في سطور

حين يحين استحضار الأستاذ عبدالله البردوني

الأستاذ عبدالله البردوني
الأستاذ عبدالله البردوني (بعدسة عبدالرحمن الغابري)
الفانوس

حين يشتد التخلف باسم الدين لا أروع من استحضار الأستاذ عبدالله البردوني في رؤيته لإشكالية الحكم في بدايات التاريخ الإسلامي؛ وكذا في اليمن منذ مابعد الاسلام.

ذلك أن ولاء البردوني وهو يحفر عميقاً في نوائب تلك المراحل كان للإنسان وللحب وللوطن؛ أي لروح الشعب ولطموحاته بالكرامة والقرار والمشاركة الديمقراطية.

وبما ان مشاريع التطرف السني والشيعي هي وباء المنطقة فإن استحضار البردوني في هذا السياق يعني السير في الطريق العقلاني الصحيح، طريق السياسة لا طريق الدماء والأشلاء باسم الدين.

ولعل ماحدث و يحدث في اليمن من اضطرامات للمشاريع ماقبل الوطنية كان ومازال بسبب فشل تخلق المشروع الوطني الكبير.

كذلك فإن البردوني بما قاله أدناه يستكشف على نحو مكثف “منابع التطرف والتغلب” التي ابتلينا بها واستمرت كجائحة مهجوسة استغلت الدين لممارسة القيم الإقصائية وشيطنة الآخر واستدامة العنف وتنمية العنف المضاد، فضلاً عن الإصرار البدائي الرهيب على عصبية عدم التعايش مايؤدي إلى زوال الدول وتخريب المجتمعات.

أولاً يقول سيدنا البردوني عن الصراع المبكر الناشب في قريش وتداعياته في كتابه القيم “أشتات” :

ويمكن أن تكون “القريشيتان” أصدق مثل على الصراع بين قبيل واحد انقسم إلى معسكرين ثم معسكرات حتى ولدت النبوة من “هاشم” استكانت “أمية” موقتاً لتستفيق “ليلة الدار” على ثأر “عثمان” ولم تكن القضية ثأراً في ذلك الحين وإنما ذريعة لوصول “أمية” إلى الحكم، ومن ذلك الحين عُرف ما يسمى “قميص عثمان” وأصبحت للحكم دعاية موجهة ودعاية معاكسة، فحين حكم الأمويون كان الهاشميون وأتباعهم يندّدون بجور “آل مروان” لأنهم وصلوا إلى الملك “العضوض”بحيلة السياسة وقوة السيف ونخوة الجاهلية، وكان “آل مروان” يدّعون عراقتهم في العرب وينشرون الدعاة عن حزمهم وكرمهم، وانتهى “بنو أمية” على أيدي “بني العباس”وأتباعهم بعد انقسام قريش إلى “سفيانية” و”علوية” ثم “مروانية” و”حسينية” ثم “زبيرية” و”مختارية” وكل هذه نخرت كيان أمية حتى سقط علم دمشق، وعندما حكم العباسيون لم يتخلصوا من عيوب “آل مروان”لأن المهم عندهم هو انتقال الملك لا تغيير أشكاله وأساسياته !

بل كان العباسيون أكثر ترفاً وأكثر إفحاشاً في الثراء؛ لأن الحكم ألهاهم عن استماع نقد الآخرين وإن كانوا يلاحظون ظواهره من بادرة إلى أخرى، فقد قامت دولة “بني العباس” على أساس الثأر “لآل علي” كما قامت دولة “بني مروان” على ادعاء الثأر لدم “عثمان”لهذا كان “العلويون” أول المعارضين لبني عمهم “العباس” لأنهم قاموا باسمهم ووصلوا إلى الحكم عن خديعتهم

وكان “آل علي”يقولون في العباسيين من التجريح نفس ما قالوه في “الأمويين” من وصفهم بالطغيان وتضييع مال الشعب في مصالحهم ورغائبهم، لكن لم تكن “للعلويين” شوكة قوية يغلبون بها “بني العباس” المؤزرين بالفرس الذين ظلوا يحترقون بالحقد على الفاتح الغلاب.

وكان آل مروان ينزعون عن الاعتزاز العربي فيستصغرون من شأن غير العرب بوصفهم “أعاجم”وكان الصوت الآخر، صوت الشعب مكبوتاً عن الارتفاع أيام “الأمويين” و”العباسيين” معاً

فقد استمر الصراع بين “الهاشميين” و”الأمويين” ثم بين “الهاشميين” من علويين وعباسيين

أما الشعب فكان تابعاً للمنتصر، لاعناً للمنهزم دون أن يكون له رأي عام في الحكم لأن المحكوم كانت عليه الطاعة وليس له حق السؤال

إلا أن الشعب كان يعبّر عن توتره في شعر أو نكتة أو أغنية أو غضبة صارخة تنقطع أنفاسها مع رقبة صاحبها كما حُكي؛ خطب ” أبوجعفر المنصور” فقال: أيها الناس، لقد كفاكم الله الطاعون الذي اجتاح البلاد ببركتنا: فبرز له رجل من أقصى المسجد وقال: ” ليس من عدل الله أن يجمع بين الطاعون والمنصور..!!”

***

ثانياً يقول مولانا البردوني عن حيثيات الصراع الذي نشب في اليمن لاحقاً ” في كتابه القيم ” قضايا يمنية”:

وابتدأ الإمام الهادي يقاتل القبيلة المتمردة بالقبيلة الطيعة، وكان أتباع الهادي يشكلون عدداً كبيراً من (خولان الشام وصعدة ويام والوافدين من طبرستان حيث كان الحكم هناك زيدياً)، كما كان (الدعام بن ابراهيم) يشكل عدداً كبيراً من همدان وماحولها في وجه الهادي، وكان اليعفريون يشكلون جيشاً بنفس القوة من(كوكبان وشبام) وكان علي بن الفضل في جنوب الشمال يقاتل بأتباعه مذهبياً لانسبياً، كسائر الولاة من الباطنية، وكان القتال بنفس السلاح خيولاً وسيوفاً ورماحاً، والقوة البشرية أحسم عامل لأي موقف، وقد تمادت الحروب في هذه المناطق أطول الفترات لغلبة ميول العشائر الشمالية إلى الحرب أينما شبت أكثر من ميولها إلى حرث الأرض وزراعتها كالمناطق الوسطى التي تؤثر السلام لكي تعمل آمنة. غير أن تلك العشائر الحربية كانت تحقق من الغنائم والمصالح أكثر مما تحقق بالمحراث والمنجل.
فكان السيف : المزارع والحصاد، وكان الإمام أو الملك أو السلطان أعجز من أن يكون جيشاً منظماً لحسم الموقف، لأنه سوف يواجه نفس الطبيعة العسكرية، فأدى التشابه بين أتباع الإمام المَبايَع وبين أتباع المحافظين على السلطة إلى طول الاشتباك بدون جدوى، وبعد موت الهادي تمت لابنه البيعة من الأتباع وابتدأ نفس الميدان الدموي، واستمرت نفس الظروف الحربية على نفس ذلك الشكل، حتى جاء الصليحيون آخر القرن العاشر فأضافوا جبهة ثالثة، فتمادت الحروب بين الصليحيين والعلويين من جهة، وبين النجاحيين والصليحيين من جهة أخرى (..) وبعد انتهاء الصليحيين والنجاحيين بسقوط الخلافتين المتعارضتين الفاطمية والعباسية في بغداد والقاهرة، قامت الزعامات اليمنية المتوالية على نفس الطرائق، بين المتشبث والطامع، وبين الإمام القائم وبين الإمام الذي يريد القيام، وبين دولة بني رسول حليفة الايوبيين ومحاربة الأئمة بالشمال.

ولعل أكثر الحروب تنظيماً هي حروب الطاهريين والعلويين، لأنها لم تعد بين قبيلة وقبيلة في منطقة واحدة وإنما بين المناطق الوسطى والشمالية، وعندما انتهت هذه الفترة بوصول المماليك المصريين لصد البرتغاليين اختلف جوهر الحرب وأرديتها : فكانت بين اليمنيين والمماليك والبرتغال، إلا أن خروج المماليك كان سبباً في دخول الأتراك.وقد استقبل اليمنيون الأسلحة التركية بدهشة أشد من المدافع البرتغالية (..) فلم تكد العساكر التركية تستقر حتى ابتدع اليمنيون أسلوب العصابات والمباغتات، وبرغم نظام الجيش التركي وتكتيكه أقعده العجز عن التصرف، فاعتمد على تأييد إمام في وجه إمام، أو تسليط رئيس عشيرة على رئيس عشيرة أخرى (..) حتى اضطر الغزو الأول إلى الرحيل مفقود الانضباط كثير الخسائر (..) إلا أن عهد الأتراك وماسبقه من عهود انسحبت على مرحلة الاستقلال الأول نتيجة الطامحين إلى السلطة وكثرة الخارجين على من وصل إليها، وكان للإمام القائم قبيلة تحميه، ولكل إمام خارج قبيلة تدفعه، وكان كل واحد يستصفي مجموعة كبيرة أو صغيرة من رؤساء العشائر، يدعون عشائرهم إلى نصرته(..)

ومع أن الغالبية الكبرى أميل إلى العافية والاستقرار إلا أنهم كانوا يمارسون الحروب مرغمين بقدرة التحريض أو بقدرة الترغيب، أو تشعلها قلة من المتمصلحين فتدخلها الكثرة إما من قبيل العدوى أو من قبيل الدفاع عن النفس أو من جهة تحقيق الوجود، وكان العامل الاقتصادي يسود كل هذه العوامل، فتندفع الجماعات كلما لوحت شعلة من جبل أو دقت طبول في وادٍ حسب التقاليد الحربية في الأرياف، لأن الفوضى لم تكن طبيعة اجتماعية في اليمنيين، ولم تكن الحرب غير المبدئية في دخائل النفوس، إلا أن الشخصيات الاجتماعية والمنتفعة كانت تتقن أساليب التهييج أو تفاجئ بافتعال الحرب، لان المنتفعين بتعدد الأئمة وتسليط بعضهم على بعض كانوا مجموعات صغيرة من كل قبيلة (..) وبفعل هؤلاء المحرضين في كل زمن، تراق الدماء بدون هدف جماعي (..) ولقد جاء الأتراك في الحملة الثانية بنفس أساليب الحملة الأولى (..) وبدلا من أن يكونوا خلاصاً من صراع الأئمة كما أمّل اليمنيون كانوا أشد من الحروب على الإمامة..صحيح انه كان يمتاز والٍ عن والٍ، إلا أن مساعي الممتاز الثاني كانت تسقط في ركام المفسد الأول.. وهكذا