلة جديدة لكن للأسف لم تكن بقدر التطلعات والتضحيات الجسام، إذ كانت النوايا لإنشاء تنظيم جماهيري يقود الشعب في مرحلة البناء القادمة، وسرعان ما تفجرت الاختلافات بين رفاق الجبهة حول ماهيته وماهية الدولة، وأساليب إدارتها، وتحديد منهجها وسياستها الخارجية، ما قاد الى انشقاق الجبهة إلى جناحين، كما هو معروف، أحدهما يدعو إلى ضرورة تغيير جذري وسريع في الحكم، قاده عبدالفتاح إسماعيل، سلطان أحمد عمر، عبدالله الاشطل، عبدالله الخامري، وسالمين، علي صالح عباد، ومحمد علي هيثم. وآخر يدعو إلى تغيير تدريجي متريث على رأسه، قحطان، سيف الضالعي، أحمد صالح الشاعر، وعلي عبدالعليم.
بذل فيصل الذي صار بنفوذ تنظيمي وتنظيري واسع دوراً كبيراً لحل الخلاف. وكان مع درء الحس المؤامراتي التدميري، وعدم القبول بتحريضات الرفاق ضد بعضهم.
كانت طبيعة فيصل ضد الاعمال المنفردة، وضد الانجرار الى مواقف لا يرضاها كل طرف.
كان ضد العداء المباشر للدول وللجيران تحديداً لأن هذه العداوات لا تنم عن سياسية وديبلوماسية ووعي بالتاريخ وبالجغرافيا، كما أنها لن تصب في المصلحة العليا والمستقبلية للدولة الوليدة.
وفي تلك الفترة تحملت حكومته ما لم يكن في حسبان موازنتها وخططها، حيث عالج فيصل بروح رفاقية ووحدوية عالية أوضاع الحركيين الذين نزحوا لعدن وغيرهم هرباً من بطش نظام 5 نوفمبر وعقب احداث اغسطس الدامية في صنعاء، لكنه تحسس للغاية تلك الفترة أيضاً من عدم دعوته وقادة جنوبيين في حركة القوميين للمشاركة في تاسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، إذ كان الرفاق وضعوا الحزب بديلا لفرع حركة القوميين العرب اقليم اليمن -هكذا بدت الصورة له- بينما تنظيم فرع الحركة تنظيم واحد وقيادته واحدة ووحدوية شمالاً وجنوباً.!
***
الثابت ان فيصل كان انموذجاً رفيعاً كانسان وكقائد إذ كان زاهداً عن السلطة كما يجمع كل من عرفوه، كذلك كان اعتداده بذاته جزءاً رئيساً من كرامته التي لا يساوم بها ولا يمكن يخضعها للابتزاز أو الاساءات. غير ان الاقدار وضعته على راس عملية بناء وإدارة الدولة الجديدة، وبالتالي في خضم حساسيات ايديولوجية عارمة انطوت عليها المرحلة.
كان الرجل اشتراكياً معتدلاً ، وكان يقاوم ضغط يمين الجبهة القومية وضغط يسار الجبهة في وقت واحد، ولقد كان كل منهما يريد فرض سياسته عليه وعلى المرحلة وعلى المستقبل. تفسيري الشخصي ان تكوينه الراجح الوسطي العقلاني هو السبب وليس كما قد يعتقد احدهم انه ربما ليس رجل مواقف.فالمعلوم ان عديد قياديين تلك الفترة من الجهتين اصابتهم حساسيات الزعامة والمغامرات اللامحسوبة، اضافة الى امراض العشائرية التي تورط فيها كل طرف بوعي أو بدون وعي، حتى ان قلة من الساسة حينها فقط كانوا اكثر تبصرا وبروح وفاقية وبحس سياسي اخلاقي على راسهم-بل اكثرهم تميزاً- فيصل عبد اللطيف.
كان فيصل يسعى بمرونة فائقة نحو الوحدة والوفاق والاجماع مولياً اهمية سياسية قصوى للحوار، كما كان لا يريد ان يفاجأ بمواقف ورهانات غير محسوبة تتخذ ويحشر فيها حشرا.
واصل التعبير عن اعتقاده الخاص ولم ينظر الى الاختلاف من ناحية شخصية وانما من ناحية سياسية وفكرية موضوعية كما هي عادته حسب اجماع غالبية من عرفوه.
كان يمسك العصا من المنتصف ولا يريد للمخاطرات ان تنبش مخالبها وأنيابها في الجميع. ومن الطبيعي القول ان هناك من كان يؤجج الوضع حتى خرج عن السيطرة، إذ بينما كان فيصل يترسخ لدى الجميع كضامن للم الصدع بصفته محافظا على المسافة اللائقة التي رآها مناسبة له من كل طرف: ازداد الانشقاق بين الرفاق، لتنكشف الاحتكاكات السيئة بين الجناحين، وصولا إلى المصادمات المسلحة التي تفاقمت ذورتها في 22يونيو 1969.
***
اعتقل فيصل وهو بكامل مجده، ولم يكن أحد يتوقع اعدامه ابداً. بينما ظل قحطان رهن الاعتقال لسنوات.لكنها السابقة الخطيرة التي فتحت شلال الدم والأسى.
في الحقيقة لم يكن فيصل عبداللطيف على الإطلاق متواطئاً مع الرجعيين كما كانوا يصنفون آنذاك بل كان يتوخى الاعتدال الفكري في مساره السياسي محافظاً على عدم الانجرار وراء منطق التعميمات.
صحيح ان السياسة التي كانت تدار بها الدولة اعتباطية في مرحلة التكون، إلا ان رؤى اعتباطية بالمقابل كانت تعتقد امكانية التغيير الفوري الى نتيجة حتمية أفضل بمراحل، وهذا هراء لا شك، خصوصاً في ظل التخلف المتراكم، والنزاعات التي يثيرها المتضررون من الثورة نفسها، فضلاً عن تربصات دول مجاورة مؤثرة في المشهد، ما سيحمل الدولة الجديدة تبعات وتوترات كان فيصل يرى امكانية تجنبها الآن على الأقل، أو حتى يتفق الجميع على الخطوة التالية بنضوج متماسك بدلاً من مخاطر التشدد الأيديولوجي.. وبس.
والحاصل ان ذلك النزاع كان جزءاً من تنافس أكبر بين التيارين ليس من البساطة تحجيمه بالذات مع نوايا الاستئثار ما بين الميكافيلية والمثالية.
على ان الأزمة التي اودت بحياة فيصل الشعبي وعمره لم يتجاوز 34عاماً قادت الى أزمات أخرى أكثر حدة وماساوية للأسف.
***
كان لفيصل عديد مقترحات توفيقية لم يستوعبها احد كما ينبغي. كان له وجهة نظر مثلما كان لمن يناوئونه من الطرفين وجهتي نظرهما أيضاً. لكنها الدوافع البشرية كما هو معلوم تقودنا الى حماقات مرعبة، وهي وحدها كدوافع بشرية يحدث ان تجعلنا نرتقي عن الاخفاقات ونسمو عن السير مرة اخرى في اي طريق له ان يؤدي لها مجدداً.”هذا مايجب”
ويقول التاريخ العربي -اليمني بالذات- أنه في عصر السلطة يحدث ان يتخلى سياسيون عن مثالياتهم التي كانوا ينادون بها خصوصاً إذا لم يضبطوا امزجتهم على المسؤولية النوعية الملقاة على عاتقهم مايعني استغلال النفوذ بشكل خاطئ. كذلك فإن الشمولية في الجنوب والشمال على حد سواء استنفذت طاقة الشعب والدولة كثيراً طوال عقود ما بعد الثورتين. لكن بالتدريج يعتذر القادة الكبار عن اخطائهم بدافع تجاوز مثل تلك التجارب القاسية وهذا ما اثبته قادة في الحزب الاشتراكي لاحقاً خصوصاً بعد طامة 86، عبر النقد الذاتي وتقييم التجربة دون دوغمائية وبشجاعة رفيعة كما دون مغالاة او تعصب. فيما تتجلى المفارقة حين نرى من يندبون مصير الفقيد الكبيرفيصل عبداللطيف مخالفين لمبدئه الوطني أساساً.
وفي السياق لنا ان نلاحظ في تاريخ الحزب الاشتراكي أو عبر المكونات التنظيمية التي تأسس منها في الشمال والجنوب كيف همدت الخيلاء والتهور لدى قادته رويداً رويداً حتى تكثفت غاية الحزب تماماً في التزام وحيد تمثل في الديمقراطية والشراكة وحلم الدولة المدنية في المواطنة والحريات والانفتاح، وهذا التطور يحسب له.
***
إن فقدان الحركة الوطنية في اليمن مبكراً لفيصل عبداللطيف الشعبي فقدان لا يعوض؛ ما بالكم وقد اثبتت الايام انه لم يكن مخطئاً في أغلب تصوراته الثاقبة والحكيمة والنوعية. ثم ان المجتمعات المحترمة لم تتخلص من أزماتها البنيوية العميقة إلا بعد استيعابها لقيمة عدالة الانصاف والتسامح والتصالح، فالتاريخ مرايا الشعوب للايجابيات والسلبيات، وذاكرة التاريخ للعبر بحلوها ومرها.
ولئن كان فيصل عبداللطيف وسيظل بمثابة بطل خالد ودرس قيمي واخلاقي يستوعب، فإن ما تعرض له والرئيس قحطان في تلك الحقبة الضارية وصمة عار كبيرة في جبين من لا يزال غير شاعر بها.
الخلاصة ان الاحلام العظيمة تحتاج الى مناهج راجحة لا الى مجرد احتمالات غير موضوعية وغير حيوية بالغة التهور، إذ كما نعرف لم يستفق الرفاق على حقيقة ماحصل الا مع صدمة تفاقم الخسارات الفادحة التي لم يتوقعها احد.
***
لعلنا في هذا البروفايل السريع عن شخصية خصوصية كفيصل عبد الطيف الشعبي نبدي “قلقنا وحزننا-لاشك- من نتائج الأمور الاقصائية الضارية التي كانت سائدة فيما مضى بينما لاتزال الى اليوم تلقي بتأثيرها على الحركة الوطنية للأسف .والمعنى انه يجب علينا جميعاً الإيمان التام بأن “مرحلة المكاشفة والإنصاف للشخصيات العظيمة التي ظلت منسية أو مهملة هي مرحلة مهمة من تطور المجتمع، عبر تقدم الوعي السياسي للنخبة بالذات” ضداً من التضليل والحجب وسوء التقدير الذي مازال قائماً على نحو غير مشرف ضد عديد شخصيات كبيرة في تاريخ اليمن المعاصر..